غَلَبةُ الحُبّ وقَهرُه
غَلَبةُ الحُبّ وقَهرُه / د. عبد الهادي المهادي
غَلَبةُ الحُبّ وقَهرُه
د. عبد الهادي المهادي
(1)
انتبهتُ إليهما منذ أيام. أصبحتُ مُدمنا على مراقبة سلوكهما البريء؛ صباحات كثيرة أصادفُها تعبرُ الطريق أمامي؛ فتاةٌ في عمر الزهور، لا أظنها تجاوزت الخامسة والعشرين خطوة في هذه الحياة، أنيقة جدا بأسلوب بسيط دون أدنى تكلّف، لباسٌ محتشم ذو ألوان خفيفة مُتناسقة، وحجاب تضعه على رأسها وتُسْدِلُهُ على كتفيها الرقيقتين في أبّهة وانسجام.
ودائما عند منتصف حائط الكنيسة ينقشع المشهدُ الصباحي عن شاب نحيف، “مَخْطُوفَ” لوْنِ الوَجْهِ كمن باغته الموت، يحاول جُهدَه أن يُهندم نفسه لكن دون جدوى؛ “هاد الشّي اللّي عْطا الله”، كما فهمت. كان يأتي من الجهة المقابلة، يبدو أنه يستيقظ كل صباح ليُملّي نظره بالوجه العزيز. عندما كان يقترب منها يرفع بصره إليها بشكل حالم ناعس، بينما أتريّثُ في مَمْشايَ أتأمّل المنظر ملء فؤادي. مرات ومرّات حدث هذا أمام ناظري. لم تكن ترفع رأسها إليه، من المؤكّد أنها انتبهت إليه، ولكنها كانت ـ الجنّيّة ـ تُمعنُ في تعذيبه.
مرّة، وبعد أن تجاوزَها بخطواتٍ اتَّكأ على حائط الكنيسة وطأطأ رأسه وأصدر تنهيدة وصلت إلى سمعي وقطّعت فؤادي… وتالله إن كدتُ أن أسرع وأتشفّع إليها فيه، ولكني فضّلتُ أن أتركه يكتوي بهذه اللحظات التي غدت عزيزة، وتركتها ـ أيضا ـ تتدلّع وتتمنّع وتُنْضِجُه بأنوثتها على نارها الدافئة بهذا الأسلوب الذي يفُتّ الصخر.
(2)
عندما نشرتُ النّصّ أعلاه تعمّدتُ ألا أحدّد جنسه الأدبي. بعض الأصدقاء اعتقد أنّني أنشأته من مُخيّلتي إنشاءً: مضمونا وأسلوبا، والبعض الآخر طالبني بـ”المزيد” على طريقة من ينتظر النهاية السعيدة لـ “الخرايف” التي كانت ترويها لنا الجدّات يوم كان السّرد جزءا حميميا من “اسم الجدّة”.
وإنها ـ والله ـ لحكاية حقيقية جرت وقائعها أمام ناظري منذ سنوات خلت.
مثل تلك المواقف الفطرية البريئة تأسرني، وتفعل في نفسي عمل السحر؛ شابٌّ طَوّحَ الحب بعقله، وأطار النوم من عينيه، ولكنه ـ لحيائه ـ لا يستطيع أن يعترض سبيل محبوبته ويفاتحها بلَوْعَته، يُفضّلُ أن يبقى مُكتوِيا على أن يُقْدِمَ على فِعل يراه دونه والجبال. وهي من جانبها مُنتبهةٌ له، عارفة بأحواله، ولكنها ـ بأنوثتها المتفجّرة ـ تزيد من وضع الحطب في كانُونِهِ… هل من جمال بشري مثل هذا !
في الحديث ـ لمن يَرْتَعِدُ طالبا التأصيل ! ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم “أردف الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته. وكان الفضل رجلاً وضيئاً. فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها. فالتفت النبي ـ والفضل ينظر إليها ـ فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها”.
رجل وضيء طَفِقَ ينظر إلى امرأة وضيئة في حضرة سيّدُ الوضاءة، والنّبي ينتبه له ـ أثناء رده على سؤال تلك الوضيئة ـ فيضع كفّه الشريفة على وجه ابن عمه ويُحوّله إلى الجهة الأخرى. هل ارْعوى الفضيل؟ الحكاية لم تنته؛ لقد أعاد الكَرّةَ !
قديما، في طفولتنا، وبداية شبابنا، يوم لم يكن الهاتف قد وُجدَ بعد، لم يكن للمُحبّ منّا حيلة، كان عليه أن يحوم حول بيت الحبيبة، أو يقف بعيدا أمام نافذة غرفتها، أو يتصادق مع أخيها، والمقصد كان في الغالب بريئا: نظرة، واعتراف بالانتباه. هذا الاعتراف كان يُعدّ بمثابة شاهدة وجود.
وأقصى ما كان يمكن فعله، أن تُهرّب لها رسالة بطرق غاية في السّريّة. أتذكّرُ أنني كنتُ، وعمري لمّا يصل إلى الثانية عشرة، مَرسول حُبّ برسالة. اليوم ألتقي بأبناء ذلك الذي كان شابا يافعا، فأبتسم بفرح لفِعلة والدهم.
المأساة ـ بكل معانيها ـ كانت تحصل يوم يأتي غريب من خارج الحيّ ـ لأن المحبوبة في الغالب كانت ابنة الجيران ـ ويختطفها زوجةً. المفاجأة تأخذ الواحد منّا وتفعل في نفسيته فعلا عميقا، وتخصّه خضّا عنيفا، وذلك من أوائل الدروس التي يتعلّمها الرجل. وتكتمل قتامة المأساة عندما يكون أمره مفضوحا بين أقرانه، فيغدو مَعْرِضا للّمز والغمز.
هل يعرف ناسُ اليوم ما معنى أن يُنشد رجل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في معرض الاعتذار، وبحضرة كبار الصحابة: هَيْفاءُ مُقْبِلَةً عَجْزاءُ مُدْبِرَةً …. لا يُشْتَكى قِصَرٌ مِنها ولا طُولُ.؟!
نعم، كان ذلك من جملة أعراف الشعراء، ولكن جلال الموقف لم يُنسه أن يقف قليلا مع الجمال الإنساني.