منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

اعتناء بني مرين بافتكاك الأسرى| الرعاية الاجتماعية في عهد بني مرين

الدكتور عبد اللطيف بن رحو

0

اعتناء بني مرين بافتكاك الأسرى| الرعاية الاجتماعية في عهد بني مرين

الدكتور عبد اللطيف بن رحو

يمكنكم تحميل كتاب العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م) من الرابط التالي

كتاب”العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م)

المبحث السابع: افتكاك الأسرى

منذ القرن السابع الهجري، نقلت الصليبية الحرب إلى شواطئ المغرب العربي، فكثر أسرى المسلمون لدى البرتغال، وإسبانيا، وإيطاليا، وكان واجبا على أولي الأمر أن يفتكوا أسراهم بكل الوسائل، بالإضافة إلى واجبات الخواص، ويشهد التاريخ أن أولي الأمر المغاربة بذلوا مجهودا مشكورا في هذا المجال، واستعملوا في ذلك ما وضعه الشرع الحكيم تحت أيديهم من موارد بيت المال. ومن هنا اندفع شعور التكافل بقوة الذاتية المغربية المسلمة، فوهبت هذه الذاتية ما تملك، فرادى وجماعات، لإنقاذ المسلمين من يد الصليبيين الحاقدة.
وراعت الشريعة الإسلامية جانب البعد الإنساني، ولم تنس المحاربين تحت رايتها خصوصا إذا وقعوا في محك الأسر، بل وطالبت بفدائهم من قيود الأسر سواء بتدخل الدولة أم المحسنين.
كما حرصت الشريعة الحنفية بإكرام الأسرى غير المسلمين، وخصتهم بمعاملة حسنة أثناء فترة الأسر مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ اَ۬لطَّعَامَ عَلَيٰ حُبِّهِۦ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيراً﴾ [سورة الإنسان الآية:8]، وهذا ما دفع المستشرق غوستاف لوبون يعترف باحترام الأمة الإسلامية للأسرى بالمعاملة الحسنة والرفق والرحمة والتكريم.
يقول المستشرق غوستاف لوبون: «فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ولا دينا سمحا مثل دينهم.»
ويمكن القول إن نظرة الإسلام إلى الأسرى تتلخص في عنصرين أساسين هما: حسن المعاملة إذا كان مأسورا عند المسلمين، إيجاد المنفذ لافتداء أسرى المسلمين إذا كانوا أسرى عند الكفار.
وذكر الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره للآية السابقة: «الأسير العبد من المسلمين إذا كان المشركون قد أجاعوا عبيدعم الذين أسلموا مثل بلال وعمار وأمه وربما سيبوا بعضهم إذا أضجرهم تعذيبهم وتركوهم بلا نفقة. والعبودية تنشأ من الأسر فالعبد أسير.
وجاء في الجامع لأحكام القرآن أن الأسير الذي يؤسر ويحبس. فروى أبو صالح عن ابن العباس قال:
الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم. وقاله قتادة. وروي عن ابن النجيح عن مجاهد قال: الأسير هو المحبوس. وكذلك قال سعيد بن جبير وعطاء: هو المسلم يحبس بحق. قال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. وقيل إن الآية نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلا حسنا، فهي عامة.

المطلب الأول: مفهوم الأسير

  • الفرع الأول: الأسير لغة

الأسير الأخيذ، وأصله من ذلك. وكل محبوس في قيد أو سجن أسير. يقال أسرت الرجل أسرا وإساراً، فهو أسير مأسور، والجمع أسرى وأسارى وأسرى.
وجاء في القاموس المحيط: الأسير الأخيذ والمقيد والمسجون جمع أسرى وأسراء وأسرى.

  • الفرع الثاني: الأسير اصطلاحا

عرفه الإمام الماوردي فقال: «الأسرى الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء.»
وذكر الكاساني عن الإمام أبي حنيفة النعمان أنه قال: «الأسير مقهور في يد أهل الحرب، فصار تابعا لهم.» وقال أيضا الإمام الكاساني: «الأسير هو الذي أسر وصار مملوكا.»
وعرفه فقهاء القانون الدولي: الأسير هو كل شخص يؤخذ لا لجريمة ارتكبها، وإنما لأسباب عسكرية.

المطلب الثاني: افتكاك الأسرى في العهد المريني

أبانت الدولة المرينية عن مجهوداتها في جانب افتكاك الأسرى، وتخليصهم من الأسر الذي وقعوا فيه سواء في المعارك أو غيرها. وبذلت العطاءات الكبيرة والسخية لافتداء الأسرى سواء من أموالهم الخاصة أم من بيت المال، إضافة إلى مساهمة المحسنين في هذه البادرة الطيبة الحسنة والمباركة.
ففي العصر المريني استولى بنوا الأحمر الأندلسيين على مدينة سبتة، ونفوا منها إلى الجزيرة الخضراء الأشراف الحسنيين، الذين كان لهم صيت واسع بسبتة، نظرا لقيام هؤلاء الأشراف بالخدمات الدينية والعلمية للأمة، مع إلتزام الاستقامة، وفي عرض البحر أسر الإسبان هؤلاء الشرفاء، فأسرع السلطان المريني أبو سعيد بن عبد الحق، وافتدى رئيس الشرفاء وأباه بثلاثة آلاف دينار، وافتدى بقية الأسرى، بحمل من المال.
يقول ابن مرزوق: « كان سيدنا الشريف الكبير الصالح التقي أبو عبد الله محمد بن أحمد أبي شرف الحسني السبتي رضي الله عنه قد أســره العدو (الإسبان) في بحر الزقـــاق وولــديه، وأظهر الله كــرامة آل بيـــته (عليه الصلاة والسلام) بأن عاملهم النصارى بخير ولم يتعرضوا لإهانتهما ولا لضربهما بوجه، غير أنهم طلبوا فيهم الفداء بالمال، فلما رفعت القضية لمولانا السلطان أبي سعيد رحمه الله تطارح عليه ولده مولانا أبو الحسن في أن يفتكهم من ماله، فأذن له، فشطط النصراني في الطلب إلى أن وقفوا على سبعة آلاف دينار من الذهب، فأخرجهما رضي الله عنه من ماله.»
والظاهر أن الأوروبيين كانوا دائما يعقدون مسألة تحرير الأسرى، ويفضلون دائما أن يكون هذا التحرير بالمال وليس بتبادل أسير بأسير، حيث يتسنى لهم الاحتفاظ بالأسرى المسلمين إما كعبيد وإما أن تمنح لهم حريتهم مقابل تنصرهم، وفي كلتا الحالتين أمر خطير. وهذا هو الدافع الذي جعل المحسنين يقبلون على وقف مجموعة من العقارات لكي يصرف مدخولها في افتكاك الأسرى المسلمين والحيلولة دون بقائهم عبيدا أو متنصرين، ونملك وثيقة وقفية وردت ضمن الحوالات السليمانية والمؤرخة سنة 994ه تشير إلى ثلاث وصايا للأوقاف على الأسرى:

1 -وصية المحسن الكبير الشيخ أبي مروان عبد الملك بن حيون المتوفى سنة 599ه. وذلك بتخصيص الثلثين من العقارات الموقوفة على الأسرى والثلث الباقي على المساكين، وعند غلاء الأسعار تحول ثلثا الأسرى للمساكين ليستعينوا بها على الغلاء، وقد جعلها كلها رهن نظارة أوقاف القرويين. وتأتي في

مقدمتها 24 حانوتا ثم 14 عرصة جنان، وفندق للتجارة ودار ونصف وربع حمام بالإضافة إلى فيض ماء.
2 -وصية السلطان المريني أبي فارس عبد العزيز بن أبي العباس، وتتضمن هذه الوصية أرحتين وثلاثة حوانيت وعقارات أخرى وجميعها بمدينة فاس. واستمر العمل بهذه الوصية لمدة ستة قرون.

3 -وصية مجهولة الموصى بها وهي عبارة عن حانوت بمدينة فاس، وبدون شك كانت مختلف مداخيل هذه العقارات تفي بالغرض التي وضعت من أجله والدليل على ذلك استمرار العمل بهذه الوصيات لمدة تفوق ستة قرون، أي منذ سنة 599ه تاريخ وفاة ابن حيون ومرورا بسنة 994ه، ومرورا أيضا بسنة1115ه وصولا إلى سنة 1219ه وهو تاريخ كتابة الوقفية في الحوالة، وبذلك ساهمت مداخيل هذه العقارات في مصاريف افتكاك الأسرى بفاس منذ عهد الدولة المرينية ومرورا بالدولة الوطاسية والسعدية والعلوية إلى حدود حكم المولى سليمان.
وتفيدنا نازلة أخرى من نوازل الونشريسي، أن امرأة أوصت بجزء من أملاكها لأحد الأسرى.
كما نلاحظ أن بعض الموسرين في بلدة ما كانوا يوصون عند شعورهم بدنو أجلهم في حالة حدوث وباء بجزء من أملاكهم لفداء الأسرى وبعض جهات البر والخير.

وجاء في فيض العباب أن السلطان أبا عنان المريني، وقع عزمه الشريف أن لا يترك بلداً من بلاده الساحلية إلا ويثبت فيها حبسا للافتداء، ويعده هنالك متأهبا للنداء، لأنه ربما أتى العدو بالأسرى في أجفانه، وطلب إحضار فديتهم أسرع من رجع أجفانه، لخوف من عدو آخر يطلبه ويرغب في إيحانه، ويسارع لتخضيعه وإقرانه(إبقائه في نفس المكان) وينوء عليه بالكلكل ضرابه وطعانه، أو إسراعا لانتهاز فرصة جعلها العزم في ضمانه، أو خوف نفاذ زاد يتعذر بيعه وإن أثمن فيه بحق أثمانه، فلا يؤلف للعدو ما يطلبه من المال ولا يستقضي إحضاره عن أولي الأصفاد والأغلال، إلا وقد انصرف العدو عن الساحل، وانكفأ بالعناة الذين أسلمتهم صدور الرماح إلى السلاسل، فتكاد النفوس تذهب عليهم حسرات، والقلوب تتصدع وجداً وزفرات. ولا يزداد الأسرى إلا شجونا محتوشة الأوار. (شدة العطش وقوة البأس)

يبدو من كلام النميري أن السلطان أبا عنان خص أملاكا محبسة في سواحل بلاد المغرب لفداء الأسرى سواء من الإسبان أم البرتغال، وهي مزية ومبرة عظيمة من قبل السلطان، الذي حلت بركته بهذه المنقبة. ومن مزاياه أن أبا عنان كان يفتدي حتى الأسرى من الأقطار الأخرى ولا تدخل في مجال حكمه، بل كانت محبته للخير تتعدى الحدود. فقد افتدى مدينة طرابلس حين استولى عليها العدو بمقدار كبير من المال، ليسترجعها منهم.
يقول ابن جزي: «حسب المتشوف إلى علم ما عند مولانا أيده الله ونصره من سداد القطر إلى المسلمين، ودفاع القوم الكافرين، ما فعله في فداء مدينة طرابلس إفريقية. فإنها لما استولى العدو عليها،

ومد يد العدوان إليها، ورأى أيده الله، أن يبعث الجيوش إلى نصرتها لا يتأتى لبعد الأقطار، كتب إلى خادمه ببلاد إفريقية أن يفديها بالمال. ففديت بخمسين ألف دينار من الذهب العين. فلما بلغه ذلك قال: الحمد لله الذي استرجعها من أيدي الكفار بهذا النزر اليسير. وأمر للحين ببعث ذلك العدد إلى إفريقية، وعادت المدينة إلى الإسلام على يده. ولم يخطر في الأوهام أن أحداً تكون عنده خمسة قناطير من الذهب نزرا يسيرا حتى جاء بها مولانا أيده الله مكرمة بعيدة، ومأثرة فائقة، قل في الملوك أمثالها وعز عليهم مثالها.»

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.