صدقات وإحسانات متنوعة لبني مرين | الرعاية الاجتماعية في عهد بني مرين
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
صدقات وإحسانات متنوعة لبني مرين | الرعاية الاجتماعية في عهد بني مرين
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
يمكنكم تحميل كتاب العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م) من الرابط التالي
المبحث الحادي عشر: صدقات وإحسانات متنوعة
الصدقة هي تعامل مع الله عز وجل في إنفاق المال الذي سخره لعبده، حتى يتحقق منهج الله وسيادته في الأرض. فالتصدق هو الإنفاق في سبيل الله وهو مصدر تمويلي احتياطي، أوجبه الله تعالى، بجانب فريضة الزكاة. والإنفاق في سبيل الله يتخذ إحدى طريقتين:
الأولى: الإنفاق لتلبية حاجات المجتمع ككل، ممثلا في الدولة، بما تقدمه الأخيرة من خدمات لفائدة المجتمع على مختلف المستويات، كالتعليم والتطبيب، وتوفير المواد الغدائية بالأسعار المناسبة.
والثانية: الإنفاق لتلبية حاجة فئة أو أفراد من المجتمع، لا تتوفر لهم الكفاية.
وفي كلا النوعين إذا استجاب أفراد المجتمع لكلمة الله، فبها ونعمت، وإذا لم يستجب الأفراد كان للدولة أن تتدخل بمالها من سلطات، لفرض التمويل اللازم، فيفرض على كل مواطن حسب قدرته واستطاعته.
ومن أهم ما رغب فيه الإسلام من الصدقات الصدقة الجارية -الدائمة- فقد جعل الإسلام لها جزءا متميزا عن غيرها من الصدقات، لبقاء أثرها، ودوام نفعها، فكان ثوابها دائما باقيا لصاحبها بعد موته ما بقي نفعها.
والله تعالى ذكر في كتابه العزيز الآيات الدالة على فعل الخير والتصدق بما تجود به النفس على كل فقير ومسكين، وصاحب حاجة وابن السبيل وفي الرقاب. قال تعالى: ﴿ مَّثَلُ اُ۬لذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ اَنۢبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِے كُلِّ سُنۢبُلَة مِّاْئَةُ حَبَّةۖ وَاللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَنْ يَّشَآءُۖ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌۖ﴾ [سورة البقرة الآية:260].
جاء في الآية الكريمة نوع من التحريض على الإنفاق في سبيل الله، الذي يثير في نفوس السامعين الاستشراف لما يلقاه المنفق في سبيل الله يومئذ بعد أن أعقب بدلائل ومواعظ وعبر. وقد شبه حال إعطاء النفقة ومصادفتها وما أعطي من الثواب لهم بحال حبة أنبتت سبع سنابل. وضاعف الأجر للمتصدق أضعافاً كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى، لأنها تترتب على أحوال المتصدق وأحوال المتصدق عليه وأوقات ذلك وأماكنه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا طيبا- وإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل.»
قال الإمام ابن حزم: «وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقيموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكاة بهم، ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبِمَسْكَنٍ يُكِنهم من المطر والصيف والشمس، وعيون المارة.
المطلب الأول: مفهوم الصدقة
- الفرع الأول: الصدقة لغة
الصدقة: ما أعطيته في ذات الله للفقراء. والمتصدق: الذي يعطي الصدقة. والصدقة ما تصدقت به على المساكين، وقد تصدق عليهم. والمصدق القابل للصدقة والمتصدق الذي يعطي الصدقة.
والصدقة ما يعطى على وجه القربى لله لا المكرمة. ونقول تصدق عليه أعطاه الصدقة.
- الفرع الثاني: الصدقة اصطلاحا
عرفها الشيخ الأصفهاني فقال: «الصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوع به والزكاة للواجب، وقد يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبها الصدق في فعله.»
المطلب الثاني: صدقات السلاطين المرينيين
تابع المرينيون طريق البر والإحسان في كل الميادين الاجتماعية وخاصة جانب الصدقات. وبذلك لم يبخلوا على أهل الاحتياج من العامة والخاصة، في مد جسور المودة والرحمة إليهم وكان ثباتهم على العطاء والكرم لا يكبح، فأرخوا سدال العطاء وأكرموا الفقير والبائس والعالم والرحالة، فكان عهدهم عهد العطاء بامتياز.
وسنقف في هذا المطلب على مجموعة من الصدقات والمبرات، التي وجهت للضعيف والمريض والمسكين بل تعدت إلى الحيوان والطيور.
- الفرع الأول: صدقات السلطان يعقوب بن عبد الحق
كان السلطان يعقوب كثير البر والإحسان والصدقة، وهذا مما يذكر في مآثره الحميدة. يقول صاحب الإستقصا:» كان صواما قواما دائم الذكر كثير البر لا تزال سبحته في يده مقربا للعلماء مكرما للصلحاء. أجرى على المرضى والمجانين نفقات من بيت المال، وكذا فعل بالجذمى والعمي والفقراء رتب لهم مالا معلوما. وأجرى المرتبات على طلبة العلم، ابتغاء ثواب الله تعالى.»
يقول ابن أبي زرع كتابه الأنيس المطرب:» ولما دخل حضرة مراكش أمن أهلها وقبائلها وأحسن إليهم وأفاض العدل فيهم.»
ولما تم الصلح بين السلطان يعقوب بن عبد الحق ويغمراسن بن زياد، سر بذلك السلطان يعقوب سرورا عظيما، وتصدق بمال جليل شكرا لله تعالى.
ولما انتصر السلطان يعقوب على الدون نونيو دي لارا أمر بإخراج الصدقات وأعتق الرقاب شكرا لله تعالى.
وحينما فتح الله الجزيرة الخضراء على يد جيوش بني مرين، وجاءت البشرى تزف إلى السلطان يعقوب سجد شكرا وحمدا لله تعالى، ثم أمر بإخراج الصدقات وتسريح السجون، وعمل المفرجات وضرب الطبول في جميع بلاده.
وأنشد الأديب البارع عبد العزيز المكناسي قصيدة ذكر فيها غزوات السلطان يعقوب بن عبد الحق، وامتدح فيها قبائل بني مرين ورتبهم على منازلهم، وذكر فضائلهم وقيامهم بالجهاد وأمر الدين، وذكر قبائل العرب على اختلافها… فأنشدها بين يديه بمجلسه الفقيه عبد الرحمان الفاسي المعروف بالغرابلي، وأمير المسلمين يصغي إلى إنشادها، وجميع أشياخ بني مرين، حتى أتى على آخرها، وقبل يد السلطان فأمر للقارئ بمئاتي دينار، وأمر للناظم بألف دينار وخلع له ثيابا ومركوبا.
ومن أبيات هذه القصيدة التي تشير إلى العطاء والصدقة قوله:
أبو يعقوب مولانـــــــــــــا المرَجَّى
لدفع الخطب إن أرسى ونابـا
هو الملك الذي أعطى وأَقْنَى
وصَيَّرَ طَعْم عيش مستطـــــابــــــا
وفي سنة 684ه/1285م لما بنيت زاوية تافرطست على قبر الأمير المرحوم عبد الحق تصدق عليه أمير المسلمين ولده(يعقوب) بمحرث أربعين زوجا.
وتوصل أشراف آل البيت في عهد السلطان يعقوب بنفحات مالية من بيت المال، بحجة أن الإسلام ينص على حق آل البيت في موارد بيت المال، كمحتاجين أولا، وكأشراف ثانيا، وهكذا فرض السلطان يعقوب فريضة لعدة من أشراف المغرب. حيث اصطحب السلطان يعقوب في غزوة له بالأندلس، عبد الواحد بن عبد الرحمان من الشرفاء الطاهرين بمكناس، ولما عاد السلطان من الغزوة، منتصرا أجرى له ببلدة مكناس، الجرايات السنوية والشهرية، التي توارثتها ذريته من بعده.
- الفرع الثاني: صدقات السلطان يوسف بن يعقوب
لما تم الأمر للسلطان الجديد يوسف بن يعقوب واستقامت له الخلافة، أحسن إلى الفقهاء والصلحاء، وأخرج الصدقات إلى الضعفاء، وتصدق بترك الفطرة على الناس. وحينما أمر صلحاء المغرب بالمشي إلى الحجاز، بعث أموالا كثيرة برسم التفريق على أهل مكة والمدينة.
وتعدى إحسان السلطان يوسف بن يعقوب وصدقاته إلى الأسر الشريفة، وبعض حفدة الأولياء خصوصا أسرة الأمغاريين الحسنيين لأصولهم الشريفة نسباً، وفخر الصنهاجيين الجداليين الساكنين في المغرب بالناحية المعروفة الآن بصنهاجة أزمور، بعين الفطر. وقد رسم لهؤلاء الأمغاريين بسبب نسبهم الرفيع وشرف بيتهم مع كمال ما لهم من الصلاح من شفوف مزيتهم، يأخذون في كل عام من مال المخزن المستفاد جمعه من صنهاجة على الوجه المرضي شرعا مرتبهم الذي هو مائة دينار من الذهب العين المنعم به عليهم من الجانب المولوي اليوسفي العبد الحقي يقبضونها ممن كان ولي صنهاجة كائنا من كان ويقسمونها على ما جرت عادتهم في ذلك إعانة لهم على ما هم به.
وعلى هذا يكون أبو يعقوب يوسف، قد أنعم على هؤلاء الأمغاريين بقدر من المال معلوم في العام.
وشملت أعطيات السلطان يوسف بن يعقوب المريني وصدقاته فئة الجنود والعسكر، فكان يجزل لهم العطاء.. وهذا ما أكده ابن خلدون إذ قال: «واعترض عساكره وأجزل أعطياتهم وأزاح عللهم.»
- الفرع الثالث: صدقات السلطان أبي سعيد عثمان المريني
نقف في هذا المقام على ما كتبه المؤرخ الناصري عن مبرات السلطان أبي سعيد، فحين عم قحط سنة 711ه بالمغرب فاستسقى الناس وخرج السلطان أبو سعيد ماشيا على قدميه لإقامة سنة الاستسقاء وذلك يوم الأربعاء 24 شعبان من السنة المذكورة، وتقدمت أمامه الصلحاء والفقهاء والقراء يدعون الله تعالى، وقدم بين يدي نجواه صدقات، وفرق أموالا.
- الفرع الرابع: صدقات السلطان أبي الحسن المريني
تميز السلطان أبو الحسن عن غيره من سلاطين بني مرين بمبراته وصدقاته المتنوعة لكل فئات المجتمع الذي ساد تحت حكمه وسلطته، حتى قال عنه بعض المشارقة في حقه: «ملك أضاء المغرب بأنوار هلاله، وجرت إلى المشرق أنواء نواله وطابت نسماته واشتهرت عزماته.»
ويحكي لنا صاحب مآثره ابن مرزوق وكاتب سيرته فيقول: «كان يؤتى بثياب الصوف التلمسانية الخالصة، فيتخير أجودها ويعطيه لجالسه، ويتخير لنفسه أدناها.»
وكان عطاؤه للشرفاء، وخصوصا الواردين عليه من الحرمين من الحسنيين، فهو مما لا يدخل تحت الحصر. وكان الشريف إذا ورد المغرب ثم عاد منه، يصير نزهة وأعجوبة في البلاد التي يمر عليها. وأما سائر شرفاء بلاده كسائر الجوطيين رضي الله عنهم الأدارسة الأصلاء والداخلين في ترجمتهم وهم الصلحاء الصرحاء بالمغرب، كشرفاء مراكش من بني عمهم، وأولاد بركات، والقضاة والحسنيين بسبتة وأولاد أبي الشرف، السادة الكبراء وأمثالهم من اشتهر نسبه، والتلمسانيين القاضي أبو علي السبتي، وكالفقهاء العلويين، فلكل منهم جرايات كافية ومرتبات شهرية على قدرهم ذكورهم وإناثهم مع الكسوة الجارية في سابع المولد.
يقول الجزنائي: «وقد بالغ مولانا أبو الحسن رحمه الله في الإحسان لجميع الشرفاء القرباء منهم والبعداء، وبعث قاضي حضرته الأشهر، وعالمه الأكبر إبراهيم بن عبد الرحمان بن أبي يحيى رحمه الله لسائر بلاده مميزا لأعيانهم، ومختبرا لأنسابهم، حتى ثلج صدره بصميم نسبهم، وصريح حسبهم.»
وحين يصيب البلاد القحط، ويمنع القطر من الأرض، يخرج أبو الحسن إلى محاويج أهل البلاد عموما، زرعه المختزن الخاص به، فيقيم به أود المحاويج عموما في كل ليلة بطول الجذب.
وكان أبو الحسن المريني يختص خواصه والفقهاء والطلبة بطعامه، ويحضر هؤلاء طعامه غداء وعشاء، وهذا جراية من طعامه.
كما عمل على تمهيد طرق المسافرين، بأن أسكن أهل الوطن في خيام وأقطع لهم من الأرض يعمرونها على قدر الكفاية ثواباً على سكنى المواضع المذكورة، يلزمون فيها ببيع الشعير والطعام وما يحتاجون إليه المسافرون.
وكان دأب السلطان أبي الحسن المريني، إذا أنعم الله عليه بنعمة قابلها بالشكر والصدقة، فيسجد لله شكرا ويخرج الصدقات.
ومن صدقاته على أهل العلم، ما جاد به في مدينة تلمسان، رفع منزلة ابني الإمام، واختصهما بالشورى في بلدهما، وكان يستكثر من أهل العلم في دولته، ويجري لهم الأرزاق، ويعمر بهم مجلسه.
وفي الأعياد الدينية كان السلطان أبو الحسن المريني يتصدق على كل فقير ومسكين ومحتاج، خصوصا عيد المولد النبوي، الذي كان يكثر فيه الصدقة وأعمال البر.
وقد أورد لنا الونشريسي كلاما للشيخ ابن مرزوق(781ه)، يقول فيه: «في جنا الجنتين في شرف الليلتين: سمعت شيخنا الإمام أبا موسى بن الإمام رحمة الله عليه وغيره من مشيخة المغرب، يحدثون فيما أحدث في ليالي المولد في المغرب، وما وضعه العزفي في ذلك، واختاره في ذلك ولده الفقيه أبو القاسم وهما عن الأيمة، فاستصوبوه واستحسنوه ما قصده فيها والقيام بها، وقد كان نقل عن بعض علماء المغرب إنكاره، والأظهر في ذلك عندي ما قاله بعض الفضلاء من علماء المغرب أيضا وقد وقع الكلام في ذلك فقال ما معناه: لا شك أن المسلك الذي سلكه العزفي مسلك حسن، إلا أن المستعمل في هذه الليلة الصلاة على النبي ﷺ والقيام بإحياء سنته، ومعونة آله، ومساهمتهم وتعظيم حرمتهم، والاستكثار من الصدقة وأعمال البر، وإغاثة الملهوف، وفك العاني، ونصر المظلوم.»
ونستنتج مما أورده الونشريسي أن الاحتفال بالمولد النبوي كان يلقى اهتماما كبيرا من قبل ولاة الأمر وسائر طبقات المجتمع المغربي، فيكثر فيه الصدقات على الفقراء والمساكين واليتامى وإعداد أطعمة لهم.
كان السلطان أبو الحسن المريني يقدم العطايا لقواد العسكر والقضاة والأئمة والخطباء والحاشية في كل من عيد الفطر، وعيد الأضحى، والمولد النبوي، فيعطي هؤلاء في ليلة عيد الأضحى مائة من الغنم لكل واحد، ورأسا للنفر من الجند، وفي ليلة المولد يوزع مائة ألف دينار على الفقهاء والأشراف والطلبة والحفاظ، ومن يحضر المولد من العلماء والقضاة وغيرهم ممن يقوم بمهمة في ليلة عيد المولد، فيأخذ كل منهم من عشرة إلى مائة دينار.
كما كان السلطان أبو الحسن المريني يقدم إحسانات وصدقات للجيش فلهم إقطاعات وإحسانات من رأس السنة إلى رأس السنة. وللأشياخ الكبار على السلطة يكون لكل واحد منهم في كل سنة عشرون ألف مثقال من الذهب، يأخذها من قبائل وقرى وضياع وقلاع، ويتحصل له من القمح والشعير والحبوب في تلك البلاد نحو عشرين ألف وسق، ولكل واحد مع الإقطاع الإحسان في رأس كل سنة وهو حصان بسرجه ولجامه، وسيف ورمح محليان، وسبنية وهي بقجة قماش، فيها ثوب طرد وحش مذهب إسكندري، طوله ثمانون ذراعا. وللأشياخ الصغار فلهم نصف مما للأشياخ الكبار.
ومن باب كبح جباح أيدي ظلم القضاة أو أخذهم لرشوة أو الطمع في المال الحرام، كان السلطان يخصهم ببعض العطايا الزائدة عن مرتباتهم فكان لقاضي القضاة في كل يوم مثقال من الذهب، وله أرض يسيرة يزرع بها ما تجيء منه مؤونته وعليه دوابه. وأما كاتب السر وهو الفقيه الإمام العالم أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي فله في كل يوم مثقالان من الذهب. وكان أبو الحسن يطلق الصدقات من المحارث والأرض للفقهاء والعلماء والفقراء، والحسباء وهم أرباب البيوت.
وأجرى أبو الحسن المريني جراية للمحدث أبو الفضل محمد حين غلبه الدين، فأجرى له جراية من مجبي فاس مبلغها مائة دينار وخمسون ديناراً فضة في كل شهر إلى أن توفي في عقب شوال سنة 748ه.
- الفرع الخامس: صدقات السلطان أبي عنان
نهج السلطان أبو عنان نهج أسلافه وآبائه في مجال البر والإحسان والصدقة، فكان خير خلف لخير سلف. قال ابن جزي: «اخترع مولانا أيده الله في الكرم والصدقات أمورا لم تخطر في الأوهام. ولا اهتدت إليها السلاطين. فمنها إجراء الصدقات على المساكين بكل بلد من بلاده على الدوام ومنها كسوة المساكين والضعفاء والعجائز والمشايخ والملازمين للمساجد بجميع بلاده.
ومنها التصدق بما يجتمع في مجابي أبواب بلاده يوم سبعة وعشرين من رمضان إكراما لذلك اليوم وقياما بحقه، ومنها إطعام الناس في جميع البلاد ليلة المولد الكريم، ومنها كسوة اليتامى والصبيان يوم عاشوراء، ومنها صدقته للزمنى والضعفاء بأزواج الحرث، ومنها صدقته على المساكين بحضرته بالطنافس الوثيرة والقطائف الجياد يفترشونها عند رقادهم.»
وفي سبيل الصدقة أمر أبو عنان بإخراج أموال عظيمة من طيب كسبه، وتخير ذلك تخيرا دل على طهارة قلبه، وعين لكل بلد من بلاده قسطا معلوما، وحظا يبرز كتابه مرقوما.
وعمل أبو عنان على تعميم فوائد الأحباس، بأن توزع على المساكين والضعفاء حتى يعم الخير على كل أهل البلاد. يقول صاحب فيض العباب: «وأمر مولانا أمير المؤمنين أيده الله أن يعمل بفوائد تلك الأحباس، طعاما يعم الظاعن والمقيم من الناس، وأن توسع معايش المساكين أولي الإفلاس، والضعفاء الذين لجأوا إلى الملك العظيم الإيناس. وخص ذووا المراتب والخدام بالبر والإكرام.»
وتشير المصادر أن أبا عنان المريني أسهب في مبراته وصدقاته وإحسانه وهباته، فقد أنعم على ناظر القرويين بمرتب وسع عليه فيه ليستعين به على قيام بشعائر الإسلام.
وتحرك قلم ابن بطوطة بذكر إحسان أبي عنان المريني فقال: «وهناك تعرفنا أن مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين المتوكل على رب العالمين أبا عنان أيده الله تعالى، قد ضم الله به نشر الدولة المرينية، وشفى ببركته بعد إشفائها البلاد المغربية، وأفاض الإحسان على الخاص والعام، وغمر جميع الناس بسابغ الإنعام، فتشوقت النفوس إلى المثول ببابه… إلى أن قال: وغمرني من إحسان مولانا أيده الله تعالى بما أعجزني شكره، والله ولي مكافأته.»
وكان أبو عنان -بالإضافة إلى ما سبق- يهتم كثيرا برجال التصوف والصلاح ويبحث عنهم أينما كانوا فيحل بجانبهم، ويستعطفهم ويكرمهم ويتصدق عليهم.
وأجرى أبو عنان الأرزاق السنية والصدقات والعطاءات السخية للأشراف من آل البيت. ويشير الجزنائي أن أبا عنان المتوكل حدا حدو أبيه واقتدى به في بر أشراف آل البيت. يقول: «واقتدى المستعين رحمه الله بأبيه المرحوم في برهم والأنس بقربهم، فنما جرايتهم، وقرب مكانتهم، وقضى حاجتهم، وعلا منازلهم، وراعى وسائلهم، وأجرى لهم الأرزاق السنية، وتعهدهم بالصلات المرضية.»
كما فرض للشرفاء الحسنيين آل أمغار مائة دينار سنوية، تدفع لهم من جباية الدولة بالناحية وأصدر ظهيرا مؤكدا في الموضوع.
وكان السلطان أبو عنان يجل شرفاء سبتة، ففرض للشريف أبي العباس السبتي العطاء الجزل، وكان يستدعيه كل سنة إلى حضرة فاس، لحضور المولد السعيد. وكان هذا السيد الشريف المرسوم له من بيت المال، ثلاثون دينارا من الذهب العين في رأس كل شهر. ولهؤلاء الشرفاء بمدينة سبتة نحو ثلاثين قبرا، في روضتهم المنسوبة إليهم.
وقام أبو عنان بإلغاء ضريبة التضييق التي كانت تؤخذ من الرعية قهرا.
وكان هذا الإلغاء بمثابة صدقة على الرعية، وسياسة حلم وبر وإحسان ولينة وإعفاء. ومن عظيم صدقاته على النساء أنه أجرى على إحدى أختي أبي سحان مسعود الأبله التي كانت بمكناس جارية كانت تتعيش منها طول حياتها.
- الفرع السادس: صدقات السلطان أبي العباس أحمد المريني
رغم أن السلطان أبا العباس المريني أراد أن يلغي سياسة الصدقات والعطاءات للأشراف، غير أن الرأي العام، وعلى رأسهم بعض العلماء، عارضوا هذه السياسة الجديدة، الشيء الذي دفع القاضي محمد بن السكاك المكناسي بتأليف كتاب سماه «نصح ملوك الإسلام بالتعريف بما يجب عليهم من حقول آل البيت الكرام»، بَيَّن فيه مضار عدم العناية بآل البيت، وحذر من عواقب المسلك الجديد. وكان من ذلك أن اقتنع السلطان أحمد المريني أهمية العودة إلى السياسة الشرفية، وهكذا كتب بمناسبة حصول الدولة على غنائم من حرب الصليبيين إلى شرفاء سجلماسة، أن يحضروا ليأخذوا نصيبهم من هذه الغنائم، منبها أن من لم يحضر لا حق له في الاحتجاج.
- الفرع السابع: صدقات السلطان أبي سالم بن أبي الحسن المريني
لم يسجل لنا التاريخ في حدود ما بلغته عن صدقات السلطان أبي سالم غير ما أمر به ابن القباب أحمد بن أبي القاسم بن عبد الرحمان بالذهاب إلى غرناطة سنة 762ه لمباشرة صدقة عهد بها السلطان لبعض الربط.
المطلب الثالث: صدقات عامة الناس في العهد المريني
ساهم أهل الفضل والإحسان بطرق متعددة في إثراء الصدقات وبسطها على المحتاجين والفقراء، حسب ظروف وأوضاع المجتمع. ونقف في هذا المطلب على مجموعة مما أفاءت به المصادر التاريخية عن بعض المتصدقين.
يذكر ابن مرزوق أن عبد الله ابن عامر بن خالد بن عقبة اشترى دارا، بجوار السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء آل خالد فأعطاهم الدار والمال جميعا.
وكان أبو العباس أحمد بن مرزوق وجيها سريا موسعا عليه، كثير الصدقات وأعمال البر، له جرايات على الطلبة وأهل الدين والخير. وكانت له مطامير من قمح وفحم، وكان يعد اللحم المدخر، المعروف بالمسني، وبالخليع، والزيت فإذا كان يوم الثلج، فتح مطمورة من القمح وأخرى من الفحم، ويتصدق بالزرع والفحم والإدام طول يومه، فلا يرجع إلى داره حتى يفرغ من المطمورتين. وكان له كل يوم خبز الصدقة، وثيابا في كل سنة.
ويشير لوتورنو إلى باب الصدقة والمعونة والبر والإحسان، اتجاه الشخص المريض أو المعوز الذي تأتيه المعونة والصدقة من أقاربه أو أصدقائه، إذ كانوا يعتبرون ذلك واجبا لا سبيل إلى الجدل حوله.
وتحدثنا المصادر التاريخية عن شخص الفقيه المحدث أبو الفضل محمد، وكان حسن السمت قليل الضحك، مولع بقضاء حاجات الناس من عرف ومن لم يعرف، تارة بنفسه وتارة بماله، حاجات من قصده. وكان الناس يتوسلون به عند الخلفاء والأمراء وغيرهم في حاجاتهم لمنزلته الكريمة عندهم، وكان أكثر تسبباته في الحراثة والزارعة والغراسة، وكسب أملاكا كثيرة، وكان كثير الإنفاق لنفسه وحاشيته ولاسيما في الولائم والمواسم.
وكان لإمام جامع القرويين مسؤولية مسك وقبض حسابات الهبات والأموال التي تقدم للجامع لفائدة الأطفال الصغار، ويوزع الإيرادات الموقوفة على الفقراء، سواء كانت نقودا أو حبوبا، فتفرق على مساكين المدينة بمناسبة كل عيد بمقادير متفاوتة حسب تكاليفهم العائلية. وتقدر مداخيل الجامع بمقدار مائتي مثقال في اليوم الواحد، يصرف أكثر من نصفها فيما ذكر.
ونجد أيضا الصناع والتجار الذين كانوا يغدقون الأموال من باب الصدقة على مسجد القرويين والتي كانت تخصص للمساواة والترفيه على الإنسان، والرفق بالحيوان، وإدخال السرور على المرضى.
وكانت هناك أوقاف وصدقات تصرف في شراء أواني تعطى للصبيان الصغار، إذا كسروا الأواني الفخارية وخافوا من أوليائهم، فتقدم لهم هذه المنحة لإعادة شراء ما تكسر منهم. يقول الدكتور عبد الهادي التازي: «ووقف الناس أوقافا يصرف كراؤها في شراء أواني الفخار تعطى للصبيان الصغار إذا تكسرت وخافوا متابعة أوليائهم، بباب الحفاة سواء في القرويين أو جامع الأندلس.»
وظهرت الصدقات السخية لتحد من تفشي ظاهرة التسول، التي كانت من أسبابها كثرة الهجرة من المناطق المجاورة. وصف صاحب كتاب «فاس قبل الحماية» هذه الظاهرة وطريقة علاجها وكيفية تعامل الموسرين وغيرهم من أهل المدينة مع هؤلاء المتسولين فقال: «يلتزم الفاسيون تماما بهذه الفريضة الخيرية. فللكثير منهم متسولوهم الخاصون الذين يأتون إليهم كل يوم، طالبين منهم ما يسدون به رمقهم. وقد يبخرون كذلك عتبة البيت الكريم بمجمرة العطور يحملونها معهم في تجوالهم، ولكل حي متسوله أو متسولوه العاديون، ولكل فاسي غني زبناؤه من الفقراء، ويستفيد هؤلاء المساكين بمناسبة الأعياد الدينية أو الاحتفالات العائلية من الطعام الفاخر الذي يقدم إليهم بكل سخاء. ويقيم متسولون آخرون من مقعدين وعميان بالخصوص في مركز قار بباب مسجد، أو في ضواحي ضريح مولاي إدريس أو في زقاق يمر به الراجلون.
ومن الشخصيات التي برزت في عمل البر والخير والصدقات زمن بني مرين، الشيخ الصالح أبو محمد عبد العزيز الصنهاجي السلاوي، الغريق في الخير والصلاح، فهو صالح بن صالح، لين الانقياد للخير، فكان يطعم الطعام على الفقراء، ويبذل الجهد في قضاء حاجات المسلمين، وله خصائص وحالات، تأخذ بمجامع القلوب، فتقلب الأعيان للخير.
ومن الشيوخ الذين برزوا أيضا في إعمال الخير والبر والإحسان الشيخ أبو عبد الله بن موسى الحلفاوي، كان له إذن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حسم به أدواء الفساد، وقمع الأشرار، عالي الهمة، شديد الحزم، وله شأن معروف مع السلطان أبي عنان وحكاية مشهورة إذ كان يعظمه ويؤثره ويعنيه على الأخذ على أيدي المعتدين المرتكبين ما نهى عنه الدين والإيثار على الضعفاء والمساكين، وربما تكفلت صدقته بجميع مؤن المحتاج من قوت ومن لباس مستوفى الجزئيات في الدفعة الواحدة، فيكفيه السؤال طويل مدة، ليمتعه بالانتفاع بنفسه من توجه لعبادة أو استنهاض لكسب، ويصل تحنت عبادته بالطواف على الفقراء المحتاجين في الحضرة، ويتفقد بالفواكه الرطبة واليابسة في أوانها من تميل إليها نفسه فلا توصله المرتبة إليها، يبتاع منها الكثير متى أظل زمانها وتمكن إبانها، ويضعها في حانوته بالحلفاويين من فاس، ويحتمل نهاية ما يقدر على رفعه على رأسه، فيقصد به المظان إلى أن يفرغ الوعاء، فيعيد امتلاءه فيلحق تلطفه الضعفاء بالأغنياء، في استطعام شهوات ما أنعم الله به على خلقه ورزقهم من طيباتها.
ونجد أيضا في قائمة أهل البر والإحسان الشيخ الصالح أبي إسحاق إبراهيم بن عباد، من أهل الاختصاص وأهل الإخلاص، وله قدم في الإيثار، فإنه آثر بأكثر ميراثه من والده، وما زال دأبه السخاء بما كان يكتسب بعد ذلك، ويصنع الطعام من كسبه للفقراء والضعفاء من ذوي الدين والفضل.
المطلب الرابع: الإحسان لأهل الربض
يقوم في خارج فاس من جهة الغرب ربض يضم نحو خمسمائة كانون خلال العهد المريني. وهناك يقطن فقراء القوم كسائقي الجمال والسائقين وحطابي القصر، إلا أنه توجد به دكاكين عديدة وكل فئات الصناع. كما يقطن فيه جميع المشعوذين والموسيقيين من الدرجة السفلى، وتكثر فيه البغايا، وهن قبيحات خسيسات.
وهناك ربض آخر يسكنه المجذومين يحتوي على مائتي دار تقريبا، ولهم رئيسهم الديني الذي يجمع دخل الأملاك العديدة الموقوفة عليهم لوجـه الله من طرف الأعيان وغيرهم من المحسنــــين. ويقــــدم لهؤلاء المرضى كل ما هو ضروري لهم بحيث لا يحتاجون إلى شيء.
وكان الناس يحبسون على سكان الربض أملاكا عديدة لوجه الله ولتنفق عليهم فيعيشون هناك في أرغد عيش.
المطلب الخامس: الإحسان زمن الوباء
حث الإسلام على التضافر والتعاون وعلى الإنفاق التطوعي، خصوصا إذا حلت بالأمة أزمات من قبيل الوباء. فشجع على الإحسان العمومي وتعزيز التضامن بين فئات المجتمع، وتفعيل الجانب الخيري لتخطي المحنة. ولعل هذا الأمر وقع زمن الدولة المرينية وإن كانت المصادر التاريخية لم تفصل الشيء الكثير عن قضية الوباء وكيف تعامل المجتمع والسلطة في القضاء عليه؟ ولا كيف تعاملوا معه من الجانب الإحساني؟
وكما يقال: «الأزمة تولد الهمة» فإن الأوبئة والطواعين كغيرها من الأزمات الطبيعية تخلق اهتماما كبيرا داخل أي مجتمع تحدث فيه.
ومما يؤكد أن الوباء أصاب المغرب زمن العهد المريني ما قاله ابن بطوطة في رحلته، بعد رجوعه من تونس ودخل مدينة تازة فعلم خبر وفاة أمة بالوباء يقول: «ووصلت إلى مدينة تازة، وبها تعرفت خبر موت والدتي بالوباء رحمها الله تعالى.»
وأشار ابن مرزوق إلى الفقيه والمفتي أبو عبد الله الرندي الذي كان ملازما للسلطان أبي الحسن المريني والذي توفي سنة 740ه بالوباء.
ونظرا لتفشي الوباء في زمن بني مرين، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية وهذا ما يؤكده صاحب الإستقصا فيقول:» في سنة 694ه كانت المجاعة الشديدة والوباء العظيم عم ذلك بلاد المغرب وإفريقية ومصر فكانت الموتى تحمل اثنين وثلاثة وأربعة على المغتسل وبلغ القمح عشرة دراهم للمد والدقيق ست أواق بدرهم، وأمر السلطان يوسف بتبديل الصيعان وجعلها على مد النبي ﷺ وكان ذلك بالحضرة على يد الفقيه أبي فارس عبد العزيز الملزوزي.»
ووجدت أوقاف مخصصة لزمن الوباء لتكون كمديد للمساعدة في تلك الظروف القاسية والصعبة، فخصصت أوقاف لتعويض الفقراء أيام غلاء الأسعار، وهي فكرة تضامنية اجتماعية وبادرة إحسانية من طرف السلطات المرينية.
وخصصت أيضا أوقاف ومبرات إحسانية للمصابين بالوباء والأمراض المزمنة، وتخصيص حارات لهم.
وفي ختام هذا المطلب يتأكد لنا أن الرفق بهؤلاء المحتاجين بلغ ذروته في العهد المريني، وكان القصد الأول والأخير هو مساعدتهم على إعادة الثقة بأنفسهم، وإدماجهم في المجتمع الذي يشعر بشعورهم، ويعمل على تحقيق التكافل معهم، هذا وبالتمعن في الحوالات نجد الاهتمام بهذه الفئة من خلال الوصايا المتعددة، وقد سبق ذكرها.
المطلب السادس: الإحسان للحيوانات والطيور
لقد حرص الإسلام على الإحسان للحيوانات والطيور، ودعا إلى الرفق والرحمة، ومعاملتهم معاملة كريمة، بعيدة عن القسوة والتعذيب، وتحميلها ما لا تطيق. فالله تعالى كتب الاحسان في كل شيء. ولقد تعددت الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، التي دعت إلى الإحسان والرفق في التعامل مع الحيوان والطير. ومن الآيات التي وضحت العناية بالحيوانات والطير وأنهم أمم مثل البشر قوله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّة فِے اِ۬لَارْضِ وَلَا طَٰٓئِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّآ أُمَمٌ اَمْثَالُكُمۖ مَّا فَرَّطْنَا فِے اِ۬لْكِتَٰبِ مِن شَےءۖ ثُمَّ إِلَيٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَۖ﴾ [سورة الأنعام الآية:39].
فَسر الشيخ الطاهر بن عاشور الآية الكريمة بأنها تنبيه للمسلمين على الرفق بالحيوان فالإخبار بأنها أمم أمثالنا تنبيه على المشاركة في المخلوقية وصفات الحيوانية كلها وقوله «ثم إلى ربهم يحشرون» إلقاء للحذر من الاعتداء عليها بما نهى الشرع عنه من تعذيبها وإذا كان يقتص لبعضها من بعض وهي غير مكلفة فالاقتصاص من الإنسان لها أولى بالعدل.
وذكر القرطبي أنهم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم، وتكفل بأرزاقهم، وعدل عليهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به.
وجاءت السنة النبوية الشريفة بأحاديث زاخرة عديدة ومتنوعة في الحث على الإحسان للحيوان والطير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: «بينما رجل يمشي بطريق فاشتد عليه العطش
فوجد بئرا، فنزل فيها، فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه فأمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له. فقالوا: يا رسول الله ﷺ وإن لنا في البهائم لأجر؟ قال: في كل ذات كبد رطبة أجر.»
فالعموم هنا مخصوص بالحيوان المحترم وهو ما لم يؤمر بقتله فيحصل الثواب بسقيه، ويلحق به إطعامه وغير ذلك من وجوه الإحسان.
دل الحديث النبوي الشريف على حق الحيوان في الحياة وعلى حقه في رفع الألم والمعاناة عنه بدليل المغفرة لذلك الرجل بفعل سقاية الكلب، وهذا ما يدل على أن ما قام به من فعل طاعة الله، كما أن الحديث اعتبر الإحسان إلى كل ما فيه روح فعلا مثابا عليه وفي هذا تحضيض على ذلك الفعل.
فإن من أعظم ما تتشوف إليه النفس الطاهرة وأعظم أمنية يتمناها المرء في حياته لتكون له ذخرا ليوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم هي مرضاة الله عز وجل فهي غاية أهل الفضل والتقوى. وللحصول على هذه الغاية مسالك وطرق ومن الواضح بل من السهل الميسور على المؤمن الذي يرتجي ارضاء مولاه أن يكتسي بالسعي وراء ما يحبه الخالق ويرضاه، ومن ذلك السعي على إغاثة الحيوان والطير.
ويمكن التأكيد أن الفترة التاريخية للدولة المرينية تميزت بهذه المبرة العظيمة، ووجدت محسنين أحيوا هذه الفضيلة وسارعوا إلى إنجازها تقربا وزلفة إلى العلي القدير. بل وتعدت هذه الصورة النمطية إلى صورة الحس بالمسؤولية. فقد كان يرى بعض الناس في خدمة الحيوان وحتى الطير، التي لا تستطيع البوح عن معاناتها ولا جوعها وعطشها أو مرضها، هي مسؤولية معلقة على أكتافه، ونصّب نفسه جندا مسخرا لتحقيق حقوقها وتسهيل أعبائها.
ولم تسعفن المصادر التاريخية في مسألة العناية بالحيوانات والطيور في العهد المريني بالمعلومات الوافرة لتبقى جد محصورة. وهذا ما أكده الدكتـور محمد المنوني بقوله: «وينتهي بنا المطــاف إلى إشــارات جد قليــلـة عن إسعاف الحيوان والإحسان إليه.»
ونقف عند الشيخ محمد بن موسى الحلفاوي الإشبيلي (ت758ه) الذي سبق ذكره في باب الصدقة والإحسان، فهذا الرجل الولع بفعل الخير والإحسان ويقف عليه بنفسه، كان يرفق بالمتخذ من الحيوان والمألوف، وأعد لذلك دارا يجمعهم فيها ويناولهم بيده، وكان لا تبصر له بطانة ولا تعرف له عن اجتهاده مهلة، دائم الاشتغال، متوالي العمل.
ودفع به الرفق بالحيوان المتخذة والأليفة في دار خاصة ويطعمها بيده تقربا وزلفة إلى الله عز وجل.
ويتحدث محمد بن أبي غالب المكناسي المعروف بابن السكاك (ت818ه) عن جمع من القطط شاهدهم مجتمعين على موزع يفرق عليهم لحما، ويعدل في قسمته بينهم.
وخصص ريع عدد من الفدادين لشراء الحبوب لتغذية الحيوانات العجماء التي لا تملك التعبير عن حاجاتها، ولعلاج الحيوانات التي تتعرض للأمراض.
وكان في حوز مدينة فاس بلاد موقوفة على شراء الحبوب برسم الطيور، حتى يلتقطونها -كل يوم- من المرتفع المعروف بكدية البراطيل، عند باب الحمراء داخل باب الفتوح، وأيضا عند كدية البراطيل خارج باب الجيسة.
وخصص جانب من المارستانات لمعالجة الطير المجروح والمريض، وكان كل من أتى بأحد هذه الطيور جريحة وعالجها بالماستان ينال لقاء ذلك مكافأة. وإضافة إلى هذه المهنة الإنسانية لمؤسسة المارستان كانت أيضا تعتبر ملجأ للطير المعروف باسم اللقلاق «بلارج» حتى إذا انكسر أو أصيب بأي أذى، فإنه يحمل إلى المستشفى.
وكانت الطيور المريضة وغيرها التي توجد ساقطة فيؤتى بها إليه فتطعم وتسقى وتعالج بما يناسب حتى تصح فتطير أو تموت فتستريح.