لا أدري بمن تكون البداية، بل من له الحق فيها، ربما أنا لأنني سيد القلم، وربما هي لأنها تعمل بجد وكد بدون ملل، وبخطوات متلاحقة ومتناسقة لا تجامل أحدا، تحصي الأنفاس وتعدها، لا تخلف موعدا، ولا تتخلف عنه.ربما أنا، فأنا صاحب سلطة الأقوى عليها، أو ربما هي لأنها صاحبة السلطة الأقسى علي …
المهم نحن اثنان في عجين واحد وخندق واحد، لا نكاد نفترق، فليكن العنوان مقروءا من الاتجاهين، وليعذرنا متخصصو السيميائيات، ودارسو العتبات.
قلت يوما لساعتي:
ما أشد تعلقي بك، وما أكبر اهتمامي لشأنك، وما أكثر تردد نظراتي عليك. دائما تجذبين لحظ عيني، وتارة بعد الأخرى تتحكمين في العقول والأعمال وأنت الضعيفة، تقننين وأنت الجاهلة.لا تجاملين أحدا، سيرك حثيث، عقاربك تحصي الأنفاس…لا تميزين بين متيقظ وغافل، ولا بين مهتم وغير مبال.كلِمتك الحق لكل فرد…أنت ذلك السيف الذي حدثتنا به الحكمة، سلاحك سم زعاف، عقاربك عقارب لمن تهاون وتغافل.
ساءلتها: ألم تعرفي يوما معنى العياء؟ ألم تفكري في استبدال وظيفة الرقابة على العباد والبلاد؟ أحقا تعجبك هذه الوظيفة أم تراك مجبرة لا خيار لك؟ ألم تحدثك نفسك يوما في العبث قليلا؟ ما رأيك لو أخذت عطلة قصيرة قصد الاستراحة واسترجاع الأنفاس؟ وأضمن لك عذر العالم بلا شهادة طبية أو فحص بيطري…
هنا أوقفتني واسترسلت قائلة وهي تحث الخطى بأنفاس متلاحقة وتمشي على ذلك المنوال الذي عهدتها عليه:
“اعلم يا هذا أننا ـ معشر الساعات ـ لسنا بالعاطلات ولا المتماطلات ، ولا وقت لنا كي نضيعه في سفسطة فارغة، أو هرطقة رومانسية، لا تحدثني بلسان مجنون ليلى ولا جميل بثينة، دعك من أحاديث صباح شهرزاد ومسائها…
تراجعت قليلا، وجحظت عيناي، فركتهما لعلها تخفف قليلا من صرامتها الحادة، ثم استرسلت خاطبة في جوارحي:
يا أصحاب القلوب، ويا ذوي الألباب والعقول
لكَم كنت شاهدة على سرفكم في الأوقات والأعمال، واستمتاعكم بفضول الكلام والأقوال، وأنا أناديكم بكل ثانية مني.ألم تسمعوا صراخ ثوانيَّ؟ألم تسمعوا إلى عويل دقائقي وساعاتي؟ …على أية حال، فعلمي أكبر من تفاهاتكم، وعملي أكبر منكم ومن تصرفاتكم، لذلك لا أبالي بصنيعكم …
قالت ذلك على إيقاع لحن عقاربها الرتيب، وقد انتصبوا جنودا ينفذون أوامر عليا، لا يلتفتون إلى دعة أو راحة، لكم تخيلت هذه العقاراب سيوفا أو سهاما في كنانة الدهر تطيح بالسنين قتلى في مهوى سحيق بعيد، ولما هممت بالكلام سبقتني معاتبة:
يا هذا، ليس لي وقت أضيعه في رومانسيتك الفارغة، أو شكواك العاجزة، لقد علمتنا الحكمة أن هدرالأقات أمُّ الآفات، وما فات فات، فانظر لما هو آت, أنا الساعة، بنت تلك الساعة، التي نتتظر من توبة وطاعة، تريد منك رجوعا إلى الله ضراعة، اجعل ثواني تسبيحات وتكبيرات، خذ لك من دقائي ركعيات تعدها لموعد مع رب الأرض والسماوات…
قلت لها مقاطعا:
صرت واعظة يا أختاه
قالت في نبرة جدٍّ زائدة:
الواعظ من وعظ نفسه، ولعمري ما أنا إلا منبه لمن أراد، وترك الأماني المعسولة زاد من عرف قدره، والعاجز من تماطل وسوَّف…
هممت بالكلام، لكن سرعان ما اختلطت الأصوات بمنبه بصوت عال تحرك له جمع كبير من الناس الذين خنقوا صوتها، وضاع من أمام عيني رسمها فتنبهت إلى ما بي فأسرعت الخطى مهرولا إلى موعد كدت أنساه، ورجع صوت تلك الصماء ما يزال يطن في سمعي.