منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

العلم بين التأصيل والتجديد

العلم بين التأصيل والتجديد/ محمد دحان

1

العلم بين التأصيل والتجديد

محمد دحان

نشر بمجلة منار الهدى العدد 3 ربيع 2003م/1424ه، صفحات من 5 إلى 7

تيار الفقه المنحبس بين زمنين:

حدثت تغيرات كثيرة في البلاد الإسلامية منذ الحادي عشر من شتنبر 2001، تاريخ الهجوم على أمريكا في عقر دارها، فسرعان ما أصبح التيار الممول من قبل البترودولار والمرحب به أمريكيا، العدو الأول لقائد النظام العالمي، أقصد بذلك، تيار الفقه المنحبس الذي طالما كان الحليف الأثير لدى الأنظمة العربية والإسلامية “الصديقة” للولايات المتحدة. فقد كانوا دون وعي منهم في الغالب بأبعاد الحرب التي يستخدمون فيها محليا ودوليا، أدوات حرب شعواء على الحركات الإسلامية التي تروم التغيير الجدري بما فيه السياسي. لقد حملوا راية “تصحيح العقيدة” وكفروا الجميع ما عدا الحكام. ثم جاءت حرب الخليج الثانية وتداعياتها، وخصوصا “الاحتلال” الأمريكي لجزيرة العرب -أرض الحرمين- مما جعل قسطا من هذا التيار ينتبه ويعي اللعبة الدولية وكيف تدور على الأمة وثرواتها. لقد كانت هذه اليقظة إيذانا بتوجيه السهام نحو العدو الحقيقي، وكانت التجربة الجهادية في أفغانستان مفيدة في هذه المرحلة.

الأمريكيون غارقون في ديماغوجيتهم، فهم يدعون أنهم لا يعرفون سبب الهجوم عليهم، والعديد من صحفهم البارزة صدرت صفحاتها الأولى بسؤال حائر وفيه نوع من السذاجة: لماذا؟ أي لماذا فعل بهم ذلك، ولماذا هذا الحقد الكامن في الصدور عليهم؟ وجاء الجواب أكثر سذاجة: لأنهم يحسدوننا بسبب تحضرنا وهم العالم البائس الجاهل المتخلف.

ولأنهم أسرع إفاقة بعد مصيبة كما وصف عمرو بن العاص رضي الله عنه الروم، فسرعان ما بدأوا يرتبون أولوياتهم في المرحلة المقبلة خاصة وأن قوى أخرى تستعد لتزاحم بالمناكب زعيمة النظام الدولي. الأمريكيون يعرفون أن براقش جنت على نفسها، وأن “حضارتهم” و”رقيهم” مبنيان على دماء وأشلاء وخيرات شعوب قد تم تدميرها واستعبادها، وأن العداء الذي يكنه المسلمون خاصة لهم هو بسبب رعايتهم ودعمهم اللامشروط للعدو الصهيوني الذي يقتل أطفال فلسطين ويدمر بيوتهم بالمال والأسلحة والآلات الغربية عموما والأمريكية على وجه الخصوص.

أن ينقلب السحر على الساحر في علاقة أمريكا بالطالبان وبتيار الفقه المنحبس عموما، هذا ما لم يكن في حسبان المخططين الاستراتيجيين داخل البيت الأبيض، وهذا ما جعلهم ينادون بإعادة النظر في المناهج التعليمية في البلدان الإسلامية وخاصة في السعودية وباكستان، حيث تم إنتاج وتمويل معظم سلبيات التيار المذكور وتسويقها لضرب الحركة الإسلامية. بروز “السلفية الجهادية” كان مفاجأة غير منتظرة وغير سارة، وما زال الوقت لم يحن بعد لتبين الكيفية الإجرائية لمواجهته. كل ما في الأمر أن الأنظمة العربية والإسلامية “الصديقة” للعم سام أو التي تخطب وده، تجتهد لتقديم “خلايا نائمة” لتنظيمات سلفية إلى المحاكمات وتختطف أفرادا هنا وهناك لتعطي برهان صدقها في الانضمام إلى الصف المحارب للإرهاب.

وقد تكون المباركة الخفية والعلنية من لدن الغرب عموما لفوز التيار الإسلامي المعتدل الرافض للعنف في العديد من البلاد الإسلامية بالانتخابات، بداية إدراك منه أن لا مناص له من التعامل مع هذا التيار القادم لا محالة إلى سدة الحكم، وأن التطرف في رفضه يولد تطرفا مضاد ليس في مصلحة الغرب ولا النظام الدولي أن يظهر للوجود، والتجربة الإيرانية مليئة بالدروس.

لا نشك في صدق معظم من انتسب إلى تيار الفقه المنحبس وسعيهم الحثيث لرفع راية الدين، لكن الوسيلة التي تم اعتمادها بممارسة العنف اللفظي واللجوء إلى تكفير المسلمين، منزلقات خطيرة جعلتهم يخوضون حروبا في غير مواقعها ويتسببون في شغل العديد من شباب الأمة عن الولوج إلى دينهم من بابه، أقصد تلقي العلم عن أهله.

الفقه الجامع والفقه التجزيئي

إذا حاولنا أن نستقرئ تاريخ المسلمين ونعود إلى الوراء لنعرف الأسباب التي أنبتت الكثير من الظواهر المرضية، ليس فقط الفقه التسطيحي المتشدد، ولكن أيضا الانحرافات التي عاشتها ولا تزال الطرق الصوفية والمذهب الشيعي والفرق الكلامية … وغيرها، سنجد مرد ذلك إلى مرحلة حاسمة مثلت منعطفا خطيرا أناخ بكلكله على كل مناحي الحياة في الأمة الإسلامية فيما بعد، إنه انحراف سكة الحكم من خلافة راشدة لملك وراثي عاض ثم جبري، من حكم العدل والشورى إلى حكم السيف وقطع الرقاب والعض على الأمة ببيعة الإكراه. مثل ذلك شرخا في العقل المسلم لم يبرأ بعد منه، وهو سبب كل ما عاناه المسلمون من تفتت وانحراف.

لقد كان العلم في معينه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين جامعا يقول الله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (سورة التوبة الآية 123). لم يكن للفقه الوارد في الآية على عهد الصحابة المدلول الذي حمله فيما بعد. فهذا الفقه لا يميز بين العبادات والمعاملات، بل هذه أس تلك، الفقه الذي يثمر الخشية من الله والحذر من الوقوع فيما يغضبه، ليس فقط فقه نصوص فحسب إنه فقه جامع لما اصطلح عليه فيما بعد فقه الظاهر وفقه الباطن، فقه يخاطب الفرد داخل الجماعة التي تعيش عضوا فاعلا فيها، وليس منعزلا عن الناس، إنه الفقه الذي ينظم شؤون العباد في علاقتهم بربهم (علم السلوك) وفي علاقتهم ببعضهم البعض (علم الاجتماع السياسي) بدءا من الأحوال الشخصية إلى أمور الحكم، العلم الذي ينظر في الآفاق (العلوم الكونية) وفي الأنفس في نفس الوقت.

لم يكن المسلمون الأُوَّل يجدون الانفصام في الشخصية والتناقض بين حياة شخصية هم أحرار في كيفية عيشها وحياة اجتماعية سياسية اقتصادية تخضع لتشريعات ونظم لا علاقة لها بسلوكهم اليومي.

كل ذلك منتظم في سلك جامع لبه الصحبة للإمام المعصوم عليه الصلاة والسلام ولخلفائه الراشدين من بعده، وجماعة متلاحمة متراحمة ذلتها على المؤمنين عزتها على من عداهم وعاداهم، تجاهد في الله لا تخشى لومة لائم.

لكن الانقلاب الخطير الذي وقع في مسار الأمة الإسلامية حول سكة الحكم من خلافة قائمة على الشورى إلى ملك عضوض قائم على عصبية القبيلة وحميتها الجاهلية، وأدى إلى انفراط العقد وحل خيوط الحبل الذي اعتصم به جيل الصحابة، تشتت العلم وذهبت كل طائفة بخيط منه.

نشأ علم الكلام ليواجه الإيديولوجية القدرية التي اعتمدها بنو أمية (روجوا بأن دولتهم هي قدر من الله لا يجب مقاومته). كان علماء الكلام فرسان الميدان ومثقفي العصر في التصدي لفكر الزنادقة والغنوصيين المترجم في زمن المامون ومن بعده، لكنهم تورطوا حين وصلوا إلى سدة الحكم بتأثر المامون بالفكر المعتزلي وعملوا على إجبار الناس على عقيدة خلق القرآن وتعذيب من رفضها من العلماء كما وقع للإمام أحمد رحمة الله عليه. وذهب الشيعة بسهم وافر من صحبة آل البيت إلى حد الغلو الذي جعلهم يعتقدون بعصمتهم ويسقطون في مطب الرفض (كراهية الصحابة خاصة أبو بكر وعمر باعتبارهما مغتصبين لحق علي كرم الله وجهه في الحكم). وتفرغ أهل السنة ما بين أهل الفقه وأهل الحديث بعد يأسهم من إصلاح الحكام، لخدمة العلم وكانوا أئمة في ذلك ففضلهم لا ينكر. أما الصوفية فقد حافظوا على علم التزكية لكنهم انعزلوا به عن كل “ما يدنس ويفسد صفاء الروح”.

كل فريق بلور أسسا وتفريعات ومفاهيم ومصطلحات للعلم الذي استفرد به من ميراث النبوة بمعزل عن الآخرين، ونحا كل صاحب علم بعلمه نحو المنحى الفردي تحت ضغط الحاكم المتسلط على الرقاب، واجتهد وسعه للحفاظ على بيضة الإسلام.

لقد صار العلم بعد الانكسار التاريخي أجزاء تفاريق، ولا يمكن الحديث عن تجديده اليوم إلا بإعادته إلى أصله الجامع وإعادة فتل خيوطه وربط الاجتهاد فيه بالفقه الجماعي، بدءا من فقه الدولة إلى فقه الفرد فيها.

لقد آن الأوان أن نقرأ الموروث العلمي لدينا بعين فاحصة ناقدة تضع كل ما كان له خصوصية ظرفية متغيرة في سياقه التاريخي، وتقرأ المواقف التي وقفها علماؤنا الأجلاء حسب الواقع والمرحلة، لكن النموذج السامق، نموذج العهد النبوي والخلافة الراشدة، يبقى النبراس الذي يبين للمتطلعين لتلك الذرى كيف يأخذون بالعلم النافع الجامع لعصرهم.

تعليق 1
  1. أحمد يقول

    وقل ربي زدني علما

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.