مركزية المسجد في بناء العمران: دراسة قرآنية
الدكتور أحمد الفراك
نشر هذا المقال في كتاب “مؤسسة المسجد بين التأميم والتحرير” من إصدارات مجلة “منار الهدى” الكتاب الثالث.
مقدمة
لا شك أن العمران عموما يبنى ويشيد بتوفر جملة من الشروط الروحية والمادية التي لا قوام له بدونها، وإذا كان العمران المطلوب إقامته هو العمران القرآني أو قل: العمران الحامل للأوصاف القرآنية؛ فإن ذلك يستوجب أن يقوم على روح مسجدية متجددة مادام المسجد جامع الصلاة والصلات، ومركز السجود والشهود. لذلك يسعى هذا البحث لاستجلاء مركزية المسجد في عملية العمران بالمعنى القرآني، معرجا على معاني العمران في اللغة وفي القرآن، وموضحا أركانه، ومبينا مكانة المسجد ووظيفته في إنشاء العمران وحفظه.
المبحث الأول: الحاجة إلى الدلالة القرآنية لمصطلح “عمران”
تورد المعاجم العربية تعريفات مختلفة ومتعددة لكلمة “عمران”، نذكر منها ما ورد بخصوص مادة “عمر” في معجم “لسان العرب” لابن منظور، ففيه: “عَمَرْت الخَرابَ أَعْمُره عِمارةً، فهو عامِرٌ أَي مَعْمورٌ… وعَمَر الرجلُ مالَه وبيتَه يَعْمُره عِمارةً وعُموراً وعُمْراناً: لَزِمَه… ويقال: عَمِرَ فلان يَعْمَر إِذا كَبِرَ. ويقال لساكن الدار: عامِرٌ، والجمع عُمّار… والعِمَارة والعَمارة: التحيّة، وقيل في قول الأَعشى “ورفعنا العمارا” أَي رفعنا له أَصواتنا بالدعاء وقلنا عمَّرك الله، وقيل: العَمَارُ ههنا الريحان يزين به مجلس الشراب، وتسميه الفُرْس ميُوران، فإِذا دخل عليهم داخل رفعوا شيئاً منه بأَيديهم وحيَّوْه به… والذي يرويه “ووضعنا العمارا” هو العِمَامة… وقيل: العَمارُ هنا أَكاليل الرَّيْحان يجعلونها على رؤوسهم كما تفعل العجم… ورجل عَمّارٌ: مُوَقًّى مستور مأْخوذ من العَمَر، وهو المنديل أَو غيره، تغطّي به الحرّة رأْسها…عَمَر ربَّه عبَدَه، وإِنه لعَامِرٌ لربّه أَي عابدٌ… يقال رجل عَمّار إِذا كان كثيرَ الصلاة كثير الصيام. ورجل عَمّار، وهو الرجل القوي الإِيمان الثابت في أَمره الثَّخينُ الوَرِعُ: مأْخوذ من العَمِير، وهو الثوب الصفيق النسجِ القويُّ الغزلِ الصبور على العمل، … وعَمّارٌ المجتمعُ الأَمر اللازمُ للجماعة الحَدِبُ على السلطان، مأْخوذ من العَمارةِ، وهي العمامة، وعَمّارٌ مأْخوذ من العَمْر، وهو البقاء، فيكون باقياً في إِيمانه وطاعته وقائماً بالأَمر والنهي إِلى أَن يموت. قال: وعَمّارٌ الرجل يجمع أَهل بيته وأَصحابه على أَدَبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيامِ بسُنّته، مأْخوذ من العَمَرات، وهي اللحمات التي تكون تحت اللَّحْي،…العِمَارة والعَمارةُ: أَصغر من القبيلة، وقيل: هو الحيُّ العظيم الذي يقوم بنفسه، ينفرد بِظَعْنِها وإِقامتها ونُجْعَتِها، وهي من الإِنسان الصدر، سُمِّي الحيُّ العظيم عِمَارة بعِمارة الصدر، وجمعها عمائر… والعَمَارة القبيلة والعشيرة…دارٌ مَعْمورة يسكنها الجن، وعُمَّارُ البيوت: سُكّانُها من الجن…والعَمَرانِ طرفا الكُمّين”([1])، ويحمل الفعل عَمَر معنى: “بنى وسكن”([2])، ودلالات أخرى تكاد لا تنتهي…
نلاحظ في هذه الدلالات المعجمية اختلاطها وتعقدها وكثرتها، فللعمران في معجم لسان العرب وحده عشرات الدلالات تشمل معاني الحياة والتعمير والعمارة واللزوم والخدمة والتحية والدعاء والريحان والستر والعبادة وقوة الإيمان والنسج القوي ولزوم الجماعة والعمامة والبقاء وجمع الناس على الطاعة والقبيلة والعشيرة… مما يستدعي بالضرورة الرجوع إلى القرآن الكريم قصد تقويم هذه الدلالات اللغوية والاصطلاحية والتاريخية وضبطها وتحريرها مما علق بها من دلالات طارئة أو مستوردة، يقول ابن منظور “وقيل: العَمَارُ ههنا الريحان يزين به مجلس الشراب، وتسميه الفُرْس ميُوران، فإِذا دخل عليهم داخل رفعوا شيئاً منه بأَيديهم وحيَّوْه به”([3])، فما وجه علاقة العمران بمجلس الشراب وتحية الناس؟
هذا المثال يدعونا إلى الانتباه أثناء استعمال دلالات الألفاظ القرآنية، والحذر من تقليصها في الدلالة الاصطلاحية التاريخية، ذلك أن القرآن الكريم لا يخضع لتقنين منهجي أو معرفي من خارجه، حتى ولو كان هذا الخارج هو معاجم اللغة العربية ذاتها. إذ أن لغة القرآن حاكمة على قواعد اللغة ودلالاتها واصطلاحاتها.
المبحث الثاني: دلالة “العمران” في القرآن.
بتدبر آيات القرآن الكريم واستقراء مفرداته بوصفه “أصل الأصول ومصدر المصادر، وأساس النقول والعقول، وقاعدة أي بناء حضاري يهدف إلى الإعمار والتنمية والازدهار والتقدم والصلاح، وغير ذلك من الغايات والمقاصد التي ترنو جميع الشعوب والأمم إلى تحقيقها وتحصيلها. وجميع المقاصد الشرعية المعتبرة والمعلومة والمقررة في الدراسات الشرعية، إنما هي راجعة في جملتها أو تفصيلها، تصريحا أو تضمينا إلى هدي القرآن وتعاليمه وأسراره وتوجيهاته”([4]). وباستيعاب “التجربة” النبوية والراشدية (نسبة إلى الخلافة الراشدة) نكون قد بنينا على الأصل المكين والحق المبين، والعلم الخالد إلى يوم الدين.
لقد وردت مادة “ع م ر” في القرآن الكريم خمسا وعشرين مرة، موزعة على ثلاث دلالات كبرى نذكرها كالتالي:
1ـ عمارة الأرض: ونجدها في قول الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ ([5]). و”إعمار الأرض مرتبط ارتباطا مباشرا بالحياة في هذه الأرض برا وبحرا وجوا، وحفظ حياة الأحياء في أوساط الحياة المختلفة، وتجنب إنهاء الحياة بالقتل وإفساد أسباب الحياة ووسائلها”([6])،ويمكن تسمية هذا الركن من العمران بالعمران المكاني، إذ الأرض ببرها وبحرها وجوها هي الكوكب الذي سخره الله تعالى لإنجاز فعل العمران.
2 ـ عمارة المسجد: وهي عمارة تتعلق بالمسجد وبخدمته والعناية به والتخلق بأخلاق السجود لله، أخلاق الإيمان والإحسان في تكاملها ومجموعها، والتي تخالف أخلاق الكفران والطغيان، قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِينَ أَن يَعۡمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم بِٱلۡكُفۡرِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ وَفِي ٱلنَّارِ هُمۡ خَٰلِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ (18) ﴾ ([7])، فالمشرك لا مسجد له، لأن المشرك يولد في الساحة، ولأهله أخلاق الساحة. أما المؤمن فبيته المسجد، و بروحانيته يتربى ويتعلم ويعلم ويعمل، يقول الإمام عبد السلام ياسين: “وُلد العقل المسلم في فناء الكعبة، في المسجد الحرام. وهكذا بدأ تاريخ الإسلام وتاريخ العقل الإسلامي”([8]).
ومن العمران المسجدي اعتمار البيت الحرام، وأداء فريضة الحج ونُسك العُمرة الممتد خلال العام،قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾
([9])، ومن الاعتمار قوله تعالى: ﴿ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ﴾ ([10])، المعمور بمعنى العامر. وهذا الركن من العمران يمكن تسميته بالعمران الروحي، الذي يُبنى فيه الإنسان بناء روحيا وعلميا وأخلاقيا. ومنه يشع إشعاعا عميقا ومتوازنا ومتواصلا في محيطه الممتد مكانا وزمانا.
3 ـ تعمير الحياة: من معاني العمران ما يدل على الزمن و سيرورته ،إذ كل عمران هو داخل الحيز الزماني، قال الراغب الأصفهاني: “العمارة نقيض الخراب…و أعمَرتُهُ الأرضَ واستعمرتُه: إذا فوضت إليه العمارة…والعَمْـرُ والعُمُـرُ : اسمٌ لمـُدة عمارة البدن بالحياة، فهو دون البقاء… والتعميرُ: إعطاء العُمُر بالفعل، أو بالقول على سبيل الدعاء…والمـَعْمَرُ المسكن مادام عامرا بسُكانه”([11])، نجد هذا المعنى في كلمة العُمُر الواردة في قَسم الله تعالى بحياة نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ([12])، وفي قوله تعالى: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ ([13]) لأن “الفرد الإنساني تبدأ حياته في بطن أمه، ثم يخرج إلى الحياة الدنيا، ثم ينتهي عمره فيأتي عليه الموت وتنهي حياته الدنيا، فيكون في بطن الأرض، حتى تقوم القيامة فيقوم إلى الحياة الأبدية الأخرى”([14])، وفي قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ([15]) وقوله :﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ ([16])، وقوله:﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ([17])، فكلمة عُمْر تعني: مدة الحياة، وطول عُمر الإنسان ليس دليلا على رذالته بالضرورة، فقد”أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيان فقال أحدهما: من خير الرجال يا محمد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من طال عُمره وحسن عمله”([18]). وبعض الأنبياء عمروا طويلا مثل سيدنا آدم وسيدنا نوح عليهما السلام، ناهيك عن كون الزمن ليس محط الذم في القرآن، إذ أقسم الله تعالى به في مواطن كثيرة مثل: والفجر والليل والنهار والعصر والصبح والضحى. أما اسم العَلَـــــــــــــم “عِمران”، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ ([19])، لعله يشير إلى التسمية التي تفيد بالتيمُّن: عُمرا طويلا. ولا يحمل أية دلالة خاصة. والله أعلم.
نستنتج مما سبق أن مصطلح “العمران” في القرآن الكريم مركبٌ جامعٌ بين ثلاث دلالات مترابطة وهي:
– دلالات العمران المادي المكاني: (تعمير الأرض)
– ودلالات العمران الروحي والنفسي والقلبي: (عمارة المسجد والعمرة والبيت المعمور)
– ودلالات العمران الزمني التاريخي: (العُمر)
وتفيد باختصار: العمران في الزمان والمكان والإنسان.
ومحور هذه الدلالات العمرانية في القرآن الكريم هو فاعلية الإنسان في الأرض، الإنسان في المسجد، الإنسان في الزمن: الأرض والمسجد والزمن، أو قل: التراب والروح والزمن. وهذه هي مقومات العمران الإنساني وهي تراعي البعد الروحي الإيماني، والبعد المادي الأرضي، والبعد الزمني التاريخي، ولعل هذا ما أكده مالك بن نبي رحمه الله في كتابه “شروط النهضة”([20])، حيث صور الحضارة على شكل معادلة تجمع بين ثلاثة عناصر (إنسان+ تراب+ وقت= حضارة). وإن كان الإنسان الذي يُقصد لبناء حضارة راشدة إنما هو الإنسان الصالح المـُصلح، القائم لله الشاهد بالقسط، وليس أي إنسان كيفما كان.
يقيم فعل العمران بين الإنسان والأرض علاقة خاصة لا توجد إلا بين هذين المخلوقين، فالأرض أمُّ البشر منها خرَج وفيها درأ وفي مناكبها يمشي وفيها يموت، ومن طيباتها يقتات، والإنسان هو المخلوق المكلف بإحسانِ السعي فيها، والتعاون لإصلاحها ما استطاع، “وقد أعطى الله الإنسان من الطاقات والاستعدادات والإمكانات ما يتناسب مع ما في هذه الأرض من قوى وطاقات وكنوز وخامات؛ فهناك تناسق بين القوانين الإلهية التي تحكم الأرض وتحكم الكون كله، والقوانين التي تحكم الإنسان، وما حباه الله به من قوى وطاقات، حتى لا يقع التصادم بين هذه القوانين وتلك، وحتى لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون”([21])، وحيث لا سعي للإنسان إلا في عالم الأشياء المبثوثة في الأرض “وإلا لم يكمل وجودهم، وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم”([22])، فإن فعل العمران يقع على الجمع بين عمران الإنسان وعمران الأرض في الزمان.
العمران إذن، مرتبط باستخلاف الإنسان في الأرض وسعيه في مناكبها بــ”الإنشاء والبناء”([23])، ولما كان الإنسان ذاته هو المقصود بهذا التكليف، وكانت الأرض التي يتحقق فيها العمران واحدة؛ فإن العمران القرآني عمران إنساني متصف بأوصاف صلاح الإنسان في القرآن. وكونه مرتبطا بالمسجد يجعله متصفا بخاصية الغائية، أي قاصدا نحو غاية مسجدية إيمانية إحسانية، وليس حضارة عبثية طارئة، فهو عمران استخلافي إحساني، يروم تعمير الأرض بما ينفع الإنسان ويحقق مصالحه في العاجل والآجل، أفرادا وأمة وإنسانية.
المبحث الثالث: المسجد بين البنيان والعمران في القرآن:
في قوله تعالى: ﴿ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾([24]) يتبين أن فعل العمران قائم بثلاثة أركان: المُنشئ والمُستعمر والمَحل. فالله تعالى هو الذي أنشأ الإنسان على الصورة وفي الزمن والمكان الذي شاء “هُوَ أَنشَأَكُم”، وبعد النشأة تَم أمرُ الله باستعمار الإنسان في الأرض، ولا دخل للإنسان في فعل الإنشاء، بل الله هو الذي خلقه كما هو، وسوَّى الأرض التي هي مُكثه قبل أن يسخرها لمآربه، ثم إن فعل النشأة الإنسانية وقع “مِنَ الأَرْضِ” بأمر الله، ولا إمكان للعمران إلا في الأرض، ولا إشعاع في الأرض إلا من المسجد، فهي مسرح الفعل ومكان الابتلاء وهو مقر الدعوة ومركز الجهاد.
1 ـ فعل الله المطلق: العمران فعل الله تعالى في الكون، فهو صاحب الإرادة المطلقة في أن يستعمر الناس ويستخلفهم في الأرض، وجميع الناس خاضعون لربوبيته طوعا وكرها. هو الفاعل لما يشاء كما يشاء، ولا مُعقب لمشيئته وحُكمه، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [25])، و﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ ([26])، ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ([27])، و﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ([28])، و﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ ([29]).خلَق وسخَّر وجعَل، أي أن الخلق والتسخير والجعل أفعالٌ إلهية سابقة على وقوع فعل العمران الإنساني ومُعِدة له ومستمرة معه. قال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ ([30])، ليس فقط جميع الناس في جميع الأزمان والأماكن، بل جميع الخلق أسلموا لله بخضوعهم للسنن الإلهية الناظمة للوجود.وقــــــــــــــــــــــــال أيضا: ﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ ([31])، وهذا سجود مشترك بين الخلق، حتى الذين أشركوا لا يجدون جوابا عن سؤال الخلق سوى قولهم: الله. قال تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ (61) ٱللَّهُ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ (62) وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ (63) ([32]). لكن تجاوز مجرد الاستماع والتصديق إلى مستوى الاتباع والعمل هو الذي يجعل “العمران حياةٌ وفق هداية الله”([33]).
2 ـ فعل الإنسان المقيد: الإنسان هو المستخلف من الله تعالى بإذن الله وليس باختياره هو، وهو المكلَّف بتحقيق فعل العمران حياة إيمانية إتقانية متجسدة ومتجددة، قال الإمام الطبري في معنى العمارة في الآية﴿ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي ﴾ ([34]): “وجعلكم عُمَّارًا فيها”([35])، حيث الإنسان إنشاءٌ طارئ في الوجود بإرادة ربانية سابقة وبعناية إلهية مرافقة، وسعيه خاضع للسنن والقوانين الناظمة لمجريات الكون طوعا وكرها. لتكون خلافته هي “قيامه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض”([36])، ولا يسع أحدا من الناس أن يتجاوز أقدار الله الكونية، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ([37])، واستخلافه هو إمداده بالقدرات الفطرية والفكرية والعملية للعمل وفق تلك السنن والقوانين الكونية الكلية، وجعله مسؤولا عن إقامة حياة عمرانية تنسجم مع قصد الله الكوني وقصد الله الشرعي، أي تٌوَافق النواميس الموضوعية من جهة، وتواتي الحقيقة القرآنية النبوية المنزلة وحيًا من جهة ثانية. وليس وراء ذلك إلا التهارش والتنابز، روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”وإياكم وهيشات الأسواق”([38])، قال الإمام النووي شارحا: “أي اختلاطها، والمنازعة و الخصومات، و ارتفاع الأصوات و اللغط و الفتن التي فيها”([39]).
إن تغيير الأنفس وتزكيتها شرط في تغيير الأوضاع الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية وغيرها، لذلك توجهت النبوات إلى ترسيخ الآيات في الأنفس كي تتحقق تزكيتها قبل ترسيخها في الواقع الخارجي، فإذا بالعمران ينقدح من داخل الإنسان، نورا على نور، ليبني واقعا يليق بكرامة الخلق المكلف وتكريمه واستخلافه الرباني. ويوفر له البيئة الإيمانية والمادية التي تسعفه في معرفة ربه ومعرفة نفسه ومعرفة العالم من حوله. يقول مالك بن نبي وهو يتحدث عن مفهوم الاقتصاد: “الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصانع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان وإنشاء سلوكه الجديد أمام كل المشكلات”([40]).
لكن الاستخلاف الإلهي للإنسان ليس على درجة واحدة، وإنما هو درجتان أو قل بتعبير أدق: دائرتان، تتضمن إحداهما الأخرى.
الدائرة العامة: ويمكن نعتها بالدائرة الكبرى، والتي ينتمي لها جميع الناس؛ وأسميها بـ”أُمة الاستماع” لأنها تستوجب على الأمة الشاهدة أو “أمة الاتباع” أن تُسمعها نداء القرآن والنبوة، آنذاك لها أن تؤمن أو تكفر. هذه الدائرة تعنى باستخلاف جميع البشر لهذه الأرض ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ﴾ ([41])، وهم يتمتعون بخيراتها مُؤمنهم وكافرهم، بَرهم وفاجِرهم على حد السواء، حيث استخلف الله الإنسانَ منذ الخلق الأول وعرض عليه الأمانة التي عجزت عنها وأشفقت منها الخلائق الضخمة: السماوات والأرض والجبال، وهي مطيعة، فقبِلها هو وحملها، وبذلك كان خليفة لله الغني عن عباده.
في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً ﴾([42]).يتبين أن “التكليف العام للإنسان من حيث كونه إنسانا هو المضمون الذي يتضمنه معنى الخلافة حينما يطلق عاما على جميع أفراد الإنسان، وسواء أكان الإنسان مطيعا لله فيما أمر ونهى أو لم يكن…فهو خليفة باعتبار التكليف وما أُعد به من قوى تنهض بذلك التكليف”([43]).وقد “خاطب الله البشر جميعا على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى أخذ طريق الهداية النهائية”([44])، ليصلحوا أنفسهم ويصلحوا أوضاعهم، وينتفعوا بالكون المسخر لهم انتفاعا عابرا معهم من الدنيا إلى الآخرة، جامعا بين إسعاد الفرد وإسعاد الجماعة. قال الإمام الغزالي: “فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم”([45]).
الدائرة الخاصة: وتُعنى باستخلاف خاص؛ لأمة الاتِّباع، وهو الذي أشار إليه الراغب الأصفهاني ووصفه بتشريف المستخلف وهو تمكين مرتبط بحيثية أشار إليها الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )
([46])، وهي قضية استخلاف إيماني وإصلاحي وتمكيني وأخلاقي ورباني، يتحرر فيها الإنسان من الأوهام والأهواء، ويتخلص من استصنام الناس والأشياء، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾([47]).وفي هذا الاستخلاف تتحقق روابط التعارف والتكافل والتعاون والتواصي بالحق والصبر والمرحمة، وهذه الروابط “لا يمكـن أن تترعرع وتزدهر و تثمر إلا في المسجد لأن الوشائج الروحية الحقيقية لا يغذيها إلا الاحتكاك المتواصل الحميم بواسطة المساهمة والمعاشرة، الأمر الذي يعمق التلاقح الفكري والروحي.”([48]).
الصلاح متعدٍّ والفساد كذلك، “فالفرد عند صلاحه وتقواه يصبح لبنة يُكون مع غيره البناء الإسلامي الذي يساهم في رد الظلم ونصرة الحق”([49])، وحديث السفينة في هذا المعنى مشهور، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا ، فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِى نَصِيبِنَا خَرْقًا ، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا . فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا ، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا”([50]). هذا الحديث -وغيره كثير- شاهد على الوظيفة الإصلاحية التي إن تعطلت وقع الخلل وحصل العبث.
لما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرف أم سلمة رضي الله عنها: أنُهلَك وفينا الصالحون؟ أجاب: نعم
إذا كثر الخبث”([51]). ولا يكثر الخبث إلا إذا كثر فاعلوه، الذين﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ([52])،وقلَّ الناهون عنه الذي ﴿ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾([53])، مع التنبيه إلى أن الإصلاح الإنساني في استطاعة الإنسان إقامته، لأن الله تعالى لا يكلف عباده ما لا يطيقون ولا بما يستحيل فعله. وجيل الصحابة شاهد على عمق التربية النبوية المسجدية، حيث كان المسجد “على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين عرين أسود، ورياض جهاد، ومدرسة جامعة، ومقر قيادة أركان جند الله، ومجلس شوراهم ذلك أن بيت الله أحق البيوت أن ينطلق منها ويرجع إليها ويتجمع فيها ويتآلف جند الله”.([54])
تتجلى الوظيفة التي قدمت نموذجها النبوة الخاتمة في تكامل التلاوة والتزكية والتعليم والحكمة والجهاد، ذلك التكامل الذي يُدرك بالأخوة الإيمانية والجماعة الجهادية والعلم النافع والعمل الصالح، فـ”تلاوة الآيات تبليغٌ مادي آلته اللسان، وتبليغٌ بالإقناع لصدق المبلغ ينضح بصدقه نبرة صوته، وخشوعه وبيان ما يتلوه وإعجازه، ثم طاعته لما يوحى إليه، وبيانه للغامض منه على أفهام السامعين، وتفصيله للمجمل، وتخصيصه للعام. وكل ذلك وحي لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.وتزكية هي: “التطهير والنماء ببركة الله تعالى” كما قال المفسرون. ثم التعليم العلمي المعرفي والتطبيقي. يعلمهم الكتاب، يعني أنه يعلمهم الأحكام الشرعية. يعلمهم الحكمة، يعني الكيفيات العملية التطبيقية التفصيلية. والحكمة “معرفة الموجودات وفعل الخيرات وإصابة الحق بالعلم والعقل”([55]).مجموع هذه الوظائف يؤول إلى صفة واحدة هي صفة المربي المعلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم حين سألوه يوما عن الطهارة من الخبث : “إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم”([56]).
لائحٌ أن مِن الناس مَن تحقق بشرط الاستخلاف الخاص وحمل الرسالة وبلغ الأمانة، ومنهم من نكص على عقبيه وخان الأمانة ونسي العهد واتبع السبل فتفرق به عن سبيله؛ فليس الناس على أتقى قلب رجل واحد؛ حيث منهم الصالح السابق بالخيرات، ومنهم المقتصد، ومنهم الظالم لنفسه، والظالم لغيره﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ﴾ ([57]). ولا يزال الأمر كذلك إلى يوم القيامة. ولا يقع الاستخلاف بمعناه الخاص إلا في حق أمة مخصوصة بأفضال تميزها عن غيرها، إن هي سلكت على هدي المنهاج القرآني النبوي ولم تزغ عنه إلى الهلاك. وهذا بيِّنٌ من قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ
([58])، وقوله سبحانه: ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ([59]).
إنه استخلاف الأمة المسلمة التي تكون رحمة في العالمين ورحمة للعالمين، الأولى رحمة ذاتية تميزها عن غيرها، والثانية رحمة سارية في العالمين؛ وإن شئتَ قل: أمة الاتباع رحمة في أمة الاستماع، ورحمة أُخرجت لها، قال الله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ([60])، وأمة الاتباع هي الأمة الوسط الشاهدة بخيريتها على العالمين، والمتسعة بمرجعيتها للناس أجمعين، لذلك حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تربية هذه الأمة تربية القدوة للأمم و”سنَّ نظام المؤاخاة: فآخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض، وبينهم ويبن الأنصار، وكانت المؤاخاة على الحق والمساواة”([61])، وكرَّه للناس نظام العصبية والقبلية وأخلاق الجاهلية، “فحلت الأمة والملة محل القبيلة والعشيرة([62])، و التعصب الجاهلي للآباء والأجداد والأحزاب.
ولا تربية للفرد المسلم ولا للأمة المسلمة الشاهدة بالقسط بلا مسجدٍ جامعٍ، إذ المسجد “محورٌ تدور حوله كل الأنشطة التكافلية، وتعقد فيه الاجتماعات، وتتوثق به عرى المحبة الأخوية، المسجد الذي يتوسط الحارة ويشع على فضائها، المسجد الذي يجب أن يكون المؤسسة المركزية الحاضرة في العمارات، والإدارات، والمدارس، وأماكن العمل”([63]).حتى يكون الجامع للناس ولهمومهم واهتمامهم.
تجعل الخلافةُ الإنسان في موقع النيابة عن الله عز وجل، وتحمله مسؤولية الاستخلاف والائتمان، “وله الاختيار في أن يسخر ما منح من قدرات لفعل الخير، والتعارف مع الأقوام والشعوب، وإسداء المعروف. وشكر نعمة الإيمان بتبليغ الشعوب والقبائل رحمة الإسلام وبشارة أن الإنسان ما خلق عبثا”([64]).و لا يفهم من ذلك أن فردا بعينه (حاكما أو راهبا…) هو الخليفة عن الله يفعل في ملكه ما يشاء. وإنما الإنسان عموما والأمة الشاهدة؛ أمة الإتِّباع خصوصا، لذلك فهي مسؤولة عن أداء هذا الواجب: “أمانة الاستخلاف” في كيانها وتجاه باقي الناس في العالم وباقي المخلوقات المسخرة للإنسان في بيئته مِن أنعام ونبات وأشياء.
3 ـ استقبال الأرض لفعل العمران: الأرض هي المحل الذي جعله الله قابلا لفعل الاستعمار والاستخلاف. والتمكينُ فيها كائنٌ بقصد عمارتها واستغلال الكنوز والثروات المجعولة فيها. وهذا مشترك بين جميع الناس الذين يعيشون على ظهرها. وعمران الأرض يتم بالمشي في مناكبها والمكث المؤقت على ظهرها، والأكل من طيبات الرزق المسخرة فيها، واجتناب الخبائث المتلبسة بها، وتحمل المسؤوليات الفردية والجماعية في جميع الاختيارات المتعلقة بالكدح فيها، من خلال استثمار واستغلال المعايش التي جعل الله فيها، كما هو واضح من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ ([65]). ففيها من المعادن والمكرمات والثمرات ما يسعف الناس لإقامة الحياة الطيبة التي يعم خيرها العالمين ويستمر مع الأجيال إلى يوم الدين. فالأرض مهدٌ وفراش، ومناكب ومعايش، وسُبل ومسالك، مسخرة لاستقبال أمر الله بعمران الإنسان لها، قال الله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى﴾ ([66])، وهو ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ ([67]).
هذا التسخير الإلهي للكون يجعل الأرض ببرها وبحرها وسمائها وشمسها وقمرها وما بث الله فيها من أشياء مهيأة لغاية عمرانية كبرى، يكون فيها الإنسان صانعا للعمران، قال الله تعالى: ﴿ أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦ وَيُمۡسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ ﴾ ([68])،و﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ﴾ ([69])، فيترتب على تسخير الكون للإنسان، وهو في تمام الانسجام بين عناصره الأرضية والسماوية، وفي عظيم الانتظام في آيات الخلق والإحياء والجعل والإنزال والبث والتصريف والتسخير، منفعة مشتركة بين الناس أجمعين، منفعة ممتدة مع زمن المكوث في الأرض. لكن لا يدرك ذلك إلا من يتعقل. من يتدبر ويتفكر ويتبصر.
خاتمة:
نخلص مما سبق إلى أن فعل العمران في القرآن الكريم مركبٌ جامعٌ يستوعب أمر الله في كونه، وفعل الإنسان في سعيه على الأرض وهو يتحمل مسؤوليته زمن وجوده فيها، سواء أكان فردا أو جماعة، لذلك يحدثنا القرآن الكريم أحيانا عن الإنسان: بالأفراد والأقوام والأحزاب والأمم، وهو صانع العمران، وأحيانا يحدثنا عن القرى، وهي مكان العمران، وأحيانا عن القرون وهي زمان العمران. ويقدم منهاجا واضحا للإنسان كي يستقيم، يدعوه إلى التخلق بأخلاق الإيمان وروحانية المسجد، للتزود إلى اقتحام العقبات النفسية والمعرفية والاجتماعية قصد معرفة الحق والسلوك بمقتضاه. وحاجة الإنسانية إلى العمران مثل حاجة العمران إلى القرآن، وحاجة القرآن إلى الإيمان، وحاجة الإيمان إلى المنهاج. و”المنهاج نبوي قرآني أنزله شريعةً مَن خلق الإنسان وسواه وعدله، وطبّقه توقيتاً وعيناً وحكمةً نبيٌّ موفق مُسدد في حركاته وسكناته. المنهاج النبوي التربوي التعليمي جاء من نفس المصدر الذي جاء منه جسم الإنسان وعقله ونفسه وكيانه. بما صلح به الجيل القرآني النبوي الأول تصلح به الأجيال إلى يوم القيامة إن كانت التربية والتعليم قرآنيين نبويين”([70]).
نداء القرآن الكريم موجه للإنسان حيث كان هذا الإنسان، يشده إلى الأعلى ليكون عارفا بالله، صالحا في الأرض، فاعلا للخير، نافعا للغير. يرفعه إلى قيمة السجود لله وهي قيمة القيم الإيمانية الإحسانية الجامعة، ويثبت قدمه في الأرض عاملا مبدعا معتبِرا مسؤولا عن عمله واختياره ومُجازا عن إنجازه في العاجل والآجل. غير ملتفتٍ إلى بريق الفلسفات العقلانية والمادية التي لا ترى في الإنسان سوى “كائن !” تلده الصدفة، وتسوقه العادة، ويشغله الاستهلاك، وينتظره الهلاك، ولا آخرة هناك.
نسأل الله النية واليقين.
لائحة المصادر و المراجع:
– الاجتهاد المقاصدي؛ حجيته..ضوابطه..مجالاته، الخادمي نور الدين بن مختار،ج 1، ط 1، 1419هـ/ 1998م.
– الإسلام والحداثة، ياسين عبد السلام، مطبوعات الهلال، الطبعة الأولى، وجدة، المغرب، 2000م.
[1]– التحرير والتنوير، ابن عاشور الطاهر، دار سحنون للنشر والتوزيع، ج1، تونس، 1997م.
– جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري محمد بن جرير، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420ه/2000م.
– الحضارة فريضة إسلامية، زقزوق محمود حمدي، مجلة المسلم المعاصر،1412هـ/ 1992م عدد 63.
– سنن الترمذي، الترمذي ، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1996م.
– شرح النووي على مسلم، النووي يحيى بن شرف أبو زكرياء، دار الخير، 1416ه/1996م.
– شروط النهضة، ابن نبي مالك، ترجمة عمر كامل مسقاوي، دار الفكر، دمشق، 1969م.
– صحيح البخاري، البخاري ، تحقيق ﻣﺤﻤﺪ زﻫﻴﺮ ﺑﻦ ﻧﺎﺻﺮ اﻟﻨﺎﺻﺮ، دار ﻃﻮق اﻟﻨﺠﺎة، دﻣﺸﻖ، ط1، 1422ﻫـ.
– صحيح مسلم، مسلم ، تحقيق نظر بن محمد الفاريابي أبو قتيبة، ط1، 1427هـ/2006م.
– العلاقات الإنسانية في الإسلام، المنصور خالد منصور،مكتبة التوبة، العربية السعودية، ط2، 1413هـ/.
– العمران في منظومة القيم الحاكمة، ملكاوي فتحي حسن، إسلامية المعرفة، عدد 59، 1431هـ، 2010م.
– فهم القرآن الحكيم، القسم الثالث، الجابري محمد عابد، دار النشر المغربية، ط1، 2009م.
– قاموس القرآن الكريم، (نخبة من العلماء والباحثين)، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، الكويت، ط1، 1416هـ، 1992م.
– القاموس المقارن لألفاظ القرآن الكريم، خالد إسماعيل علي، دار المتقين للثقافة والعلوم والطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1430ه، 2009م.
– لسان العرب، ابن منظور محمد بن مكرم، دار الجيل، بيروت، 1408هـ/ 1988م.
– محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ياسين عبد السلام، مؤسسة التغليف والطباعة والتوزيع للشمال، الرباط، ط1، 1994م.
– مراجعات في الفكر الإسلامي، النجار عبد المجيد، دار الغرب الإسلامي، تونس، ط1، 2008م.
– المستصفى من علم الأصول، الغزالي أبو حامد، تحقيق مصطفى أبو العلا، القاهرة، مكتبة الجندي، د.ت. ج1.
– المسلم في عالم الاقتصاد، ابن نبي مالك، دار الشروق، القاهرة. د ت.
– مفردات ألفاظ القرآن، الأصفهاني الراغب، أحمد بن الحسين، تحقيق عدنان صفوان داوودي، دار القلم، دمشق، ط4، 1430هـ/2009م.
– المقدمة، ابن خلدون عبد الرحمن، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، ط 2، 1416هـ/ 1996م.- ابن عاشور الطاهر، التحرير والتنوير، دار سحنون للنشر والتوزيع، ج1، تونس، 1997م.
– المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ياسين عبد السلام، الطبعة الثانية، 1989م.