منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

نحو نظرية تربوية معاصرة: الصلاح والإصلاح

نحو نظرية تربوية معاصرة: الصلاح والإصلاح/ ذ.  محمـد حمداوي

0

نحو نظرية تربوية

 معاصرة: الصلاح والإصلاح

ذ. محمـد حمداوي

 

نشر بمجلة النــداء التربـوي، العدد 16-17، السنة العاشرة 1429 هـ-2008،

الصفحات من 4 إلى 6

 

تهدف غايات التربية في مجملها إلى إخراج الفرد الصالح المصلح (الإخراج بمعنى التكوين المناسب والإعداد الجيد للحياة…..)، وإلى إخراج الأمة الحرة الفاعلة البانية المتراصة (كالبنيان المرصوص….) وذات المكانة المحترمة والمؤثرة، وذات الكفاية الاقتصادية والمؤثرة إقليميا ودوليا. ويختلف معنى الصلاح والإصلاح من أمة إلى أخرى تبعا لاختلاف المبادئ والمنطلقات الفكرية والتربوية والأخلاقية التي تحكم كل أمة على حدة. وإن كان هناك نصيب من القدر المشترك المرتبط أساسا بالتمكن من ناحية المحيطات العامة المعاصرة، وبرسوخ القدم الاقتصادية والسياسية في المحيط الدولي والاستقرار والتماسك الاجتماعي….

ويقتصر الحديث في هذا الموضوع كما يدل العنوان على غاية الصلاح وهو ضد الفساد، ومن فعل صلح يصلح ويصلح صلاحا وصلوحا فهو صالح والجمع  صلحاء، وصلوح (لسان العرب: مادة صلح). وسيرا على نفس المنهجية السابقة، نتناول هذه الغايات ضمن أبعاد فرعية نراها أنها تتكامل لتنتج بإذن الله تعالى الفرد الصالح.

  • سلامة الفطرة

فطر الشيء: يفطره فطرا…. وتفطر الشيء: تشقق، والفطر الشق (لسان العرب: مادة فطر) وفطر الله الخلق يفطرهم: خلقهم وبدأهم، قال تعالى: “الحمد لله فاطر السماوات والأرض” قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فاطرتها أي أنا ابتدأت حفرها. (المرجع نفسه) والفطرة ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به والمعنى أنه يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ، لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد. (المرجع نفسه) ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(كل مولود يولد على الفطرة…. الحديث..) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم في آداب النوم عن سيدنا البراء بن عازب رضي الله عنهما قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن، ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت” ثم قال صلى الله عليه وسلم:”فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة.. واجعلهن آخر ما تتكلم به”(رواه البخاري) وفي آخر الحديث عند البخاري أيضا من طريق أبي إسحاق عن البراء: “وإن أصبحت أصبت خيرا”.

فالحديث يوفر للمؤمن ضمانتين، ضمانة الآخرة، إن مات مات على الفطرة، وضمانة الدنيا، إن أصبح أصاب خيرا بإذن الله تعالى.

وإن الحفاظ على الفطرة يستلزم تضافر الجهود وتكاملها بين كل المؤسسات التربوية أو ذات الصلة بالتربية منها: المدرسة والأسرة والمسجد والنوادي الموازية والإعلام بكل أنواعه من أجل تربية النشء على مكارم الأخلاق منذ الصغر، أي العمل على تعزيز الأبعاد الإيجابية التي فطرت هذه الأنفس عليها، والعمل أيضا على تحصينها من الأسباب التي قد تؤدي إلى انحرافها. ولكفاءات التعهد في وقت مبكر في الصغر، كان أثر الصلاح أكثر رسوخا وجبلة في قلوب الأجيال فينشئون  بدوافع قوية نحو الخير لذلك تنبه أعداء الخير المفسدون في هذه الأرض إلى أهمية هذا التأثير في المراحل الأولى من أعمار الأطفال،فطفقوا إلى القصف اليومي بل اللحظي (كل لحظة..) للأطفال والفتيات والشباب بكل أنواع البرامج العاملة على طمس الفطرة، في غفلة من أهل المنهاج الحافظ للفطرة:”ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”(الأنفال).

  • سلامة الصحة.

الجوارح أمانة من الله سبحانه وتعالى، ورعايتها حق رعايتها وفاء بهذه الأمانة. ولا يكتمل صلاح العبد بدون الوعي بأهمية صلاح الجسد الذي يعتبر عونا أساسيا على آداب المسؤوليات الملقاة على عاتق الفرد. ومن هنا كانت “أهمية التربية الصحية” بمختلف فروعها، من تربية غذائية تربي على الأنماط الغذائية السليمة وتربية حسنة تربي على الطريقة الأمثل، التزام الحلال في إتباع الغريزة الجنسية وتحذر من مخاطر تجاوز ذلك إلى الحرام وما يترتب عليه من أمراض وعاهات خطيرة وفي مقدمتها الأمراض المنقولة جنسيا (السيدا وغيرها…) هذا فضلا عن النتائج الاجتماعية والأخلاقية من فساد للذمم وإهباط للهمم، والعواقب السنية والإلهية لانتشار الرذيلة… وكذا التربية الوقائية من شرب الدخان والمخدرات والخمور، وكل هذه القاذورات الهدامة لأعضاء الجسم والمؤدية لمختلف الخبائث ذات النتائج الوخيمة على الأفراد والأسرة والمجتمع… ومنها حوادث السير القاتلة التي من أسبابها الرئيسية المسكوت عنها: الخمور والمخدرات (إضافة إلى أسباب أخرى كالتهور والعجلة والسرعة وحالة الطرق وحالة المراكب وعدم الإتقان الكافي للقيادة والارتشاء…).

فتربى الأجيال على الحرص على سلامة الصحة الفردية لأنها اللبنة الأساس في سلامة الصحة العامة للمجتمع.

  • سلامة العقل:

يزن دماغ الإنسان الراشد حوالي 1300 إلى 1400 غراما ويتكون في معظمه من الماء (78%) والدهون (20%) والبروتينات (8%) وتشكل القشرة الدماغية أجزاء مهمة من الجهاز العصبي، ويضم دماغ الإنسان مساحة كبيرة لم تتحدد حتى الآن أية وظيفة لها، ويعطي هذا الأمر للإنسان طاقة كبيرة على التعلم والإبداع، ورغم أن الدماغ لا يشكل إلا حوالي 2% من وزن جسم الإنسان الراشد، فإنه يستهلك 20% من طاقة الجسم، بمعنى أن الدماغ يستهلك خمس 5/1 الأكسجين الذي يستهلكه الجسم وتشكل الخلايا العصبية المكونة للدماغ (إلى جانب الخلايا الأخرى) عضو التعلم والتفكير ويصل عددها إلى 100 مليار خلية عصبية يفقد الإنسان منها يوميا بسبب الاحتكاك والتحلل وعدم الاستعمال عددا قد يصل حسب التقديرات التقريبية إلى 100 ألف (خلية عصبية). إلا أن العدد الإجمالي يمكن الإنسان من الحياة نظريا لعدة قرون..(كيف نوظف أبحاث الدماغ في التعليم؟ ترجمة :   Eric Jensen . Ascd, virginia USA، دار الكتاب التربوي للنشر والتوزيع، ط،1،2001).

لماذا هذا التفصيل في تكوين الدماغ في سياق هذا الموضوع؟ الغرض من ذلك هو التمييز بين “الدماغ” و”العقل” والوقوف على معجزة قرآنية في هذا التمييز:يقول إريك جونسن لاشادو العلاقة المعاصرة في علاقات التعلم بالدماغ “إن دماغنا في الحقيقة معجزة تدل على قدرة الخالق. فالدماغ هو ما نملك، والعقل هو ما ينتج من عمل عنه وبكلمات أخرى. “فالعقل” ليس شيئا بل هو عملية”! المرجع نفسه، ص:19. من أجل ذلك لا تجد في القرآن الكريم كلمة “العقل” بل تجد فعل “تعقلون” “أفلا يعقلون”…معنى هذا أن إعمال الدماغ ينبغي أن يخضع للتربية والتوجيه حتى يؤدي وظائف إيجابية في هذه الحياة.

لذا ينبغي العمل التربوي السليم على إخراج “العقل المهتدى” طبقا لحكمة العلماء التربويين المسلمين “إن العقل لا يهتدي إلا بالشرع وإن الشرع لا يتبين إلا بالعقل” فهذا العقل الضروري في فهم الشرع وفي فهم الواقع وفي الإبداع النافع ينبغي أن يكون أولا عقلا مهتديا. والتربية على سلامة العقل هي تربية في هذا الاتجاه تربية حرة على مختلف المراتب السليمة المتعاقبة والمتسامية للعملية العقلية وهي التفكير ثم التفكير ثم التدبر. وما يرتبط بها من العمليات الفرعية (فالنقد والإنصاف والمنطق والاعتبار والتقدير الصحيح والتمييز بين المطلق والنسبي…).

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.