العمل الاجتماعي في ثقافة المجتمعات قبل الإسلام وفي ظل الإسلام(2) فقه العمل الاجتماعي في الإسلام
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
العمل الاجتماعي في ثقافة المجتمعات قبل الإسلام وفي ظل الإسلام(2)
فقه العمل الاجتماعي في الإسلام
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
العمل الاجتماعي في ثقافة المجتمعات قبل الإسلام وفي ظل الإسلام
المطلب الأول: العمل الاجتماعي في ثقافة المجتمعات قبل الإسلام
كانت الجماعات الإنسانية قبل الإسلام في جميع أنحاء الأرض، تسير في بنائها وترابطها وتنظيم علاقتها على أسس وأنظمة من وضع البشر، ومن وحي الفكر الإنساني والنزاعات الخاصة المستمدة من الحياة المادية المحدودة، ومن العواطف الثائرة والأحداث الطارئة، ولذلك كانت هذه الأنظمة لا تستهدف صالحاً عامًّا ذا طابع إنساني كريم، ولا تصدر عن تفكير أو تقدير واعٍ تحتل النظرة فيه إلى آفاق عالية بحيث تشمل المحيط الإنساني العام.[1]
- الفرع الأول: المجتمع الروماني
كان الرومان قد سادها نظام لا يجعل لضعيف حقاً بجوار القوي، فقد كان لها قانون منظم، بلغ أوج عظمته في الصياغة في القرن الخامس في عهد جوستنيان، ولكن هذا القانون، وإن نظم العقود والتعامل إلى حد ما، قد حمى الأشراف، وفرض لهم حقوقا ليست للضعفاء، بل سلبت حقوق الضعفاء ليزدادوا ضعفاً على ضعف، ويعطيها الأقوياء ليزدادوا قوة على قوة.
ثم إن نظام الدولة جعل طائفة قليلة غالبة قوية ثرية، والأكثرين ضعفاء فقراء مغلوبين، ذلك أن كثرة الغزوات والفتوح التي قامت بها الجيوش الرومانية جاءت بالأموال والغنائم، وكان يتوزع هذه الغنائم وتلك الأموال بما فيها العبيد والسبايا قواد الجند والأشراف والمقربين منهم والمزدلفين إليهم، والآخرون لا يأخذون شيئا، وبذلك وجدت طبقة مسعودة ذات حظ وفير من المال، والأخرى محرومة لا تملك شيئاً من المال، وكان هؤلاء ينظرون إلى الأولين نظرة الحاقد الحاسد الشقي بحرمانه، والشقي برؤيته زخارف المال، ولمعان الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام لأولئك الذين أخذوها بغير حق وتحكموا في رقاب الناس بغير حق، والناس لا يشقون لآلام ذاتية فقط، بل يشقون مع ذلك برؤية النعيم والبذخ في أيدي غيرهم، وعدم قدرتهم على مجاراتهم.[2]
وبالرُّغم من الحياة القاسية في الدولة الرومانية القديمة نجد أنَّه قد ظهرت بعض الاتجاهات الإنسانية التي كانت تنظر إلى هؤلاء نظرة عطف وحنان وشفقة، كما كانت الدولة الرومانية القديمة توزّع المساعدات على الفقراء والمعوزين وتساعد الأسر المنكوبة التي يذهب أفرادها ضحيَّة للحروب أو اللذين شوهتهم المعارك وأصبحوا عاجزين عن العمل، كما كانت المساعدات تُقدَّم للرقيق والأسرى ولم تكن هذه المساعدات تُقدَّم بهدف الشعور بالمسؤولية والرِّعاية الاجتماعية لفئات الشعب العاجزة بل لأنَّ الدولة كانت تَعتَبر هذه الجماعات الفقيرة مصدر خطر على المجتمع الذي يعيشون فيه أي خوفاً من شرورهم وتمرُّدهم على السلطة القائمة.[3]
- الفرع الثاني: المجتمع الفارسي
وبجوار ذلك الاضطراب في المجتمع الروماني كان المجتمع الفارسي، ولم يكن التفرق فيه بين طبقات المجتمع أقل مما كان عند الرومان، فإنه منذ أن فتح الاسكندر المقدوني أرض فارس، والمجتمع الفارسي في اضطراب مستمر، وإن الإسكندر وإن لم يدم حكمه طويلا في فارس إلا أن أثره استمر طويلا، وهذا الأثر هو حل الوحدة الفارسية. وذلك أنه عند مغادرته فارس وانسيابه إلى ما وراءها من بلاد الهند، قد جزأ البلاد بين أشرافها، فجعل على كل مقاطعة شريفا يحكمها، ويستقل بحوزتها، وبذلك تفرقت فارس سياسيا، ومع التفرقة السياسية كان التفرق الاجتماعي، وإذا كان الحكم للأشراف فهو بلا شك مذكٍ لنيران الحقد في قلوب الفقراء، فإنه حيث اشتد التفرق الاجتماعي اشتدت معه الأحقاد، وفسدت الأخلاق.
فالقانون الروماني قد قوى نظام الطبقات وفرق ما بين المجتمعات فإن الدعوات الدينية في فارس كان بعضها يدعو إلى التشاؤم المطلق، فهذا «ماني» يدعو إلى فناء بني الإنسان ليتخلص العالم من شرورهم، فقد دعا إلى تحريم الزواج ليتسارع العالم إلى الفناء، ويقرر أنه لا خلاص لعنصر الخير في هذا الكون من الشر إلا إذا فني الإنسان، وكأنه يرى أن الإنسان لعنة في هذا الوجود.[4]
وأما «مزدك» الذي جاء بعد «ماني» فقد حاول أن يعالج هذه المباغضة بالإبقاء، ولكن على شر حال من الانحلال، ذلك أنه رأى سبب الحقد والضغينة والانقسام بين الناس هو اختصاص بعضهم دون الآخر بكثير من الأموال وأجمل النساء، فإزالة هذا السبب تذهب بأحقاد الناس، وذلك بأن تباح الأموال، وتباح النساء، فاعتنق السفلة الرعاع ذلك واغتنموها فرصة لهم.
وكانت نتيجة ذلك هذا المذهب الفوضوي الذي لم ينظم فيه شيء ولم ترتب فيه حقوق وواجبات أن انهار المجتمع الفارسي، وخلعت فيه كل القيود الاجتماعية والخلفية، وانطلقت فيه الشهوات والنزوات، وتفاقم الشر، واشتدت العداوة والبغضاء.[5]
فحسب نظري المتواضع فالفقير الضعيف كان محروما من حقه، بل كان يسلب ليزداد ضعفا مع ضعف، مما يدل على أنه لم تكن هناك رعاية اجتماعية في المجتمع الفارسي حسب ما اطلعت عليه.
- الفرع الثالث: المجتمع اليهودي
إن العمل الاجتماعي في الديانة اليهودية كان حاضرا في شكل دعوة الانسان إلى فعل الخير والإحسان والتعاون، وقد وردت في الكتاب المقدس الكثير من الأمثلة، فقد جاءت الدعوات في الديانة اليهودية إلى العمل الاجتماعي وهي واردة في كثير من النصوص التي جاءت في العهد القديم، خصوصا الوصايا العشر التي نزلت على النبي موسى عليه السلام.
ولعلي أخص في هذا الموضع على سبيل المثال وليس الحصر، نموذجا في وقف اليهود وذلك فيما ذكره الإمام السخاوي قال: وكشف في حارة زَويلة[6] عن دار كانت لبعض أكابر اليهود، كانوا يجتمعون عنده فيها للاشتغال بأمور دينهم الخبيث فهلك بعد أن جعلها محبسة لذلك. فصارت في حكم الكنيسة.[7]
واهتمت الديانة اليهودية بتنظيم العمل الاجتماعي واعتبرت ذلك جزء من العمل المقدس فراعت الأغراب واليتامى والأرامل والفقراء.
ولعلي اذكر في هذا المقام ما جاء به ابن دقماق من أن هناك وقفا عرف ببني عطا اليهود.
يقول ابن دقماق: «هو المطبخ الذي في زقاق غير نافذ بوسط سوق المعاريج وهو سكن اليهود، وأرض المطبخ المذكور من وقف بني عطا وكان قدام هذا المطبخ حمام لبني عطا وكان يسكنه شهاب الدين ابن الشامي.»[8]
- الفرع الرابع: المجتمع المسيحي
دعت الديانة المسيحية كباقي الديانات السماوية إلى القيام بالعمل الاجتماعي والمساهمة فيه، ولعل الناظر في تعاليم المسيحية والمتأمل فيها يجد ذلك واضحا جليا، ويظهر ذلك في دعوة الكنيسة إلى التكافل ورعاية المرضى والجياع وإعانة الفقير والمحتاج والتمسك بالجماعة التي تعتبر أصل العمل الاجتماعي.
فالنصوص المنقولة عن المسيح في العهد الجديد تدعو إلى إقراض الأخ المحتاج وإعانته إن طلب المعونة. ونتيجة لهذه التعاليم، لم يوجد محتاج زمن الرسل – تلاميذ المسيح – نظرا للتضامن الاجتماعي الذي كان بينهم. ويتحدث لوقا عن الحياة المسيحية في الجماعة الأولى بعد أن رُفِعَ المسيح إلى الله عز وجل، فما كان أحد منهم في حاجة، لأن الذين يملكون الحقول أو البيوت كانوا يبيعونها ويجيئون بثمن المبيع فيلقونه عند أقدام الرسل ليوزعوه على قدر احتياج كل واحد من الجماعة. وهذا الضمان كان برضى من أصحاب الملك إذ لم يكونوا مجبرين على دفع أموالهم.[9]
ويقول بولس في خطابه لإخوته حاثاً لهم على الصدقة للفقراء: «وأرَيتُكُم في كل شيء كيف يجب علينا بالكد والعمل أن نساعد الضعفاء، متذكرين كلام النبي يسوع: تبارك العطاء أكثر من الأخذ.»[10]
ويؤكد العهد الجديد العناية بالطبقات المستضعفة حيث يقول يعقوب: فالديانة الطاهرة النقية عند الله هي أن يَعْتَنِــيَ الإنسان بالأيتام والأرامل في ضيقتهم.[11]
ودعوة المسيح عليه السلام كانت تهدف إلى الحرص على مساعدة المحتاج وجعل المجتمع طبقة واحدة متساوية لا فرق بين الغني والفقير ولا بين القوي والضعيف، بل شملت الرعاية الاجتماعية غير المسيحيين بل تعدت إلى غير الإنسان ليشمل الحيوان، ونصوص العهد الجديد كانت لها عناية شديدة بالطبقات الضعيفة والحث على مساعدتهم.
ولعلي أضع بين أيديكم مثالا: عن سيدة كنعانية جاءت تشكو إلى السيد المسيح عليه السلام.
« جاءت امرأة كنعانية تشكو مرض ابنتها، فقال لها المسيح عليه السلام: لا يجوز أن يؤخذ خبز البيت ويرمى إلى الكلاب. فقالت له المرأة: نعم سيدي. حتى الكلاب تأكل من الفتات الذي يتساقط عن موائد أصحابها. فأجابها المسيح عليه السلام: ما أعظم إيمانك، يا امرأة، فليكن لك ما تريدين فشفيت ابنتها تلك الساعة.»[12]
وهذا يوحنا المعمدان كان يطالب الشعب بأن من كان له ثوبان، فليعط من لا ثوب له ومن عنده طعام، فليشارك فيه الآخرين.[13]
- الفرع الخامس: العمل الاجتماعي في العصر الجاهلي
عُرف العرب في العصر الجاهلي بأعمال اجتماعية جليلة متضامنين فيما بينهم في لحمة واحدة، ومن بين الشيم التي تميز بها العرب في الجاهلية الكرم، فالبيئة التي عاش العرب فيها، (أي الصحراء) جعلت حياتهم قاسية عمادها الشظف، إنها شحيحة الرزق تسحق المرء بثقلها. وهذا الجدب الذي يخلق في ذات العربي حاجة ملحة إلى طلب الحياة، والذي جعل من المطر مصدرا للبقاء، وولَّد البؤس، هو سبب كون الكرم أولى الفضائل. وربما كان هذا دليلا على أن الحياة عند العرب لم تكن تسيطر عليها العاطفة التجارية، فكثيرا ما نحر الفرد إبله ليطعم غيره عند انعدام الرزق.[14]
والخصلة الثانية لصيقة الصلة بشيمة الكرم، وهي الضيافة، وقد كان العرب من البدو خاصة يوقدون النار لمساعدة الضالين في الفيافي للوصول إليهم، فيؤمنونهم ويكرمونهم، وإن كانوا لهم أعداء.[15]
وأيضا كان العرب يعتدون بإغاثة الملهوف.[16]
ويمكنني أن أسوق بعض النماذج من العمل الاجتماعي خلال العصر الجاهلي، لأنه يتميز بالعديد من المواقف التي اعتنت بالفقراء والضعفاء والمظلومين، وذلك حتى لا يقع اختلال في التوازن بين طبقات المجتمع، وجعلوا ذلك واجبا من واجباتهم. فحثوا بدورهم على رفع الظلم، واتخذوا السقاية والرفادة، وعقدوا حلف الفضول للدفاع عن المحتاج.[17]
وذكرت لنا كتب التاريخ التي اعتنت بالحقبة التاريخية للعصر الجاهلي، أن قبائل قريش وهم: بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة اجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي، لسنه وشرفه فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله ﷺ قبل بعثته.[18]
فقد روى طلحة بن عبد الله بن عوف أن رسول الله ﷺ قال:» لقد شَهِدْتُ في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت.» [19]
وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها.[20]
وكان أهل الجاهلية يحبسون السوائم[21] والبحائر[22] والحوامي[23] وغيرها على الأصنام وعلى بيوت عبادتهم. فلما جاء الإسلام، قيد الحبس بما يكون في سبيل الله وانتفاع المسلمين. وقد حبس الجاهليون أراضين لمعابدهم وأصنامهم جعلوها (حمى) لآلهتهم، لا يجوز لأحد ارتيادها للرعي فيها ولا استثمارها لأنها حبس على الصنم أو المعبد. فلما جاء الإسلام حرم هذا الحبس، لأنه لغير الله، وأحل محله (الوقف) الذي هو لله جل جلاله. وحبسوا النخل للمحتاج ولأبناء السبيل، يُلتقط تمره بغير إذن، ولا يجوز منع أحد منه، كذلك حبسوا الماء لمن يحتاج إليه، فيأخذ منه دون بدل، لشدة حاجة الناس إليه، فالحبوس بمنزلة الأوقاف في الإسلام.[24]
يقول الشاعر عبد الله بن الزِّبَعْرَى:
كَانَتْ قريش بيضة فَتَفَقَّأَتْ
فالمحُّ خَالِصُهُ لعبد مَنـَـــــافِ
الخالطــــــين فَقِيـــــــــــــــــرهم بِغَنِيِّــهِم
والظَاعِنِينَ لِرِحْلَة الأضْيـَـاف
والرَّائِشِينَ وليس يوجد رائِش
والقائلين: هَلُمَّ للأضْيــــــــــاف
عَمْرُو العُلا هَشَم الثَّريدَ لقَومِهِ
قوم بمكة مُسْنِتِينَ عِجَـــافِ
ويقول الشاعر المرتضى:
المفْضِلُون إذا المحول ترادفت
والقائـــــــــلون هَلُمَّ للأضياف
والخَالِطُـــــــون غنيهــــــم بفقيرهم
حتى يكون فقيرهم كالكَافِي [25]
وكان رجال من أهل مكة ينفقون على المحتاجين فعدوا ذلك دينا ومروءة وشهامة. فكان نعيم بن عبد الله العدوي، ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم. وكان حكيم بن حزام ينفق من أرباحه على المحتاجين من أل ذويه، وكان صديق النبي ﷺ قبل البعثة. وتذكر كتب السير والتراجم أسماء رجال آخرين عرفوا بتصدقهم على الفقراء والمحتاجين، اعتبروها مَنْقَبة وقربة لهم في الجاهلية.[26]
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية أمورا عجيبة في البر وينابيع الخير وصورا من صور العمل الاجتماعي الذي ساد في العصر الجاهلي، ومن الأمثلة التي جاء بها ابن كثير ما كان من عبد الله بن جدعان صاحب الأعمال الاجتماعي في مكة، فذكر عنه محامد جليلة أظهر لنا أن العصر الجاهلي كان له السبق إلى العمل الاجتماعي، فهو كان يقري الضيف ويطعم الفقير والمحتاج وصاحب الحاجة والفاقة.
يقول ابن كثير: «وكان من الكرماء الأجواد في الجاهلية المطعمين للمسنتين. وكان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن، وأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بعير تحمل البر والشهد والسمن وجعل مناديا ينادي كل ليلة على ظهر الكعبة أن هلموا إلى جفنة ابن جدعان.»[27]
وجاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ﷺ: ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه. إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.»[28]
وهناك أيضا مثال حاتم الطائي الذي عرف بالكرم وكان أجود الناس في العطاء والتصدق في الجاهلية.
ويذكر ابن كثير مزايا حاتم الطائي في العمل الاجتماعي وأن له أمورا عجيبة وأخباراً مستغربة في كرمه، فكان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العاري ويقري الضيف ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة.[29]
المطلب الثاني: العمل الاجتماعي في صدر الإسلام
أعطى الإسلام للعمل الاجتماعي مكانة بالغة الأهمية، وجعله قربة يتقرب بها العبد من خالقه. وقد زخر المجتمع الإسلامي الأول بالعمل الاجتماعي وتنوعت أنواع وأشكاله، لذلك طالب الإسلام النهوض به وبشكل مضبوط ومنهجي قصد حياة طيبة تسودها الرفاهية والإخاء والمساواة لمختلف أفراد المجتمع، وحل مختلف الأزمات والمشاكل التي تواجه الفرد أو المجتمع.
وجاء الإسلام فنسخ أحكام المجتمعات السابقة. فحارب العصيان وهدم المبادئ الفاسدة والنزاعات الضارة، وقضى على المشاحنات، والعداوة، وأقام المجتمع على أسس واضحة ودعائم قوية، وحطم القيود التي كانت تفرق بين الناس بالجاه والجبروت، والقوة والطغيان والتكاثر بالأموال والأولاد، والتعالي بها على الغير، وجمع بين المسلمين برباط وثيق هو الإيمان بالله وحده، خالق الوجود، ومالك الناس، ومصدر الخير والرحمة للعالمين، وتمثل هذه العقيدة في دعم المجتمع وبنائه، وإقامة وحدته على أسس أصيلة مكانا فسيحا، فهي تجمع الناس على مبدأ واحد هو الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وذلك أصل جوهري عام في الأديان السماوية كلها، وأساس عريض ثابت في الشرائع الإلاهية جميعا. ثم تجيء التكاليف الدينية من عبادات ومعاملات لتكون مدداً لهذه العقيدة الأساسية، حيث تغذيها وتدعم أثرها في النفوس، لتعكس بين أفراده وجماعاته، وأيضا لتكون هذه التكاليف طريقا تنفذ منه أشعة الإيمان إلى أعماق النفوس.[30]
والعبادات شرعت لتهذيب النفوس، وتربية روح المساواة، وروح الاجتماع، الذي لا اعتداء فيه وإذا كانت العبادة لا تحقق تلك الأهداف، فهي ليست عبادة ولا يقبلها الله، وهي تجلب الذم لصاحبها.[31]
والعمل الاجتماعي يبدو واضحا بارزا في شعائر الإسلام وعباداته وتوجهاته ونظمه على السواء بل هي الفكرة القوية الشائعة في كيانه كله حتى شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تعني منهجا كاملا للحياة.
وليست العبادات في نظر الإسلام مجرد إقامة الشعائر الدينية والتوجه إلى الله عز وجل مع انقطاع وعزلة عن الأرض والحياة، بل هي الحياة كلها خاضعة لشريعة الله متوجها بكل نشاط فيها إلى الله تعالى، ومن ثم يعتبر الإسلام كل خدمة اجتماعية وكل عمل الخير عبادة ذات أجر عظيم عند الله عز وجل.[32]
قال رسول الله ﷺ: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل»[33]
ومن هنا يتضح للفقيه الذي يستلهم هذا الدين من مصادره الأولى، أن الإسلام دين الحياة بواقعها ودين الفطرة بدوافعها، حيث تتشابك المصالح في الحياة وتتزاحم الدوافع ويتكرر الأخذ والعطاء، وتكثر المبادلات بين الأفراد والمعاملات بين الجماعات، وتتفاعل القوى ويتنافس المتنافسون، فيندمج الفرد في المجتمع، كما يندمج البيت والأسرة في المجتمع، وكذلك تندمج المجتمعات الصغيرة في الدولة، وتندمج الدولة في الإنسانية جميعها، ولا بد أن تكون هذه العلاقات كلها مبنية على الود والرحمة والتضامن والتعاون والسلام.[34]
والشريعة الإسلامية إذن تتجه في أحكامها إلى تحقيق الأهداف الاجتماعية، وهي المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، فقد جاءت لتكوين مجتمع فاضل يضم الأسرة الإنسانية كلها، قاصيها ودانيها، فاتجهت إلى تربية المسلم ليكون عضوا في المجتمع، والعبادات الإسلامية والفضائل التي دعا إليها الإسلام تتجه إلى تحقيق هذه الأهداف وتوجيهه إليها.
فمثلا الزكاة تعاون اجتماعي يجعل للفقير حقا معلوما في أموال الغني، فهي تكليف اجتماعي خالص، ومصرفها اجتماعي خالص، ونظامها في الجمع والتوزيع لا يذل الفقير. ولا يجعل الغني يشعر بعزته فوقه، ولذا قال الفقهاء بالإجماع إن ولي الأمر هو الذي يجمعها، وهو الذي يوزعها على مصارفها.[35]
يقول ابن حزم (ت456هـ): «وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبِمَسْكن يكنهم من المطر والصيف والشمس، وعيون المارة.»[36]
والعمل الاجتماعي في الإسلام مغزاه ومؤداه أن يحس كل واحد في المجتمع بأن عليه واجبات لهذا المجتمع يجب عليه أداؤها، وأنه إن تقاصر في أدائها، فقد يؤدي ذلك إلى انهيار البناء عليه وعلى غيره، وأن للفرد حقوقا في هذا المجتمع يجب على القوامين عليه أن يعطوا كل ذي حق حَقَّهُ من غير تقصير ولا إهمال، وأن يدفع الضرر عن الضعفاء، ويسد خلل العاجزين، وأنه إن لم يكن ذلك تآكلت لبنات البناء، ولا بد أن يخر منهارا بعد حين.[37]
ومن هنا نخلص أن العمل الاجتماعي في المنظور الإسلامي، هي تلك الجهود الذاتية، والمبادرات التطوعية التي يقوم بها أولوا الغنى وذووا المروءة ليعينوا بها أصحاب الحاجات، أو ليسهموا بها في عمليات التنمية، أو ليخففوا بها عن كاهل الدولة، سعيا منهم إلى التقرب إلى الله عز وجل ابتغاء مرضاته، واحتسابا للثواب عنده، وإدراكا منهم أن الدولة لو تحملت – وحدها- مسؤولية التربية والتعليم لكل فرد فيها ووفرت فرص العمل لكل قادر، والمعاش الملائم لكل عامل، والرعاية لكل مسن أو عاجز عن الكسب، ثم التزمت – وحدها كذلك – ببناء جميع المساجد والمدارس والنوادي والحدائق ودور العلاج، وتكلفت بتسيير كل وسائل النقل: خاصها وعامَّها، ثم كفلت اليتيم، وآوت كل محروم. فالدولة إن حمّلت وحدها هذه الأعباء وغيرها لناء كاهلها، ولغرقت في بحار الديون من جهة، وكبلت نفسها بأعباء التخلف، وأغلال التبعية من جهة أخرى.[38]
وهي وحدها لا تستطيع القيام لأفرادها بكل الخدمات الإنسانية والاقتصادية. كما لا تستطيع الدولة أن تقوم بتنمية العلاقات الاجتماعية، ولا بتزكية القيم الإيمانية. وإنما يتم ذلك عن طريق السلوك الإنساني التلقائي، الذي يسارع المرء فيه إلى الاستجابة لداعي الله ورسوله ﷺ، والذي يتسم بالحركة النشطة المنطلقة من قاعدة الإيمان بالله واليوم الآخر، كما انطلق المسلمون الأولون، أولئك الذين امتازوا بأنهم كانوا يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون.[39]
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد كان رسوخ الإيمان في قلوب أولئك المسلمين أساسا لانطلاق المؤمن، لتحقيق شعبه العديدة وأركانه المختلفة، شدًا لأزر الدولة من جهة، وسعيا إلى تصديق الإيمان بالعمل، وتحرراً من سلطان الدنيا، ومتاهاتها، وتسخيرا للمال ليكون في خدمت الدعوة، ورعاية المجتمع، وتلبية إلى كل ما دعا إليه الكتاب العزيز والسنة المطهرة من توجيه وإرشاد سواء كان ترغيبا أم كان تكليفا.[40]
إذن فالمجتمع الذي ينظمه الإسلام يحكم بقواعد عامة، وهذه القواعد تبدو في الأسرة، وفي الجماعات، وفي الدولة، وفي العلاقات الإنسانية بين الناس مهما تختلف ألوانهم وأجناسهم وأديانهم، وهذه القواعد تتلخص في المحافظة على الكرامة الإنسانية، والعدالة بكل صورها، والتعاون العام، والمودة، والرحمة والمصلحة، ودفع الفساد في هذه الأرض.[41]
[1] التكافل الاجتماعي في الإسلام لعبد العال أحمد عبد العال. الشركة العربية للنشر والتوزيع القاهرة. سنة: 1997. الصفحة: 27.
[2] تنظيم الإسلام للمجتمع لأبي زهرة. ص:5 -6 -8.
[3] مقال بعنوان الرعاية الاجتماعية في الدولة الرومانية لرفاح العياصرة على موقع العربي بتاريخ 16 أكتوبر 2019 www.e3arabi.com
[4] تنظيم الإسلام للمجتمع لأبي زهرة ص:9.
[5] التكافل الاجتماعي لعبد العال أحمد عبد العال. ص: 31.
[6] زَوِيلَة بفتح الزاي وكسر الواو، وهي محلة كبيرة بالقاهرة (بينها وبين باب زويلة عدة محال سميت بذلك) لأن جوهرا غلام المعز لما بنى القاهرة جعلها خططا، فاختط أهل زويلة إفريقية في هذا الموضع فسمي بهم.
–المشترك وضعا والمفترق صقعا لأبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، عالم الكتب بيروت الطبعة:2 سنة:1986 الصفحة:336.
[7] التبر المسبوك في ذيل السلوك للسخاوي. مراجعة سعيد عبد الفتاح عاشور. تحقيق نجوى مصطفى كامل ولبيبة إبراهيم كامل مطبعة دار الكتب والوثائق القومية القاهرة. (بدون رقم طبعة) سنة: 2002. الجزء:1. الصفحة: 103-104.
[8] الانتصار لواسطة عقد الأمصار في تاريخ مصر وجغرافيتها. لإبراهيم بن محمد العلائي الشهير بابن دقماق. المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر. (بدون رقم طبعة ولا تاريخ) بيروت. الصفحة:42.
[9] حقوق الإنسان في اليهودية والمسيحية والاسلام. لخالد بن محمد الشنبير. البيان مركز البحوث والدراسات الرياض. سنة: 1435هـ. الطبعة:1.
ص: 550.
[10] المرجع نفسه ص:551.
[11] المرجع نفسه ص: 551
[12] حقوق الإنسان في اليهودية والمسيحية والاسلام ص: 551.
[13] حقوق الإنسان في اليهودية والمسيحية والاسلام ص: 549.
[14] العرب في العصر الجاهلي لديزيره سقال دار الصداقة العربية بيروت الطبعة:1 سنة:1995 الصفحة:87.
[15] المرجع نفسه ص:88.
[16] المرجع نفسه ص:86.
[17] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي طبعة جامعة بغداد الطبعة:2 سنة:1993 الجزء:6 الصفحة:368.
[18] الرحيق المختوم لعبد الرحمان المباركفوري دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع المنصورة الطبعة:21 سنة:2010 الصفحة.66.
[19] أخرجه البيهقي في سننه الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة باب إعطاء الفيء على الديوان رقم الحديث:13080 تحقيق محمد عبد القادر عطا دار الكتب العلمية بيروت الطبعة:2 سنة:2003 الصفحة:596.
[20] الرحيق المختوم ص.66.
[21] البحيرة: التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس.
[22] السائبة: كانوا يسيبونها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيء.
[23] الحوامي: جمع حام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شيء.
– تفسير ابن كثير تحقيق سامي بن محمد سلامة دار طيبة للنشر والتوزيع الرياض الطبعة:2 سنة:1999. الجزء: 3 الصفحة:208.
[24] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج/5 ص:610.
[25] الروض الأنف للإمام السهيلي تحقيق عبد الرحمان الوكيل دار الكتب الإسلامية مصر الطبعة:1 سنة:1967 الجزء:2 الصفحة:84-85.
[26] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج/6 ص:369.
[27] البداية والنهاية لابن كثير مكتبة المعارف بيروت (بدون رقم طبعة) سنة:1990 الجزء:2 الصفحة:217-218.
[28] رواه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب الدليل على أنه من مات على الكفر لا ينفعه عمل رقم الحديث: 365 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء الكتب العربية ودار الكتب العلمية بيروت الجزء:1 الصفحة:196.
[29] البداية والنهاية ج/2 ص:212-213.
[30] التكافل الاجتماعي في الإسلام لعبد العال أحمد عبد العال. ص:34.
[31] تنظيم الإسلام للمجتمع لأبي زهرة. ص:20.
[32] التكافل الاجتماعي في الإسلام لعبد العال. أحمد عبد العال. ص: 38.
[33] رواه البخاري في صحيحه كتاب الأدب، باب السعي على الأرملة. حديث رقم: 5547. تحقيق عبد القادر عطا. دار التقوى للتراث القاهرة. الطبعة:1. سنة 2001. الجزء:3. الصفحة:217.
[34] التكافل الاجتماعي في الإسلام لعبد العال. ص: 39.
[35] تنظيم الأسرة للمجتمع لأبي زهرة. ص:20.
[36] المحلى بالآثار لأبي حزم الأندلسي. تحقيق عبد الغفار سليمان البنداري. دار الكتب العلمية بيروت. الطبعة: 1 سنة 2003. الجزء:4. الصفحة:281.
[37] التكافل الاجتماعي لأبي زهرة. ص: 7.
[38] الرعاية الاجتماعية في الإسلام لمحمد بن أحمد بن صالح. مكتبة الاسكندرية. الطبعة:1. سنة: 1999.الصفحة:25-26.
[39] الرعاية الاجتماعية في الإسلام ص:28.
[40] المرجع نفسه ص:28-29.
[41] تنظيم الإسلام في المجتمع لأبي زهرة. ص: 25.