نضال تحت السحاب
بقلم: ذة. نادية بلغازي
مي زهرة امرأة النضال والصبر بامتياز؛ امرأة تجاوزت الأربعين بقليل، حفرت الرزايا على وجهها الأخاديد وكأنها في عز الشيخوخة ظاهرا، وإن كانت حركاتها تشي بقوة شبابية لا تجدها عند الأقل منها عمرا.
طويلة القوام، خفيفة الحركة، مربوعة القد، ببشرة حميراء وعينين بنيتين تظهران ملامح شخصية قوية متوازنة وذكاء وازن.
مات عن مي زهرة زوجها الذي كان يعمل في مصنع للملابس المعدة للتصدير، وهي بعد لم تدرك الثلاثين من عمرها، شابة نضرة بتركة ثقيلة من العيال وقلة ذات اليد ومسؤولية تنوء بحملها الجبال قبل الرجال.
كان يغار عليها من نسمة الريح، وإن أبدت رغبتها في الخروج إلى سوق العمل لتساعد في تخفيف الأحمال وتعين في تلبية احتياجات البيت الكثيرة، أبى عليها ذلك إلى أن خرجت إليه مرغمة لتربي أولادها الذي كان كبيرهم حينئذ لا يتجاوز الخمسة عشر سنة، وصغيرهم بدأ مشواره الدراسي في القسم التحضيري. سبعة أطفال لم يخطوا بعد نحو الرجولة المكتملة، ومهام بيتية ثقيلة وخارجية لسد الرمق وحفظ ماء الوجه.
كان زواجها مبكرا استجابة لعرف قائم في قريتها التي شهدت مسقط رأسها في الوسط الشرقي، تلك التي تعُد من وصلها ركب الزواج في السادسة عشرة من عمرها فقد كاد قطاره يفوتها، فتجد عرائس القرية فتيات صغيرات يسقن إلى بيت الزوجية وكأنهن سائرات إلى المدرسة التي تبعد عن القرية بساعتين من الزمن سيرا على الأقدام، والتي تحرم منها الفتاة إن سمحت لها الظروف بارتيادها بمجرد الحصول على شهادة الدروس الابتدائية.
كانت مي زهرة التي نالت حظ التعلم في بيئتها وإن في مستوياته الأولى، مثل زهرة في واحة مثمرة مزهرة، سرعان ما قطفت وهي بعد لم تستو استجابة لطلب زوجها المرحوم الذي جاء خاطبا ذات ليلة.
لحسن حظها أنه لم يكن كبيرا في السن كما كان نصيب الكثيرات من قريناتها، ومع طيبته الظاهرة وأخلاقه النبيلة التي تكشفت لها منذ لقائهما الأول ليلة الدخلة، اعتقدت مي زهرة أنها حينئذ حيزت لها الدنيا وما فيها، فهي في كنف زوج شاب طيب الصفات حميد السيرة ويحرص عليها، أضف إلى أنه جاء يسعى من العاصمة لينقلها من قمقم القرية الجافة الضيقة إلى فساحة المدينة الساحلية الجميلة.
سارت حياتهما طيبة هنية، يفرحان بما أوتيا من الرزق ويقنعان بالعطاء وإن قل، وبحنكتها استطاعت أن تدبر شؤون البيت بامتياز على الرغم من ميزانيته المحدودة. يكد هو في المصنع منذ ساعات الصباح الأولى إلى السابعة مساء، وتعتني هي رضية بشؤون البيت والأولاد وتجمعهم سفرة العشاء التي تعدها مي زهرة بحب واقتصاد، حساء شهي وبيض مسلوق في الغالب وبضع رَطبات مع نصيب زوجها الوفي من وجبة الغداء الذي في الغالب يذخره ليحمله معه إلى المصنع في اليوم الموالي.
هكذا سارت حياتهما دون أن ينغصها شيء سوى فقد الوالدين الحبيبين، ولما جاء الخبر الصاعقة يحمله زميل زوجها في المصنع، وعكة صحية أصابت الزوج الكريم وهو يؤدي مهامه بإخلاص نقل على إثرها إلى المشفى ففارق الحياة قبل أن يدركه.
“عزاؤنا واحد سيدتي، قلب زوجك لم يتحمل أكثر ففارق الحياة فجأة، إنا لله وإنا إليه راجعون”.
دارت الأرض بمي زهرة وضاقت بما رحبت وهي تتلقى نعي سندها في الحياة، خاصة وقد غادر الكل تباعا؛ أبوها ثم أمها ثم آن أوان الزوج رحمهم الله كلا. ما العمل وما السبيل؟ إلى الله الملجأ وإليه المشتكى.
بعد مراسم الدفن وأيام العزاء الطويلة الكئيبة المريرة، جاء الخبر الصاعقة بعد شهر من الزمن، لم يكن زوجها إلا مستخدما استغل أبشع استغلال من طرف الباطرونا، دون أن يكلف مسير المصنع نفسه مهمة ترسيمه في عمل أفنى فيه أزكى سنوات عمره، ودون أن يسجل اسمه في الضمان الاجتماعي. كان مسير المصنع يعرض على عدد منهم، وفي دورية معلومة، أوراقا للتوقيع ويوهمهم بأن ملفاتهم الإدارية جاهزة في الوقت الذي كانوا يتعرضون فيه لأبشع استغلال في إطار رأسمالية بشعة مستحوذة تستنزف الجهود، ويأكل الحوت الكبير فيها صغار الأسماك، ويتلذذ بمص عرق جبين المستضعفين الذين يجدون أنفسهم من أول وهلة عرضة للتشرد.
لم تتلق مي زهرة منهم شيئا ولو أعطية واجب العزاء، وكأن اسم زوجها لم يمر يوما من سجلات المصنع الذي يملكه “موسيو طوماس”، ويصدر من خلاله أنفس الملابس إلى البلاد الغربية مستغلا رخص اليد العاملة بل ورخص المواطن الذي يقدم كبش فداء لتسوية العلاقات مع الغرب ربما أو لتشجيع الرأسمالية المتغولة على حساب الشعب المستضعف.
لم يكن أمامها إلا أن تشمر عن ساعد الجد لتكمل الرسالة، رسالة تربية أبنائها والعناية بهم حتى ينالوا أوفر حظ من العلم والرعاية، عافت حياة المصانع من تجربة زوجها الذي لم يعترف أحد بجديته وإخلاصه، ومؤهلها العلمي لا يسمح لها بالبحث عن وظيفة حكومية وأنى لها أن تجدها والبطالة تضرب أطنابها في صفوف المثقفين من حملة الشواهد، فقررت أن تمارس مهنة تبقيها قريبة من أولادها ولا تحتاج لمؤهل علمي، قررت أن تبيع قرب بيتها البغرير في بوابة
السويقة بمدينة الرباط.
استمرت مي زهرة في مهنتها اليومية واشتهر صيتها في أوساط الموظفات اللواتي يقتنين، طيبة بذلك أنفسهن، ما تصنع يدها من بغرير ومملحات لعوز في الوقت أو لانبهارهن ببراعة مي زهرة التي تغريهن بتحضيرها لبغرير كالشهد وبعض المملحات الطرية اللذيذة.
استمرت في وظيفتها التي يزيد دخلها في المناسبات والأعياد وعند الحصول على بعض الطلبات الكبيرة، واستمر معها احتضانها لأولادها الذين أصبح صغيرهم في السنة الثانية جامعي وأكبرهم نال الشهر درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع الإذن بالطبع.
كانت تتمنى لو تستطيع اقتناء بيت ولو من غرفة لأولادها يحميهم من قيض الحر وقر البرد ومن طرق المستأجر نهاية كل شهر، لكن هيهات هيهات، مهما اقتصدت وأحسنت تدبير مداخيلها فإنها تجد نفسها مضطرة لصرفها تلبية لاحتياجات مدارس الأولاد وجامعاتهم خاصة أنها لم تكن تسمح لأحدهم بالعمل ولو صيفا خشية أن يغريهم بريق المال ويلهيهم عن نيل شرف العلم وإدراك المعالي.
وجاء ذلك اليوم كسابقيه، ومن العشرين من فبراير لسنوات خلت، حينما خرجت مي زهرة كعادتها بعد أن أحسنت صناعة منتوجاتها بحب وصدق وطهارة، وما أن عرضتها لعشاقها حتى وقفت عليها دورية يتقدمها قائد المنطقة وبعض المقدمين.
“غبري من لهنا عندنا زيارة رسمية لوفد للمدينة القديمة” قال أحدهم.
“نبيع شوية الله يرحم الوالدين باش ندخل طريف دالخبز حلال على ليتامى ونمشي واخا منكملش البيع” أجابت مي زهرة باستعطاف.
“طوال ليماك اللسان ووليتي تردي الهضرة على سيادك، نوضي تكعدي وخوي عليا السكتور، هذي راها الأوامر ماشي تنتشاورو معاك” أجاب بفظاظة قائد المنطقة.
“اصبر عليا الله يرحم الوالدين غير نبيع باش نشري لوليدات ما ياكلو والله ما نزيد على ساعة”.
هذه المرة كان الجواب منه عمليا إذ قلب طبق بغرير مي زهرة على الأرض وهوى بيده الغليظة على وجهها بصفعة مدوية وجموع المقدمين يضحكون استهزاء ويلوحون لبطولة قائدهم المغوار الذي يتجرأ على مستضعفة ويبدي رجولته العرناء على امرأة أيم.
ضاع شقاء يومها في لمحة البصر، وضاع معه حق أولادها في الغداء… وكان وقع الحكرة على مي زهرة قويا لم تتمالك معه نفسها، أعمى الغضب بصرها، ومر شريط سنوات نضالها في دولة القهر سريعا، كيف يكرمون الوافدين ويصبون جام غضبهم وقهرهم على المساكين؟ أين كان هؤلاء لما فقدت زوجها ولم تجد نصيرا يعيد لها حقها الضائع في معامل الاستقواء؟ أين كانوا لما كانت تلف حول خصرها إزارها لتبدأ أشغالها اليومية مبكرا لتعيل أيتاما لا وكيل لهم إلا رب العزة سبحانه؟ أين كانوا حينما ضاع حقها في التعلم وغادرت فصول الدراسة مبكرا لما لم تجد مؤسسة تأويها في مدشرها البعيد؟ أين كانوا لما كانت براءة قريناتها تغتصب في عمر الزهور في القرى النائية من خلال زيجات غير متكافئة؟ أين كان حماة الوطن بل حماة الوافدين على الوطن حينما كانت تناضل وباستمرار وعلى مدار سنوات طويلة من أجل أن تعيل أيتامها وتدرسهم وتربيهم من أجل ألا يكونوا عالة على وطن تحبه حتى النخاع وإن كرهت ظلم ساسته؟ أين كانوا لما ضاع حق زوجها في الترسيم؟ أين كانوا لما ماتت أمها وهي تضع وليدها ولم تجد المشفى القريب الذي يسعفها ويستنقذها من مخالب موت جاء على عجل؟ أين كانوا لما فقد أبوها بصره ولم يجد من يسعفه وبلغ من العمر ما بلغ ولم يكن له من معيل حتى فارق حياة بئيسة في مدشر ناء لا ماء فيه ولا كهرباء؟ أين كانوا لما لوح الكذَبة بدعوى التنمية وبقيت حبرا جافا على أوراق مركونة ببلاهة في دواواينهم السوداء وادعاء في سجلات مهامهم المخزية؟ أين كانوا لما قسمت كعكة الوطن بظلم فنال المستحوذون على أوفر حظ منها وبقي الجياع يتضورون من شدة الطوى؟ أين كانوا لما عمت أعطيات المسخ وأخذها من لا يستحقها وشاعت الرشاوى في الوطن باسم القهيوة والحلاوة ولم ينفع معها رقمهم الأخضر؟
أين حماة الوطن من جوع الجائعين وفقر المفقرين واستغاثات المظلومين وصمود المحاصرين وإلجام أفواه المناضلين؟
لأكونن اليوم صوتهم جميعا لعلي أشعل بفتيل جسدي مصباح الدياجر والظلام الذي غشى البصائر والأنظار… لأكونن فتيل نهوضهم وإشراقة صبحهم القريب وفجر انعتاقهم المأمول… لأكونن صوت من لا صوت له، ونداء الزمان وبوصلة المكان وشعار الصمود من أجل حرية الوطن، لأرفعن الصوت عاليا في زمن الصموت، ولأملأن الأكوان بصوت الحق استنفارا للنصير، ولأكونن بوصلة أهل الحاجة ولسان الحرية المفقودة المنبوذة في وطن يستنكر لعشاقه.
أخذ صوت مي زهرة يعلو ويعلو مطالبة بالحق المفقود… حق الشعب المكلوم في كل حقوقه… حقه في الهواء النقي والغداء الصحي وسلامة العيش والتطبيب والتعليم والوظيفة، حقه في الكلام والنشر والحل والترحال … حقه في نصيبه من الوطن وثروات الوطن…
وما هي إلا لحظات حتى تهاوى جسدها المربوع على بلاط زقاق جامع مولاي سليمان بفعل فاعل غادر، ويدها تؤشر بعلامة النصر، وعينياها مسمرتان في الجموع الملتفة حولها لتتفرج على حدث لم ولن تبثه وسائل الإعلام المحلية التي لا تجدّ في نشر إلا ما يقع في البلاد المجاورة من ثورات الورود والرياحين وتعزف عن نقل الحقيقة كما هي للعيان مع التنبيه إلى سوء المآل الذي ينتظر الصادحين بالحق كما وقع لمصر وليبيا ولبنان وأفغانستان…
خفت صوت مي زهرة ولم تخفت رمزيتها بين الأجيال، تناقلت حكاية صمودها ونضالها المستميت تحت السحاب…
ماتت بضربة غادر نعم ولم يمت شعارها الذي يحمله الآن أقوام… ”لأكونن فتيل نهوضهم وإشراقة صبحهم القريب وفجر انعتاقهم المأمول… لأكونن صوت من لا صوت له، ونداء الزمان وبوصلة المكان وشعار الصمود من أجل حرية الوطن، لأرفعن الصوت عاليا في زمن الصموت، ولأملأن الأكوان بصوت الحق استنفارا للنصير، ولأكونن بوصلة أهل الحاجة ولسان الحرية المفقودة المنبوذة.“
من صفحة نبراس