اعتناء بني مرين بالوقف على الزوايا وخدماتها الاجتماعي(5) العمل الاجتماعي في عهد بني مرين
د. عبد اللطيف بن رحو
اعتناء بني مرين بالوقف على الزوايا وخدماتها الاجتماعي(5) العمل الاجتماعي في عهد بني مرين
د. عبد اللطيف بن رحو
يمكنكم تحميل كتاب العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م) من الرابط التالي
المبحث الخامس: الوقف على الزوايا وخدماتها الاجتماعي
كانت للزاوية سواء في الريف أم المدن أوقاف، تستعمل في صيانة الزاوية وتغطية أجور المدرسين ومعيشة التلاميذ. كما أن الزاوية الريفية عادة ما يقدم إليها مسلمو الناحية جزءا معينا من انتاجهم الفلاحي السنوي. فالزاوية بالنسبة إلى سكان الناحية كانت على غاية كبيرة من الأهمية. فدور الزاوية كان يشتمل على مبيت الطلبة الداخليين ومساكن الغرباء والفقراء، وقد اشتهرت بعض الزوايا حتى أصبحت محجة للزوار والطلبة.
وكانت تصلى في الزاوية الصلوات الخمس فضلا عن الدروس التي كانت تلقى على طلاب العلم، كما كانت تقوم بوظائف أخرى. يقول ابن مرزوق: «والظاهر أن الزوايا عندنا في المغرب هي المواضع المعدة لإرفاق الواردين وإطعام المحتاجين من القاصدين.»
ثم إن انتشار الزوايا في العديد من نواحي المغرب، كان لمد جسور التضامن لإقامة طالب العلم وعابري السبيل، كما كانت تضم مسجدا لإقامة الصلاة، وإلى جانب أهدافها التعليمية كانت تؤدي خدمات اجتماعية متعددة لأهل القرية أو البلدة. وكان ينشئها أهل الخير أو رجال طرق الصوفية أو كبار رجال الدولة من أموال خاصة، أو يشترك جماعة في إنشائها ويوقفون عليها أوقافا لتغطية نفقاتها، وكانت إدارتها ورعايتها توكل إلى قائم عليها يعرف بالناظر وجماعة من المساعدين، فكان الناظر هو الذي يصرف أمورها ويجتمع بأتباع زاويته.
فقد أدت الزاوية أدوارا مختلفة اجتماعية وثقافية، من خلال مداخيل الأوقاف ويبدو أن الأوقاف المخصصة للزوايا أخذت تتعظم، ولكن بعض الفقهاء قاموا بتحريم الوقف على الصوفية وذلك لزيفهم وخروج البعض منهم عن الطريق الشرعي وذلك لما كانوا يقدمون به من طقوس كالتصفيق والرقص والغناء، التي كانوا يعتقدونها، إن حجم الأوقاف على الزوايا كانت ضخمة وذلك من خلال ما تركته كتب النوازل، ومن خلال أموال الأوقاف ثم بناء وإصلاح وترميم هذه المنشأة التعليمية والدينية والتي بقيت موروث حضاري إلى يومنا هذا.
كذلك قامت الزوايا والأربطة بدور كبير في توفير الأمن والاستقرار في المواضع المخوفة، حيث أمنت الطرق ووفرت الطمأنينة للمسافرين والتجار، وقد ورد في إحدى الفتاوى أن بعض الصالحين كانوا يسهمون في تأمين السبل حيث يقيمون في المواضع المخوفة التي كانت فيما مضى مأوى لأهل الفساد وقطاع الطرق الذين يهاجمون القوافل والتجار لأجل النهب والسرقة.
وهذا ما أكده ابن أبي زرع عن السلطان المريني يعقوب بن عبد الحق أنه بنى الزوايا في الفلوات وأوقف لها الأوقاف الكثيرة لإطعام عابري السبيل وذوي الحاجات.
ويمكن القول إن الزوايا كانت ملجأ خير يأوي إليه أبناء السبيل وذوي الحاجة فهم يتزودون منها ما يسد حاجتهم من طعام وشراب وكسوة وسكنى وذلك بالمجان ومن ثمة فهي تؤدي دورا إنسانيا عظيما على الصعيد الاجتماعي.
ومن الزوايا التي أتحفتنا المراجع بذكر بعض أوقافها زاوية أبي مدين شعيب بتلمسان، التي كانت تضم بيوتا لاستقبال المسافرين وعابري السبيل، وطلبة العلم، وحبست عليها أوقاف متنوعة، حيث حبست عليها مجموعة من الجنان والحماميم والرحى والحوانيت.
وكانت تصرف هذه الأوقاف في التكفل بالقراء والحجاج المقيمين بها والواردين عليها بتوفير الأكل والمشرب والمأوى وكذلك دفع رواتب المقيمين على خدمتها.
ثم إن الكلام عن الدور الاجتماعي للزوايا في المغرب عهد المرينيين يجرنا حتما إلى الكلام عن المعاهد والمدارس التي تخرج منها وترعرع فيها أقطاب الصوفية بهذا البلد.
والتصوف في المغرب مقرون بذكر الزوايا، فلا يمكن بأي حال من الأحوال الكلام على أي صوفي مغربي، دون الكلام عن المدرسة التي نشأ فيها وترعرع فيها هذا الصوفي، وهي الزاوية، ومع أن الزاوية تأسست أول ما تأسست بقصد تلقين المريدين القيام بشعائر الصوفية، فإنها لم تلبث أن تحولت إلى مدارس دينية، لم تقتصر على تلقين الأوراد، والتفرغ للخلوة والعبادة. بل تعدت ذلك إلى تلقين العلوم الإنسانية بكامل فروعها.
وأقيمت حولها المدارس والأبنية لسكنى الطلبة، فأصبحت الزاوية تقصد لأخذ التصوف والعلم معا. كما أصبحت مقصودة للضيافة وإيواء الغرباء والمسافرين، حتى قيل في تعريفها «إنها مدرسة دينية ودار مجانية للضيافة.» ولا زال هذا المعنى مفهوما عندنا في المغرب، حيث يفهم من دار الزاوية أنها الدار المقصودة للضيافة، وإطعام الطعام، فيقال مثلا: «دارهم دار الزاوية.»
والزاوية المغربية نموذج الراعي المسؤول عن رعيته في مختلف شؤونها الدينية والدنيوية، خاصة في الفترات العصيبة مثلا حالات تعطل جهاز الدولة أو ضعف نفوذها في المناطق النائية، وكذلك الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والخلقية والروحية، ولا شك أن أبرز مثال بالنسبة للتاريخ المغربي يتمثل في أواخر دولة بني مرين خلال القرنين الثامن والتاسع الهجري فانتصبت الزاوية المغربية محليا وجهويا كساهر على أمن السكان، ومساهم في حل مشاكلهم اليومية كالتقاضي وحل المنازعات بين الأفراد والقبائل، وكمرجع لنشر الأخلاق وقواعده وتطبيق شريعته وفق الكتاب والسنة ومحاربة مختلف أنواع البدع ومظاهر الانحلال.
المطلب الأول: دور الزاوية في الحياة العلمية
قامت الزاوية بدور هام وموسع في العهد المريني، حيث ساهمت بالدور العلمي إلى جانب المساجد والمدارس، فكانت تقصد الزاوية لتلاوة القرآن الكريم ودراسة كتاب الشفا وكذلك مدح النبي ﷺ بقصائد شعرية، وتعليم الصبية.
فكانت بذلك الزاوية مركزا ثقافيا علما إشعاعيا تشد إليه الرحال من رجال العلم وطلبته من مختلف أنحاء المغرب.
وجاء انتشار علماء الصوفية في مدن المغرب الأقصى، وتنقلهم بينها، إلى جانب المدارس التي أنشأها المرينيون، فرصة عظيمة لإذكاء الحركة الفكرية في المغرب الأقصى -مهد الدولة المرينية- وهذا بدوره فتح السبيل أمام نشر العلم والثقافة في أرياف المغرب الأقصى وبواديه.
والزاوية هي في الأصل مركز للتعليم والوعظ، وقبلها كان الرباط أداة لتصحيح العقيدة والدفاع عن ملة الإسلام ضد كل أشكال الانحراف الديني، وباعتبار الزاوية شكلا متطورا للرباط، فقد تحولت العملية التعليمية البسيطة إلى ممارسة تعليمية دينية محكمة وفق شروط أكثر وضوحا، فتمكنت الزاوية من مقروءاتها وموادها المدروسة وفقهائها المقدمين للتحصيل، كما استقطبت المتعلمين من كل الآفاق موفرة لهم شروط التعليم والإقامة، بل أصبحت هذه الشروط من وظائفها الأساسية التي تحصلت بسببها كل ما يلزم لبقاء دورها العلمي والصوفي مستمرا. ومن بين الشروط (القيم الصوفية) التي فرضها بعض شيوخ الزوايا لولوج مؤسستها التعليمية.
وكان الملوك والسلاطين -في العهد المريني- يهتمون بالزوايا والحبس عليها وتعميرها والنظر في مصالحها لدورها الهام في الحياة العلمية.
ولا ريب أن الزوايا اعتبرت من المؤسسات العلمية، لما لها من دور هام في التربية والتعليم في العهد المريني.
ويذكر صاحب الذخيرة ابن أبي زرع أن السلطان يعقوب بن عبد الحق، أمر ببناء الزوايا وتخصيصها لطلبة العلم وإجراء الأوقاف عليها، حتى تكون سراجا منيرا لأهل العلم. يقول: « وبنى الزوايا في الفلوات وأوقف لها الأوقاف الكثيرة.»
فكانت وظيفة الزاوية في المجال التعليمي تقوم بتعليم الصبيان، إلا أن التعليم الصناعي أو الاحترافي، كان قليلا فيها، إلى غاية القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي، حيث بدأ التعليم الرسمي فيها يزدهر بسبب انتشار نفوذ الزوايا، وهيمنة شيوخها على عقول الناس، وكثر نشاطها في البوادي، وبالتالي أصبحت تساهم بقسط كبير، في تضييق الفوارق التعليمية والثقافية بين سكان الريف وسكان المدن، وقد استطاعت أن تطبع هذا التعليم بطابع التصوف، وتجمع بين التدريس علم الظاهر وعلم الباطن أي بين ثقافة الفقهاء وثقافة المتصوفة.
والزاوية اعتبرت هي الأخرى من المدارس والمعاهد لتعليم الشباب وتنوير العامة، فكانت الزاوية في العهد المريني تتخذ من التعليم وسيلة لجلب الناس والطلبة إلى زواياهم واعتناق مذاهبهم الصوفية واكتساب المال والصدقات والأحباس.
ونخلص أن الزاوية شكلت الوعاء الاجتماعي للتعليم جنبا إلى جنب مع المدارس والمساجد.
المطلب الثاني: الزاوية دار لإطعام المحتاج ومأوى للغرباء والطلبة والفقراء والهاربين
أدت الزاوية دورا اجتماعيا في المجتمع المريني من إيواء للفقراء والغرباء وحماية الهاربين إليها من المجرمين والسياسيين المغضوب عليهم، واستقبال الدارسين في المساجد المجاورة.
وقد تخصصت الزاوية في العهد المريني باستقبال نوع معين من الضيوف بنصوص أوقافها، كما كانت ملاذا لجلوس النساء واجتماعهن. وكانت تستقبل الفقراء والمرضى والعجزة، ومخصصة لاستقبال فقراء العلماء وسكنى لطلبة العلم، كما كانت ملجأ الهاربين من العقاب والقتل مهما كانت جرائمهم. فقد كان الولاة والعامة يعتقدون في حصانة حمى الزاوية والضريح، ويكفي أن يهرب الجاني إلى هذه الحمى فلا يلحق به أحد، ولا يمسه سلطان.
يقول ابن مرزوق: «والظاهر أن الزوايا عندنا في المغرب هي المواضع المعدة لإرفاق الواردين وإطعام المحتاج من القاصدين.»
- الفرع الأول: الزاوية دار لإطعام المحتاج
أدرك شيوخ الزاوية أهمية الإطعام في تحقيق الشهرة لزواياهم، لذا فقد استخدموا كل مواردهم المالية والاقتصادية، بل حتى ثرواتهم الخاصة لإطعام أكبر عدد ممكن من الوافدين والزوار.
ويتحدث العلامة محمد المنوني عن محمد بن موسى الحلفاوي الإشبيلي المدجن نزيل فاس والمتوفى بها عام 758ه/1357م، غلب على تصوفه الاتجاه الاجتماعي، كان إلى جانب قيامه بالأمر والمعروف والنهي عن المنكر، سلك طريق الإثار على المحتاجين، وقد شرح مذهبه في السلسل العذب حيث قدم أمثلة في هذا الصدد هكذا:
وربما تكفلت صدقته بجميع مؤمن محتاج: من قوت ومن لباس مستوفي الجزئيات في الدفعة الواحدة، فيكفيه السؤال طويل مدة، ليمتعه بالانتفاع بنفسه، من توجه إلى الله أو استنهاض لتكسب.
ويصل تحنت عبادته بالطواف على الفقراء والمحتاجين في الحضرة: فاس ويتفقد بالفواكه الرطبة واليابسة -في أوانها- من تميل إليها نفسه فلا توصله المتربة إليها فيبتاع منها الكثير مهما أظل زمانها، وتمكن إبانها، ويضعها في حانوته بالحلفاويين من فاس، ويتحمل نهاية ما يقدر على رفعه على رأسه، فيقصد به المضان إلى أن يفرغ الوعاء فيعيد امتلاءه، فيلحق تلطفه الضعفاء بالأغنياء، في استطعام شهوات ما أنعم الله به على خلقه ورزقهم من طيباتها.
ويذكر ابن قنفذ أنه رأى الشيخ الصالح أبا الحسن علي اللجائي، وكانت له به معرفة سابقة فيقول: «إذا جلست معه لا تريد أن تفارقه. وله سعي في حوائج المسلمين وتفريق الصدقات على الفقراء والمساكين.»
حتى إن ابن قنفذ سأل بعض الصالحين «من أين عيشتك؟ فقال: من نفقة أجراها علي اللجائي: يأتي بها عشية كل يوم.»
والظاهر مما ذكر أن للزاوية وشيوخها دور بارز في التصدق على المحتاجين والفقراء والمساكين من مشرب ومأكل وملبس.
فالزاوية التي بناها أبو عنان المريني سنة757ه بضاحية مدينة سلا وهي المعروفة بزاوية النساك، والزاوية المتوكلية على وادي حمص بضاحية فاس، وقفت عليهما أحباسا كثيرة لإطعام الواردين والفقراء والرحالة والمسافرين على اختلاف طبقاتهم.
- الفرع الثاني: الزاوية دار لإيواء الطلبة والغرباء
إن الفكر الذي قصده بنو مرين من تشييد الزاوية، هو جعلها تقوم بالخدمة الاجتماعية، فجعلوها بمثابة دور لاستقبال الطلبة والغرباء الوافدين عليها من خارج المملكة. فالزاوية اعتبرت مؤسسة منخرطة في أضلاع المجتمع، وتشكل إحدى لبناته، بل ساهمت وإلى حد ما في تفعيل وبلورة العمل الخيري إلى جانب الدور الروحي وأيضا السياسي.
يقول الدكتور إبراهيم حركات: «بنى ملوك بني مرين عددا من الزوايا في مختلف أرجاء مملكتهم لاستقبال الغرباء والمسافرين والموظفين المتنقلين.»
ويزيد الدكتور عبد اللطيف الشاذلي الأمر إيضاحا عن دور الزاوية المندرجة ضمن العمل الاجتماعي، فيقول: «تمثل عملية الإيواء والإطعام عنصرا أساسيا في الجهاز الصوفي ونخرج من قراءة نص التشوف بانطباع واضح قوامه أن حركة الصلحاء بشكل كبير وبأعداد كثيرة ومظاهر تلك الحركة متنوعة كانتقال القروي إلى المدينة أو انتقال الحضري من مدينة إلى مدينة فلو لم يكن الأمن فيه قائما ولا الاستقرار دائما ما كانت لتتم البنية الاستقبالية التي تهيئ نظام الإيواء والإطعام المرتبط بجهاز التصوف وهو نظام تطوعي تكافلي مبني على التعامل بالمثل بكيفية توفر لكل مسافر من الصوفية إمكانية الاستفادة من بنية استقبال في أي مكان ذهب إليه.
وجاء في تحفة النظار أن الزاوية مأوى للمتصوفين والفقراء وقد كان الملوك والأشراف ينشئون الزوايا لتقديم الطعام إلى المحتاجين والغرباء، ويفهم من كتاب ابن بطوطة مثلا أن هذه الزوايا كانت بمثابة مطاعم وفنادق للمسلمين خاصة إذا كانت تعبيرا عن الأخوة الإسلامية وتطبيق مثل الإسلام في الإحسان والتصدق على الفقراء المحتاجين وأبناء السبيل والغرباء، وكانت تقام لغايات اجتماعية أو دينية أو عن روح ملك توفي أو شريف يحب عمل الخير.
ومن المعلوم أن الزوايا كانت أيضا من المؤسسات العلمية الهامة في البلاد المغرب، فبالإضافة إلى كونها موضعا لاجتماع المتصوفة للعبادة والذكر، كان يقصدها بعض الطلبة لتلقي العلم، كما كان يسمح لهم -أحيانا- بالسكنى فيها.
ويمكن القول إن الزوايا في العهد المريني عرفت باستقبال الغرباء والمسافرين، كما كان يبنى بجانب الزاوية دار لنزول الواردين وأخرى للطبخ.
- الفرع الثالث: الزاوية ملجأ الهاربين
ساد في المغرب خصوصا المغرب الأقصى ظاهرة الهروب إلى الزوايا، وبالتحديد هروب المعارضين لنظام الحكم أو ما يسمى المخزن. فيلجأ الهارب إلى الزاوية هروبا من العقاب، وحتى لا يحاسب عما اقترفه من أعمال ضد المخزن. فكانت الزاوية الحصن الحصين له، حتى أن بعض الشــــــيوخ كانـــــــوا يعتـــــــــبــــــــرون الزاوية كمقام إبراهيم من دخلها كان آمنا.
- الفرع الرابع: قيام الزاوية بدور التحكيم وحل النزاعات والخصومات
تميزت دعوة سلاطين بني مرين منذ انطلاقتها بسمة التقوى والورع والدعوة إلى الله، لذلك شجعوا التصوف، وقاموا ببناء الزوايا، أولا باعتبارها سندا لهم، وثانيها للتسلح بهم كأداة فاعلة في المجتمع المريني. بل حتى أن السلاطين كانوا ينزلون عند رغبة شيوخ الزوايا ويقبلون بشروطهم.
ويتحدث ابن مرزوق عن مقابلة السلطان أبي الحسن المريني للولي الصالح أبي عبد الله الكومي الضرير المراكشي، وكان من أولياء الله بلا منازع ومن أصحاب التصوفات والمقامات، الذي اشترط شروطا لمقابلة السلطان، أن تكون هي الأولى والأخيرة وألا يعرض عليه شيئا من متاع الدنيا، فقال: «بل حتى تبلغوا عني ويتحمل سيدنا أمير المؤمنين شرطي. فرد السلطان: نعم قبلنا شروطه.»
يتضح من هذا الكلام الذي أشار إليه ابن مرزوق أن للزاوية قبضة شديدة ويدا من حديد وأن كلام شيوخها وشروطهم كان يمشي حتى على السلاطين، وكان يرجع إليهم في حل النزاعات والخصومات والقيام بدور التحكيم.
والزاوية عرفت بقوتها داخل المجتمع المريني وبكلمتها المسموعة، فكان الناس يقبلون بتحكيمها، بل الأكبر من ذلك أن شيخ الزاوية لما يتمتع به من سلطة نافذة وحُكما مقبولا ترتضيه كل الأطراف في حل الصراعات القبلية والنزاعات الفردية، حتى أن سلطته تعدت إلى السلطة المركزية القائمة على شؤون البلاد والعباد، بل وأن قوة سلطتها كانت تتدخل في ترسيم سلطان البلاد.
يقول الدكتور محمد مفتاح: «بل وفي بعض الحالات يتدخل شيخ الزاوية لتحقيق الصلح بين المتنازعين على السلطة فهو بذلك يشكل عامل استقرار وأمن لأنه يطفئ نار الفتن والحروب الأهلية ويحقن الدماء ويؤلف بين القلوب المتنافرة والاتجاهات المتصارعة.»
والمتصوفة كانوا الوسطاء الطبيعيين بين السلطة والسكان. فالتأثير الذي كانوا يمارسونه إما بشكل مباشر عن طريق الفتاوى والأحكام بين المتخاصمين أو بشكل غير مباشر عن طريق النصيحة التي يقدمونها للسلطات، وكذلك بواسطة السلوك الأخلاقي والثقافي النموذجي الذي يقدمونه بسيرتهم الذاتية، كان تأثيرا كبيرا داخل المجتمع المريني.
المطلب الثالث: الاحتفال بالمولد النبوي
دأب الصوفية على الاحتفال بعيد المولد النبوي بزواياهم أو البيوتات الخاصة، فهذا أبو مروان عبد الملك الريفي أحد تلامذة أبي محمد صالح الماجري دفين آسفي، يقيم المولد النبوي في منزله بسبتة بحضور المريدين ومن إليهم ويستعمل في الليلة السماع.
إن الارتباط الوطيد للمتصوفة بهذا الحدث هو الذي يفسر ذلك الانتشار السريع لظاهرة الاحتفال بعيد المولد، فبهذه المناسبة، كان الولي السبتي الكبير، أبو مروان عبد الملك اليحاسني، يصنع لمريديه الطعام، وتقام ليالي السماع.
ومع ذلك فإن المولد قد أثار معارضة بعض العلماء، باعتباره بدعة لكن هذه المعارضة لم تكن تنتقد سوى المظاهر الخارجية للاحتفال، وخاصة تلك المرتبطة بالممارسة الصوفية (رقص سماع واستعمال آلة اللهو) عند الاجتماع في ليلة المولد، كما أن هناك من أنكره خيفة وقوع المناكر واختلاط النساء والرجال. وعندما ترسخ العيد في التقاليد الدينية، لم يجد المدافعون عنه صعوبة في إيجاد نوع من الاجمـــاع عليه، وعلى فوائـــده نظـــرا للخدمـــات التي يسديها عن طريق إطعــــام الفقـراء، والاستكثـــــــار من الصدقة وأعمال البر، وقراءة القرآن الكريم، وإلى مظاهر الفرح التي يدخلها على القلوب، فرحة كان الفقيه المؤسس يريدها أن تمس قلوب الأطفال قبل كل شيء.
المطلب الرابع: كفالة الزوايا للأرامل والمسنين
أدت مخالطة أهل الزوايا لأفراد المجتمع، وحسن معاملتهم، ومعرفة همومهم ومشاكلهم اليومية، فتح أبوابها للعجزة والأرامل، فلم تبخل الزاوية عليهم في تحسين أوضاعهم والاهتمام بحياتهم والتكفل بهم. فوجدت بذلك الأرامل والعجزة في المؤسسات الصوفية ملاذا لهم ويحفظ لهم ماء وجههم من السعي والتكفف للناس، فكانت الزاوية سترا لهم من التسكع في الشوارع. فاشتغل البعض منها في عهد الدولة المرينية على كفالة الأرامل المعوزات، اللاتي لا يجدن من يعولهن.
- الفرع الأول: كفالة الأرامل
ونقصد في هذا المقام أرامل الحرب، فقد تمخضت في مغرب هذه المرحلة شريحة النساء الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن في حروب وفتن هذه المرحلة، فظاهرة الترمل أضحت مشكلة حقيقية في مجتمع المغرب المريني. وعلى الرغم من أن المادة التاريخية التي تخص هذه الشريحة تظل ضئيلة ونادرة، فلا مجال للشك في أن قاعدتها كانت كبيرة، وأن ظروفها الاجتماعية كانت صعبة للغاية.
ولا سبيل إلى الشك في أن أحوال الأرامل كانت أكثر بؤسا وعوزا وخصاصة، وبخاصة الفقيرات منهن اللواتي لم يخلف لهن أزواجهن ما يعلن به أنفسهن وأولادهن.
- الفرع الثاني: رعاية المسنين
إن الزاوية إذا نظرنا إليها من الناحية الاجتماعية، فقد أدت دورا اجتماعيا مهما كإيواء المسنين المغلوب على أمرهم، فهم الشريحة من الشيوخ الذين وهنت قوتهم واتصفوا بالضعف فلا يجدون من يعولهم، فكانت الزاوية هي الأخرى تقوم بالرعاية لهؤلاء مع ما يقدمه المخزن من خدمات اجتمــــاعـية لهذه الفئة. يقول صاحب الذخيرة: « وبنى الزوايا في الفلوات وأوقف لها الأوقاف الكثيرة لإطعام عابري السبيل وذوي الحاجات.»
فالمؤرخ ابن أبي زرع يشير إلى بناء الزوايا والغرض من إنشائها ألا وهو إعانة المحتاجين كالمسنين، حيث أوقف عليها المخزن أوقافا عديدة لتفي بغرض الإنفاق على من يحتاج من العاجزين.
فالتصوف المغربي في عصر المرينيين أقر مبدأ التسامح والسلام في المجتمع وإسعاف طبقاته المعوزة وإجراء الإمدادات الموصولة لتخفيف وطأة البؤس، وقد تنافس الصوفية في هذه المظاهر الإحسانية فاضطر الملوك إلى المساهمة فأسسوا الزوايا في الفلوات وأوقفوا لها الأوقاف الوفيرة.
ويشير ابن مرزوق إلى أن السلطان أبا الحسن المريني كان أشفق خلق الله على من علت سِنُّه ووهنت قوته، وقد أجرى على من اتصف بالشياخة من الضعفاء ولازم الخير رواتب تكفيهم ورسمهم في جرائد عماله شيوخ الجامع، وبنى لهم دورا شبه الربط وأجرى لهم كساء في كل عام تكفيهم.
ويمكن اعتبار دور الزوايا في الخدمة الاجتماعية من تقديم الصدقات والطعام من بين الواجبات المهمة، وإن كان عملها الخيري يمول من طرف المساعدات التي كان المخزن يقدمها للكثير منها، وكذلك الهبات و»الفتوح» التي يأتي بها الأهالي.