أصناف القلوب
ذ. عبد الواحد مستعديل
نشر بمجلة النــداء التربـوي، العدد 16-17، السنة العاشرة 1429 هـ-2008،
الصفحات من 155 إلى 158
تقديــــم:
يحدثنا علم الأحياء – البيولوجيا- عن “القلب”، فيصفه بالقطعة من اللحم الصنوبري المودعة في الجانب الأيسر من صدر الكائن البشري، باطنها فيه تجويف يحوي دما هو منبع الحياة. ويشّبهه بمضخة ماصة كابسة، تستجلب الدم من الأوردة وتضخه في الشرايين. ويصف دوره العجيب، فهو في حركة دؤوبة ودائمة، ما بقي الإنسان حيا، فهو الذي يدق، يدق في النوم مثل ما يدق في اليقظة، وفي المرض مثل ما في الصحة. هذه الدقة تعني أن هذا الجهاز العجيب يقوم بوظيفته الكبرى للإبقاء على حياة الإنسان. هذا ” القلب” ودورته الدموية يوحدان الجسم ويربطانه برباط واحد بواسطة هذا الدم السائل.. فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
يحدثنا القرآن الكريم عن”لطيفة ربانية روحانية بنفس الاسم، لها بهذا القلب الجسماني تعلّقٌ”1، من ذلك قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب…)سورة ق الآية 37، وقوله: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)سور الحج الآية:44. فيقرر أنها مركز الوعي والإدراك والفهم العميق. بل هي حقيقة الإنسان كما يستفاد من كلام النبي عليه الصلاة والسلام: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” 2 والأعمال مردّها إلى القلب أيضا.
أهمية الباب و تسميته:
ابتداء من هذا العدد، تفتح مجلة النداء التربوي بابا يعنى بالحديث عن هذه اللطيفة الربانية، وذلك لكونها نقطة ارتكاز التربية، والقاعدة التي يستند إليها الكيان البشري ويترابط عن طريقها، إن صلاحا فصلاح و إن فسادا ففساد، يشخّص ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله: “ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”3 ويقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه له: “القلب هو الأصل فإذا كان فيه معرفة وإرادة، سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب”4. فهــو إذن المدبـر لجميع الجـوارح وهو المطــاع المخـدوم من جميع الأعضاء.
منْحى الإسلام في هذه التربية، أن يعقد هذا القلب صلة دائمة ومتنامية مع الله، في كل لحظة وكل عمل وكل فكرة وكل شعور، فيسموَ الإنسان في علاقته بمن حوله من بشر وحيوان ونبات و”جماد” وماء وهواء…، ويفيض على هذه الكائنات بروحه الشفافة، الرقيقة، الرفيقة، الحانية إذ تربطه بهم أخوة الخلق والمصير والتسخير، فكُلّهم من الله وإليه راجعون، وجمعتهم في الدنيا قسمة الله بينهم:
(ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضا سخريا)سورة الزخرف الآية: 31. فتبكي لفراقه، إن كان يمشي فيها بالإصلاح، أو لا تحفل به، إن كان على عكس من ذلك. وهو المستفاد من قوله عز وجل بعد إغراق فرعون وجنده في اليم: (فما بكت عليهم السماوات والأرض، وما كانوا منظرين) سورة الدخان الآية 28.
اختير “قوت القلوب” اسما لهذا الباب، اهتماما وعناية بالقلب، نستمدهما من عناية الله عز وجل به، فهو موقع نظره كما ذكر الحديث النبوي الشريف، لذلك لما صنعه وأبدعه، أوجد له قوته ونوّعه. وأرسل إليه الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ليبينوا له كيف، وكم، و متى، وكل سؤال يثار. وبث فيه – في هذا القلب- ـ فطرية، فليـس له إلا أن يقبل على ذلك فتطيـب له الحياة أو يتركـه إلى غيره فيشقـى: (و من أعـرض عن ذكـري، فإن له معيشة ضنكا) سورة طه الآية: 22.
أصناف القلوب:
ما سنتعرض له في هذا العدد هو نقل خبر الوحي وكلام النبوة عن أصناف القلوب، مرآةً تعكس صـورة ما يحمــله الإنسان بين أضلعـه و يخفى عن عينيه.
يقول الحق سبحانه وتعالى،يحكي عن سيدنا إبراهيم عليه السلام: (ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم) سورة الشعراء الآية 89، سليم ضد مريض، وسقيم، وعليل. والصيغة تدل على أن السلامة صارت صفة ثابتة له، والقلب السليم هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى..و لا يتم له هذا حتى يسلم من الانقياد لكل من عدا رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد في الأقوال والأعمال، من أقوال القلب وهي العقائد، وأقوال اللسان وهي الخبر عما في القلب. وأعمال القلب وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح5
ولقد جمع الله عز وجل ثلاثة أصناف رئيسية من القلوب في قوله:( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيء إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد. و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيومنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم)سورة الحج الآية 52..
صنفان مفتونان: القلب الذي فيه مرض، والقلب القاسي.
وصنف سليم: القلب المؤمن المخبت إلى ربه، وهو المطمئن إليه الخاشع له، المستسلم المنقاد.و لما كان القلب و غيره من الأعضاء يراد منه أن يكون صحيحا سليما لا آفة به، يتأتى منه ما هيئ له وخلق لأجله. ويعزى خروجه عن الاستقامة إما إلى يبسه وقساوته، فلا يتأتى منه ما يراد كاليد الشلاء واللسان الأخرس والعين التي لا تبصر. وإما إلى مرض وآفة فيه تمنعه من كمال هذه الأفعال ووقوعها على السداد.فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة. فالقلب الصحيح السليم:ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق، تام الانقياد له، ممتنع عن كل باطل كاره له. والقلب الميت القاسي: لا يقبل الحق ولا ينقاد له، مشرَع على الباطل ملتذ به. والقلب المريض: إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي، وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم6
وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم القلوب إلى أربعة:” القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر. وقلب أغلف مربوط على غلافه. وقلب منكوس. وقلب مصْفح. فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن فيه نوره. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر. وأما القلب المصْفح فقلب فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلب على الأخرى غلب عليه”7
فقوله “قلب أجرد” أي متجرد مما سوى الله ورسوله، فقد تجرد وسلم مما سوى الحق. و”فيه سراج يزهر” وهو مصباح الإيمان: فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات الباطل وشهوات الغي، وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور العلم والإيمان، وأشار بالقلب الأغلف إلى قلب الكافر لأنه مغمد في غلافه والربطة عليه تحول دون خروجه منه، فلا يصل إليه نور العلم والإيمان.. وأشار بالقلب المنكوس أي المكبوب على وجهه أو المقلوب الذي جعل رأسه أسفله8، فإنه يعتقد الباطل حقا ويوالي أصحابه، والحق باطلا ويعادي أهله، مستعملا في ذلك أخبث الطرق إذ يدخل في الشرع من باب ويخرج عنه من باب، لذا كان المنافق شرا من الكافر، وكان عذابه أشد، قال تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)سورة النساء الآية 44،. وأشار بالقلب المصْفح – وهو الذي له وجهان9– أي تمده مادة إيمان ومادة نفاق وهو لما غلب عليه منهما9
خاتمة:
وإذا علم هذا، وجب الرجوع فيه إلى الأدوية المستفادة من الطب النبوي. إذ “لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام، لو أهملت، تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت. فيحتاج العبد إلى تأَُنق أي تتبع الأنيق وهو الحسن والعجيب] 10 في معرفة عللها وأسبابها، ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها. فمعالجته هو المراد بقوله تعالى: (قد أفلح من زكاها ) سورة الشمس الآية: 9، وإهمالها هو المراد بقوله: (قد خاب من دساها) سورة الشمس الآية:10 ” 11
الهوامش:
1 /- أبو حامد الغزالي،”إحياء علوم الدين”،دار الكتب العلمية،بيروت،ط1996،المجلد4،ص4…
2 /- رواه مسلم عن أبي هريرة.
3 /-رواه الشيخان عن النعمان بن بشير.
4 /- ذ عبد السلام ياسين، “الفطرة و علاج القلوب”، مطبوعات الأفق، ط1998، ص17.
5/-ابن قيم الجوزية،”إغاثة اللهفان”،دار الفكر،المجلد1،ص7-8
6/ – ابن قيم الجوزية،مرجع سابق،ص10.
7/ – رواه الإمام أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري.
8/،9- ابن الأثير،”النهاية في غريب الحديث و الأثر”،مادة نكس وصفح.
10/ – بن قيم الجوزية،مرجع سابق، ص 12-13.
11/ – المنجد في اللغة والأعلام،دار المشرق،بيروت،ط2003.
12/ – أبو حامد الغزالي،مرجع سابق،ص53.