مدارس الحياة المتعددة (30) مدرسة الفقر
مدارس الحياة المتعددة (30) مدرسة الفقر/ الدكتور إدريس أوهلال
مدارس الحياة المتعددة (30) مدرسة الفقر
بقلم : الدكتور إدريس أوهلال
الحرمان والحاجة والفقر والبؤس هم أيضاً مدرسة من أهم المدارس.. المال لا رائحة له ولا وجه له، لكن الفقر له وجه ورائحة، فهو أول الأمراض ومنه تتولّد الكثير من الشرور والجرائم. الفقر كُفر أو يكاد، لأنه يُوَلِّد العجز في كل شيء، وعندما يبلغ هذا العجز نهايته يلجأ البؤساء إلى ملاذهم الأخير: تقاسم البؤس في إطار أخوي!
لكن للفقر وجه آخر، فهو بكل تأكيد معاناة وحرمان وحاجة وفاقة وبؤس، لكنه أيضاً مدرسة للصبر والتحمّل والمثابرة والمشاعر الإنسانية النبيلة والتواضع، وقد يخرج من رحمه الإبداع.. الفقر وضع ذوًحدين؛ مدرسة للشر كما للخير.. لتخريج أسوأ الشرور كما لتخريج أفضل المُجنّدين!
دعونا أولا نتساءل: ما الفقر؟ ومن هو الفقير؟ قبل الحديث عن مدرسته.
للفقر ثلاثة معاني: فقر المواقع وفقر المواقف وفقر الاستعدادات (أستخدم هنا لتعريف الفقر “النموذج النسقي: المواقف والمواقع والاستعدادات” الذي أستخدمه كثيراً في تحليلاتي وكتاباتي).
الفقير أولا هو شخص يعيش في بلد فيه مظاهر الغنى الفاحش جداً.. الفقر هنا يكمن في المسافة الفلكية الفاصلة بين المواقع.
والفقير ثانيا هو شخص يعيش حياة الفقر المادي أو الأخلاقي رغم أنه غني.. اليد طويلة والعين فقيرة. الفقر هنا يكمن في المواقف.
والفقير أخيرا هو شخص تكوينه الطبيعي الموروث وتنشئته الاجتماعية تنتمي إلى الطبقة الفقيرة.. الفقر هنا يكمن في الاستعدادات.
الفقر محيطات ضخمة من الحرمان والبؤس، تسعة أعشار من يسبح فيها يغرق، والعُشُر الناجي يشتغل وكيلا عند المتحكّمين في اللعبة! الفقر اختلال في عدالة القوانين وقواعد اللعبة، لكنه اختلال في استعدادات الناس أيضاً.. فالفقر استعداد والغنى كذلك؛ فالذين يطلبون الله الغنى قد لا يحصلون عليه، لكن الذين يطلبون الله الفقر يحصلون بالضبط على ما يطلبونه! لم يكن أبو ذر الغفاري فقيراً فقط، بل كان يقول: “الفقر أحب إلي من الغنى”. ولم يكن الحسن بن علي غنيا فقط، بل كان يقول: “يرحم الله أخي أبا ذر، لقد اختار الفقر، أما أنا فقد اخترت موافقة القدر”.
لكن الفقر ليس عيباً.. إنما العيب ألا تهاجر إلى أرض الله الواسعة وأن تبقى حياتك بالكامل فقيراً.. العيب هو ألا نحاول كأفراد ومؤسسات الخروج من الفقر بإرادة وتخطيط فردي وبسياسات وتخطيط جماعي.
كأغلب المدارس، تُحطِّمنا مدرسة الفقر أو تُحفّزنا وتُعلّمنا أن الخروج من الفقر الفردي والجماعي ممكن.
على المستوى الفردي تُعَلِّمنا مدرسة الفقر:
– البدء بإدراك عبودية الفقر، وهذا الإدراك هو بداية الرحلة لأنه شكل من أشكال الحرية.. الفقر يصنع العبودية، ووعي الفقر يصنع التغيير!
– تغيير الاستعدادات، ولا يمكن تطوير الاستعدادات الخاصة بلعبة معينة إلا بلعبها، لكن اللعب يجب أن يكون بدون أوهام.
– لا توجد إلا طريق واحدة لتربية استعدادات الغنى: التجربة الشخصية الاجتماعية، حيث المواجهة والصراع يعتبر المكون الأساس.
– التحرر من المعتقدات السلبية: القناعة والزهد كغطاء وتبرير للفقر مثلا.
– التوقف عن مدح الفقر والتنويه به بأي شكل من الأشكال لأنه يُوَلِّد الغنى الفاحش والظلم على الضفة الأخرى!
– التحرر من المشاعر السلبية كالحقد على الأغنياء والخوف من المبادرة.
– التحرر من العادات السلبية كالعجز والكسل المقنّع بالوظيفة.
– تجنب القروض خاصة البنكية.. فالفقر الحقيقي هو الدين!
– لا سعادة مع الفقر ومن يدّعي ذلك فهو إما كذّاب أو أحمق أو غبي.. السعادة تدخل من النافذة عندما يخرج الفقر من الباب.
– الفقر ليس عيباً، لكن ليس أيضاً مفخرة.. القِلَّة ليست فضيلة إنما الفضيلة التقلل. والكثرة ليست رذيلة إنما الرذيلة التكاثر!
وعلى المستوى الجماعي تُعَلِّمنا مدرسة الفقر:
– الحاجة إلى برامج ضد الأغنياء بقدر حاجتنا إلى برامج لمساعدة الفقراء، لكن دون أن تكون على الطريقة الشيوعية!
– الشيوعية هي التوزيع العادل للفقر، وهي أطول طريق نحو الرأسمالية، والرأسمالية هي صناعة الغنى من خلال صناعة الفقر.
– يجب أن نضع حداً للفقر، لكن دون استخدام سياسات تضع حداً للغنى المشروع.
– لن يكون الفقر مثيرًا للفتن، ما كان الغنى غير مثير للمشاعر، لذلك سيكون من المفيد عدم استفزاز مشاعر الفقراء بمظاهر الغنى.
– يقع على عاتق الأسر والمجتمع والدولة التربية على الغنى.
– التربية على الغنى تغرس الطموح والأمل، والتربية على الفقر تُوَلِّد اليأس والفشل. الأولى تُعزّز المثابرة والعمل، والثانية تُعزّز العجز والكسل.
– أزمة كورونا وما بعدها من أزمات ستتسبب في بروز أجيال جديدة من الفقر والهشاشة والتهميش والبطالة وفي ظهور طبقة اجتماعية جديدة لا تصلح لأي شيء، وهذا المُعطى يفرض على الأسر أن تكون يَقِظَة وعلى المجتمع أن يتضامن وعلى صانعي السياسات العمومية أن يأخذوه بعين الاعتبار للتخفيف من المعاناة البشرية والتفاوتات الاجتماعية والفقر المدقع والهشاشة، التي ستمس المزيد من الفئات الاجتماعية.
أما بعد، فإن الفقر هو نتيجة الحرب الطبقية التي يقودها الأغنياء ضد الفقراء والمهيمنين ضد الخاضعين والرأسمالية العالمية المتوحشة ضد المستضعفين في الأرض، وهذه الحقيقة هي الدرس الأول في مدرسة الفقر الذي يجب الوعي به والتسلح به للتحرر من الفقر والخروج من ضغوطاته كما يخرج الحي من الميت!