اعتناء بني مرين بقضاء الديون عن المدين| الرعاية الاجتماعية في عهد بني مرين
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
اعتناء بني مرين بقضاء الديون عن المدين| الرعاية الاجتماعية في عهد بني مرين
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
يمكنكم تحميل كتاب العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م) من الرابط التالي
المبحث الرابع: قضاء الديون عن المدين
اعتنى الإسلام بالقرض الحسن وساعد في تمهيد فكرته، وذلك لأن وضع القرض بهذه الصورة المثالية حسب نظرة الإسلام وتوجيهه، ستعطي زخما واضحا لإمكانية الاستفادة القصوى والمثلى من استخدام الطريقة الأنجع في المساعدة بالقرض وقضائه لمن لم يستطع تأديته. فالإسلام لم يتجاهل تلك الظروف والأحوال، التي يمر بها الإنسان في حياته، خصوصا عند عوز الإنسان فيحتاج إلى قرض ينفق منه، ويساير به الحياة، غير أن المشكلة التي تطرح هي كيفية ارجاع الدين وقضائه؟
جاءت الشريعة الإسلامية لترسيخ مبدأ التعاون والتكافل بين جميع المسلمين، بل وحثت ورغبت على الانتصار على الفاقة بتوحيد الجهود والتظافر، أولا عبادة يتقرب بها العبد لربه، وثانيا لتفريج الكرب وتنفيسه عن المدين المثقل بالديون ولا يقدر على أدائه، وهي مبرة عظيمة خصوصا إذا خلت من شوائب الرياء.
وفي نفس المنظومة حثت المقترض أو المدين على قضاء دينه وإبراء ذمته، ونهته عن المماطلة في سداد الدين إن تيسر له ذلك، لأنه إن وقعت المماطلة من الواجد كان ذلك احجاما من المقترضين عن اقراض غيرهم.
ويُعد قضاء الديون عن المدين أو الغارم من أفضل الأعمال لما لها من بُعْد إنساني على نفس الغارم، بل هو تفريج كربة من كرب الدنيا. يقول تعالى»﴿إِنَّمَا اَ۬لصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُوَ۬لَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِے اِ۬لرِّقَابِ وَالْغَٰرِمِينَ وَفِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ وَابْنِ اِ۬لسَّبِيلِۖ فَرِيضَة مِّنَ اَ۬للَّهِۖ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمۖ﴾ [سورة التوبة ص:60]
والغارمون الذين ضاقت أموالهم عن أداء ما عليهم من الديون، بحيث يرزأ دائنوهم شيئا من أموالهم، أو يرزأ المدينون ما بقي لهم من مال لإقامة أود الحياة، فيكون من صرف أموال من الصدقات في ذلك رحمة للدائن والمدين.
فقضاء الدين عن المدين الغارم يحدث ذلك التوازن في المجتمع، وهو أمر ديني وضرورة اجتماعية وأخلاقية، يجب أن ينظم ليؤدي الهدف منه ويدفع القادرين على الإنفاق لتحقيق التضامن الاجتماعي. فالإسلام له شريعته التي تنظم العلاقات بين الدائن والمدين، ولم يترك مجالا يمكن أن تحدث فيه خصومات بين الناس، أو يمكن أن يقع فيه ظلم أو حيف إلا نظمه. لذلك رغب الإسلام في بسط مساعدة الغارم وذلك لضمان حياته داخل المجتمع وحتى لا تبخس كرامته ويكون المال حكرا على البعض، ويبقى الآخرون في خصاصة وشدة.
جاء في الحديث الشريف، أن النبي ﷺ قال: «إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع.»
يقول شهاب الدين الرملي في شرح الحديث: «أو لِذي غُرْم بضم الغين المعجمة وسكون الراء، وهو ما يلزم أداؤه مكلفا إلا في مقابلة عوض.»
ويقول القرطبي: «الغارمين هم الذين ركبهم الدين، ولا وفاء عندهم به، ولا خلاف فيه. اللهم إلا من ادَّان في سفاهة، فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب، ويعطى منها من له مال وعليه دين محيط به ما يقتضي به دينه، فإن لم يكن له مال وعليه دين، فهو فقير وغارم فيعطى بالوصفين.
المطلب الأول: مفهوم الغارم
- الفرع الأول: الغارم لغة
جاء في لسان العرب: غَرِمَ يغرم غرما وغرامة، وأغرمه وغرَّمه. والغرم: الدين.
ورجل غَارِم: عليه دين. وفي الحديث لا تحل المسالة إلا لذي غرم مفظع أي ذي حاجة لازمة من غرامة مثقلة. وقال الزجاج: الغارمون هم الذين لزمهم الدين في الحمالة. قال ابن كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه
وعزة ممطول مغنى غريمها
في نفس السياق اللغوي يشير الفيروز أبادي: أن الغريم هو الدائن، والمديون ضده.
والغريم جمع غرماء وهو الدائن وغرم غرما وغرامة: لزمه مالا يجب عليه. ويقال: غرم الدّية والدين: أداهما من غيره.
- الفرع الثاني: الغارم اصطلاحا
1 -عرفه الحنفية بقولهم: «الغارم الذي عليه الدين أكثر من المال الذي في يده أو مثله أو أقل منه لكن ما وراءه ليس بنصاب.
2 -تعريف المالكية: قالوا الغارم هو من فدحه الدين للناس في غير سفه ولا فساد يعطى قدر دينه. واختلف: هل يعطى من عليه دين الكفارات والزكاة؟ وهل يشترط أن يكون المديان محتاجا؟
3 -تعريف الشافعية: يقول الإمام الطبري: «وأما الغارمون الذين استدانوا في غير معصية الله، ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عوض.»
ويتضح مما سبق ذكره أن الغارم هو شخص مسلم، استدان ثم لم يقدر على أداء ما عليه من دين عند حلول الأجل، فيعطى من المال لقضاء دينه، من باب الإحسان والرحمة على عباد الله تعالى.
وقيل يعطى من أموال الزكاة قدر ما يؤدي به دينه، وإذا ظل فقيرا بعد أداء الدين أعطي من الزكاة بصفة الفقر، فيأخذ في هذه الحالة من أموال الزكاة بصفتين: صفة الغارم وصفة الفقير.
المطلب الثاني: الرعاية الاجتماعية للغارم في العهد المريني
إن التاريخ يشهد للدولة المرينية على اشتغالها بالعمل الاجتماعي ورعايته وتخصيص أموال كثيرة لهذا الغرض، وإن كانت منظومته متنوعة ومختلفة. فالمصادر التاريخية التي أرخت للدولة المرينية أشارت إلى فقرات مقتضبة حول رعاية الغارمين وقضاء ديونهم ومساعدة الطبقة العاجزة والمعوزة وقضاء ديونها.
وإنها لفتة اجتماعية تحمد عليها السلطة المرينية والمحسنون، وقد اعتبرها أهل التاريخ بادرة نوعية وفريدة لم يسبق لتاريخ المغرب عبر العصور أن عرف مثلها.
ونستشهد على هذا ما جاء عند ابن بطوطة في تحفة النظار الذي اعتبرها اختراعا ومنقبة لم تكن في الحسبان، فقال: «اخترع مولانا أيده الله (أبو عنان) في الكرامات والصدقات أمورا لم تخطر في الأوهام، ولا اهتدت إليها السلاطين. فمنها إجراء الصدقات على المساكين بكل بلد من بلاده على الدوام، ومنها تعيين الصدقة على الغارمين المسجونين في جميع البلاد أيضا، وتلك مكرمة لا يعلم لها نظير.»
لمعت هذه المبرة أيام السلطان أبي عنان، فكان له اهتمام بقضاء الديون عن المدينين، وسجنوا بسبب عجزهم عن أداء الدين، فاتخذ قرارا بالتزامه الأداء من ماله الخاص، لديون المعسورين المسجونين بسائر الجهات المغربية، ويطلق سراحهم. وكتب لجميع الأقاليم المرينية بأن جميع من توفي وعليه دين من الديون، أو حق من الحقوق المدركة ولو بالظنون، فيؤدى عنه ذلك من بيت المال وأمر أن تستمر هذه المبرة وسابقاتها على الدوام.
وهناك أيضا وقف الأموال من أجل قضاء الديون وتقديم السلف بدون فائدة وهي أوقاف لمعت أيام أبي عنان، فكان له ذلك الاهتمام بقضاء ديون الطبقات العاجزة، وفي هذا الصدد اتخذ قرارا بالتزامه بوقف جزء من ماله الخاص لتسديد ديون المعسرين بسائر الجهات المغربية وكتب مع هذا لجميع الأقاليم المغربية بأن جميع من توفي وعليه دين من الديون أو حق من الحقوق ولو بالظنون فيؤدى عنه ذلك من بيت المال، وأمر أن تستمر هذه المبادرة على الدوام، وكان ابن الحاج النميري (ت774ه) هو المكلف بكتابة جميع الأقاليم في هذا الشأن. وتشير ترجمة تحتفظ بها حوالة فاس السليمانية إلى استدامة هذا العمل بعد عصر بني مرين حسب هذه الفقرة: «الوصية العبد حقية لقضاء الديون والمساكين.» كما خصصت الأوقاف عددا من المال للسلف بدون فائدة ولا عوض بمدينة فاس يستقرض منه المحتاج ويعيده متى وجد.
وفي المعاملات التجارية لا يفوتنا الحديث عن التجار الصغار الفقراء جدا، الذين كانوا مضطرين لشراء البضائع بالدين على تجار الجملة، وهم وحدهم الذين كانوا قادرين على إقراض أولئك الفقراء، الذين لا يملكون رأسمال لشراء البضائع، فيقرض إليهم البضائع إلى أجل حتى تباع ويرد الدّين إلى تجار الجملة، وهذه مبرة تعامل بها تجار الجملة مع فقراء التجارة.
يقول لوتورنو: «فكان تجار المفرق في أغلب الأحيان صنفا من التجار الفقراء، الذين كان مستوى المعيشة عندهم قريبا جدا من مستوى المعيشة عند الصناع. وكثيرا ما كان هؤلاء مضطرين إلى شراء البضائع على الدين فكانوا يعتمدون على تجار الجملة، الذين كانوا وحدهم القادرين على التسليف لأجل.»
ويرجعنا التاريخ لهذه المبرة إلى صدر الإسلام الأول، ولعمري أن السلطان أبا عنان المريني اقتدى بالعهد النبوي الشريف وعهد العُمَرَيْن. فقد طالب النبي ﷺ بقضاء دين المدين أو الغارم، لقوله ﷺ: «»ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم ﴿اِ۬لنَّبِےءُ اَ۬وْل۪يٰ بِالْمُومِنِينَ مِنَ اَنفُسِهِمْۖ﴾ [سورة الأحزاب الآية:6] فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه.»»
واستمرت هذه البادرة بعد وفاته ﷺ خصوصا في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه حينما فشي العدل والرخاء، فقد ذكر العلماء أنه كان معمولا به في عهده رضي الله عنه.
ولقد وصل الأمر في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن أرسل والي الصدقات بإفريقية إليه يقول: لم يبق فقير محتاج في إفريقية وبيت المال ممتلئ، فأرسل إليه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يأمره بأن يسدد الديون عن المدين، فسدد ديون الناس حتى لم يبق مدين يستحق السداد لم يسد دينه.