منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

ببغاء خْوَانا (قصة قصيرة)

ببغاء خْوَانا (قصة قصيرة)/عبد الهادي المهادي

0
ببغاء خْوَانا (قصة قصيرة)
بقلم: عبد الهادي المهادي
وأنا طفل صغير دون العاشرة من عُمري، كنتُ مُغرما بالتجوال في دروب طنجة وأزقتها، خاصة العتيقة منها؛ فما أكثر المرّات التي انسللتُ فيها من بين جَمْعِ أصدقائي الصغار وغادرتهم وحدي دون أن أخبرهم بوجهتي، التي غالبا ما تكون ما بعد شارع فاس صُعودا نحو “السوق دْ برّا” وما يليه، لأنّني كنتُ أقطن في “راس ماروك” قريبا من كاسطيا.
فإذا حصل وأن كنتُ قد جمعتُ بعض الدّريهمات بطرق شتى، يكون ولوج سينما كازار أو كابيطول من أسعد أيامي حينئذ.
أثناء عودتي، غالبا ما كنتُ أمرُّ وسط حيّ جميل وأنيق وهادئ، كان عبارة عن “فيلات” متفاوتة الحجم، وسط أشجار كثيرة وعالية، حيّ يبدو على بناياته أمارات غنى أهله قديما، يوم كان حيّا خاصا بالإسبان على ما أعتقد. واليوم تمّ هدم أغلب تلك الفيلات وتحويلها إلى عمارات وبنايات حديثة، الغائب الأكبر فيها تلك الأشجار وذلك الجمال الطبيعي والهندسي.
أمام سينما مبروك، سابقا، حيث يوجد اليوم مقر أطينطو، كنتُ أسلك شارعا ضيقا نحو بناية عتيقة على اليسار، تضع ساكنته الإسبانية ببغاءً عظيما على نافذة قريبة من الطريق ـ أو على الأقل هكذا أتذكّره اليوم ـ كنتُ أقف أمامه مُحدّقا في ألوانه وحركته، وما إن يراني حتى يصرخ بأعلى صوته مناديا على اسم صاحبته: “خْـوَانَا…. خوانا”، فأفرّ هاربا، ظنّا منّي أنها ستسرع خلفي لأنّني أخفت طائرها المفضّل، كنتُ أحسّ أنه يعيش حياة رغدة، وكنتُ ـ لذلك ـ أشعر به ينظر إليّ بتعاظم وزهو.
في بداية الثمانينات كان النّاس جميعا ـ كما أتذكّرهم اليوم ـ وكأنهم يعيشون حالة عامة من الفقر؛ فأن يكون لك ببغاء عظيم، هذا يعني أنّك من الأثرياء. اليوم أعي أن تلك الإسبانية لم تكن غنيّة، ولكنها كان مَولوعة ومنظمة.
ما إن كنتُ أقطع مسافة آمنة حتى أتوقّف لأستردّ أنفاسي الصغيرة.
ذلك البيت غدا اليوم مهجورا، وانهياره مسألة وقت قصير، والأزبال ترمى بجانبه دون حسيب أو رقيب.
قريبا منه، يمينا وأنت نازل من “مسجد بوحوت” نحو شارع فاس توجد بقالة قديمة في ركنٍ يمينُها يؤدّي إلى محلبة قنديل؛ الرّجل الفَحْصي الذي اشتهر بصناعة متقنة للبن والزبدة والجبن. أمام ذلك البقال كنتُ أقف طويلا، لأشاهد صورة (بوسطير) مازالت لحدّ الآن منطبعة في ذاكرتي: رجل قويّ البنية، بشرته “كاراميلية” اللّون، وشعره مجعّد، يرتدي قطعا جلدية تبرزُ عضلاته المفتولة، وينتعل حذاءً خفيفا تصل خيوطه المتموّجة إلى أسفل ركبتيه بقليل. فيما بعد شاهدتُ أمثاله في الأفلام الرومانية. كان يُشهر سيفه الطويل البرّاق في وجه امرأة وفتاة، وهما يجلسان أمامه في ارتعاب. كنتُ أعتقد أن المشهد حقيقيا، وكنتُ أطيل الوقوف أمامه مشدوها مُشْرئبّا بعنقي حتى ينشف حلقي.
ولأنّ وقوفي تكرر كثيرا حتى اشتُهرتُ عند صاحب البقال، وكان شلحا، فقد أمسك ذات مرّة بكتفيّ الصغيرتين وأدخلني بحنوّ وعطف كبيرين إلى أن أصبحت قريبا جدّا من الصورة وقال لي: شوف معا راسك أوليدي… شوف!
شعرت ببرد كمن يجلس في العراء، نظرتُ قليلا إلى الصورة وأنا غارق في حيائي، ثمّ غادرتُ مسرعا، ولم أعد إلى دخول المحلّ سوى البارحة!
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.