اعتناء بني مرين برعاية المسجونين | الرعاية الاجتماعية في عهد بني مرين
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
اعتناء بني مرين برعاية المسجونين | الرعاية الاجتماعية في عهد بني مرين
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
يمكنكم تحميل كتاب العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م) من الرابط التالي
المبحث السادس: رعاية المسجونين
لجأت مختلف المجتمعات إلى السجن وسيلة للعقاب، وقد أشار القرآن الكريم إلى السجن في سورة يوسف قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اِ۬لسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِے إِلَيْهِ﴾ [سورة يوسف الآية:33].
وقال أيضا: ﴿فَلَبِثَ فِے اِ۬لسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَۖ﴾ [سورة يوسف الآية:42].
ودون الخوض في المقاصد الدينية والفلسفية لوجود السجن، فإنها تروم تقويم سلوك الجانح وحماية المجتمع من العناصر الخطرة، وإعادة الاعتبار لضحايا سلوك الجانحة، وتقديم العبرة لمن هو في الحاجة إليها. وفي حالة سجن «الفعل السياسي» فإن السلطة القائمة تبتغي منه تكميم من تعتبر خارجين عنها، أو الحد من تحركاتهم، أو القضاء عليهم. إن البحث في تاريخ السجن والسجناء بالمغرب الوسيط، هو بحث في تاريخ التهميش والمهمشين. فالسجن في منظور السجان والمجتمع خارج عن الضوابط المتعارف عليها. إن فضاء السجن يبعث على التقزز ويوحي بالظلمة، حتى إن كثيرا ما تأتي صفة الغياهب ملازمة للسجون.
وينعكس مثل هذا الموقف على حضور مادة السجن والسجناء بالمصادر التاريخية، فالأمر لا يعدو أن يكون مجرد لمع وشذرات وردت في الغالب بالمصادر الإخبارية بصفة شاردة. فقد بادر السلطان المريني أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بعد توليته السلطة إلى إخراج الصدقات إلى الضعفاء وتسريح المسجونين في جميع البلاد. وبعد وصول أبي ثابت المريني إلى الحكم، أمر بتسريح من يوجد بسجن فاس. واقتفى السلطان أبو سعيد الأثر ذاته عند بيعته بأن سرح أهل السجون، واستثنى منهم أهل الفساد في الأرض وأصحاب الدماء ومن حبس في حق شرعي.
ومن أهم مقاصد الكتابة لدى الاخباريين، تقديم صورة عن الحاكم «المثال» الذي نجح بفعل سطوته في بث الأمن بالبلاد، ودانت له العباد. وإذا كانت المصادر الإخبارية تتحدث عن فعل الاعتقال، فإنها -في الغالب- عند حدود إعطاء الأمير أو الولي أوامر اعتقال الخارجين عن الحكم أو تنفيذه فيهم. ومما يسجل على بعض المصادر التي اتخذت من المدن فضاء لها، أنها لم تقدم أي إشارة عن سجونها. فهذا كتاب «اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار» للسبتي، يصف مختلف المكونات العمرانية للمدينة ويعددها انطلاقا من المساجد والخزائن العلمية والأسواق والربط والزوايا، والحمامات والفنادق والسقايات والطواحن… دون الإشارة عن سجن المدينة. قد يفسر ذلك بغياب فضاء خاص بالسجن في المدينة، وقيام بعض الدور مقام السجن.
كذلك أشار الجزنائي الذي أفرد كتابه جنى زهرة الآس للحديث عن تاريخ فاس وعمرانها، لا يشير إلى السجن، والملاحظة ذاتها تنسحب على كتاب روض القرطاس لابن أبي زرع.
المطلب الأول: مفهوم المسجون
- الفرع الأول: المسجون لغة
من سجن سجنه سجنا بمعنى حبسه فهو مسجون وسجين جمع سجناء، وسجنى وهي مسجونة وسجينة. ويقال سجن لسانه. والسجن المحبس. والسجين (بكسر فشدة) كسكين موضع السجن، ومكان فيه كتاب الفجار. وسجن الهم: لم ينشره ولم يظهره.
- الفرع الثاني: المسجون اصطلاحا
عرفه ابن القيم فقال: «المسجون هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه سواء كان في بيت أو مسجد.»
عرفه الكاساني بقوله: «منع الشخص من الخروج إلى أشغاله ومهماته الدينية والاجتماعية.»
وقيل المسجون هو الذي وضع في محل معين، استبراء لأمره، أو جبرا على الوفاء، أو عقوبة له بسبب يقتضي ذلك. وقيل أيضا المسجون هو الذي تم امساكه ووضعه في مكان معين لتعويقه ومنعه من الخروج لمزاولة نشاطه.
هذه جملة من بعض التعاريف المصطلحية للسجين والتي تتفق في معناها على مدلول متقارب.
المطلب الثاني: الرعاية الاجتماعية للمسجونين في العهد المريني
يصعب الظفر بمعطيات كافية عن الضوابط والإشارات التي تبين الإنفاق على المسجونين خلال فترة الحكم المريني، فهناك لمحات وإشارات طفيفة حول موضوع السجن والسجناء وعن الرعاية التي كانت تقدمها سواء السلطة أم المحسنين، وكذلك المعطيات عن سير الحياة اليومية داخل السجون.
فمبادرة رعاية المسجونين ساهمت في رفع الضرر عنهم زمن بني مرين، وكانت جد طيبة وحسنة بل وأثمرت بذورها، خاصة حينما يساهم سلاطين الدولة في إنجاح هذه البادرة الفريدة من نوعها. وإن كانت هذه الجوانب مسكوت عنها في المصادر التاريخية، باعتبارها من الأمور الحساسة خصوصا إذا تعلق الأمر بالخصوصيات السياسية، ولا يسعنا في هذا المقام سوى الوقوف عما جاء ذكره في قريحة المؤلفات التاريخية التي أشارت للرعاية الاجتماعية للسجناء.
تكاد المصادر التاريخية الإخبارية الرسمية تقرن وصول أي حاكم جديد للسلطة بذكر مناقبه، بما فيها تسريحه للسجناء، فبمجرد بيعة أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني وتسلمه مقاليد الحكم، حتى بادر إلى تسريح من في السجون. إن تسريح السجناء من لدن الحاكم عند وصولهم إلى السلطة، يقترن بمناقب أخرى كتفريق الأموال والصدقات على المحتاجين ورفع المظالم، وعلاوة على هذا حصول بعض حالات العفو عند وصول الحاكم الجديد إلى السلطة.
وكتب النميري عن السلطان أبي عنان المريني فقال: «وأمر بإخراج أموال عظيمة من طيب كسبه، وتخير ذلك تخيرا دل على طهارة قلبه، وعين لكل بلد من بلاده قسطا معلوما، وحظا يبرز كتابه مرقوما. وأمرني أيده الله أن أكتب عنه إلى جميع الأقطار وعامة الأمصار، بأن جميع من هو في السجون من الضعفاء الذين عجزوا عن أداء ما عليهم من الديون فتؤدى ديونهم من ذلك المال، ويطلق سراحهم من الاعتقال… وأمر رضي الله أن يتصل ذلك العمل على الدوام، وتعاقب الليالي والأيام. وأخرج المعتقلين من بيوت كانت للأكباد صادعة، وفتحت أبواب لم تزل لأيدي أولي الأيد دافعة، ونسي تصور السجون وقد كانت حدودها جامعة مانعة، فلا يسمع السامعون إلا أدعية بموارد القبول شارعة، وشكرا لا تزال أخباره مستفيضة شائعة.
كما وفرت الدولة للمسجونين الصدقات الوافرة داخل سجنهم في جميع بلاد المغرب، وكانت هذه الصدقات عبارة عن خبز مخبوز ينتفع به هؤلاء السجناء يوميا.
قال ابن جزي: «ومنها تعيين الصدقة الوافرة للمسجونين في جميع البلاد أيضا، ومنها كون تلك الصدقات خبزا مخبوزا متيسرا للانتفاع.»
وصدر عن السلطان أبي عنان المريني أمره بالرفق بالمسجونين، ورفع الوظائف الثقيلة التي كانت تؤخذ منهم، ما هو اللائق بإحسانه، والمعهود من رأفته، وشمل الأمر بذلك جميع الأقطار.
وأما عن مصادر الإنفاق على المسجونين، فقد دأب السلاطين على أن يجروا عليهم ما يقوتهم في طعامهم وإدامهم وكسوتهم في الشتاء والصيف. بينما كان السجناء يتحملون جزء من تلك المصادر، إذ كان العامل يأخذ مثقالا وربع مثقال عن كل محكوم عليه، إضافة إلى بعض المغارم من كل سجين تدفعها عنه طائفة من التجار والصناع المعينين لهذا الغرض. وكان السلطان أبو عنان أحد السلاطين المرينيين الذين دأبوا على الإنفاق على السجناء لإطلاق سراحهم، قد كلف بذلك ابن الحاج النميري الذي كتب رسالة تأمر بأداء الديون عن السجناء الذين لم تسمح لهم ظروفهم المادية بتغطيتها. أما أجرة السجان فكان على السجين توفيرها، ما عدا في حالة تبرئة المتهم بدم. فآنذاك يوفرها القائم ضد المتهم. ودائما في سياق الإنفاق على السجون، يستفاد من إحدى النوازل أن إصلاحها أو بناها كان يتم اعتماداً على مال المخزن.
وجاء في المعيار المعرب أن أموال الأحباس كانت تنفق على المسجونين باعتبارها إحدى أهم مصادر الإنفاق. فقد سئل الونشريسي عن وقف المسجونين عن إمكانية استفادتهم من مال الأحباس، فقال: «أما صرف غلات الأحباس بعضها في بعض فيجوز على وجه المسالفة بشرط أن يكون المسلف منه غنيا لا يحتاج إلى ما أسلف منه لا حالا ولا استقبالا، وأما ما وقف على المساكين كما ذكرتم، وعلى الحجاج والمسجونين، وعدموا. فأما المساكين فلا يعدمون هنا، بل جل أهل بلدتهم مساكين، فيفرق عليهم بالاجتهاد، وأما الحجاج وأهل السجون فتوقف غلات أحباسهم حتى يوجدوا.»
كما تبرز لنا حقيقة قوامها أن العيش داخل نفس الفضاء السجني، يجعل السجناء يتجاوزون مراتبهم الاجتماعية، فبالسجن تختفي كل الألقاب وصيغ التراتبية، بما أن الكل يتجرع مرارة فقدان الحرية. كما أن القاضي أبا حاتم العاملي الذي اعتقل بسجن فاس المرينية، يتحدث عن وجوده إلى جانب سجناء من مختلف الشرائح الاجتماعية. وربما هذا لا ينسجم مع دعوات بعض الفقهاء إلى ضرورة الفصل بين السجناء، حسب نوعية التهمة المنسوبة إليهم.
ولا تسعفنا المادة التاريخية حول معرفة نوعية الأغدية المقدمة للسجناء، وإن كانت بعض اللقطات المتوافرة تفيد أنها كانت رديئة جدا، وعلى حسب ما ذكر كان يقدم للسجناء الخبز المخبوز كإعانة لهم.
وفي مجال العبادات خصصت الدولة المرينية للسجناء داخل سجنهم، إماما راتبا يدخل عليهم أوقات الصلاة فيصلي بهم الصلوات الخمس.
وحددت الدولة لهم أوقات لزيارة الأهل والأحباب والأصدقاء، وهو من باب رعاية الجانب النفسي للمسجونين.
وعرف عن السجن منقبة تعلم القرآن الكريم من طرف بعض الصلحاء الذين دخلوا السجن، وقد جادت علينا بعض النصوص المؤرخة في كتب التاريخ عن مناقب الشيخ أبي العباس أحمد المقري، حين حاصر السلطان أبو يعقوب يوسف بن يعقوب المريني مدينة تلمسان فأدخله السجن ووجد بداخله خلائق لا تحصى فأرشدهم إلى الصلاة وأمرهم بقراءة القرآن الكريم، وكان عدد السجناء يفوق السبعمائة رجل، وكان الناس يقصدونه بالسجن لتجويد القرآن الكريم.
واعتبرت المارستانات حسب لوتورنو سجنا للمرضى، وأن فكرة السجن مرتبطة بفكرة المستشفى، وكان يسجن فيه المريض الذي يعاني من اضطرابات نفسية. أما فيما يخص المنظومة الطبية للسجناء، فكانت الدولة المرينية هي التي تتكفل بتخصيص الواجب الصحي لهم.
والمصادر التاريخية خلال فترة حكم الدولة المرينية، لم تسجل بين طياتها أية معطيات حول إعانة أهالي المسجونين. وهنا نطرح السؤال هل كانت الدولة تقدم منحا للأسر التي لا تجد من يعيلها والتي تعرض أربابها إلى قضاء فترة العقوبة داخل السجن؟ فيبقى هذا السؤال مطروحا حتى نعتر على نص صريح يجيب على هذا التساؤل.