التناص في رواية “دروس في الحب والسعادة” لمحمد حجو
الملخص:
حاولت هذه الورقة البحثية دراسة التناص، دراسة تحليلية، في رواية “دروس في الحب والسعادة” للكاتب محمد حجو. من خلال تقديم إطار نظري للتناص، قصد تقريب المفهوم من المتلقي عبر تحليل بعض النماذج التي تضمنها المتن الروائي؛ حتى نرى إلى أي حد كانت النصوص الأخرى حاضرة بقوة في جسد الرواية. وقد توسلت الرواية بهذه النصوص الدينية والنصوص الشعرية بغرض تحقيق بناء فني من جهة، وبناء معرفي دلالي من جهة أخرى. فكان امتزاج هذه النصوص في العمل الروائي أمرا طبيعيا محيلا على الأطر الثقافية التي شكلت شخصية الكاتب الإبداعية، والمصادر التي نهل منها مادته. كما سعى الكاتب من خلال هذا التناص الديني والشعري إلى إنتاج الدلالة التي يهدف إليها، والتي يقصر النص الحاضر عن الإيفاء بها لوحده دون الاستئناس بهذا النوع من النصوص.
Abstract :
This article tackles intertextuality in “lessons in love and happiness” novel written by Mohamed Hijo through samples that allow the reader to understand the analytical framework and comparing it to other texts and their relatedness to the novel. It adopts the analytical approach to analyse and interpret the data. The novel under study encompasses religious and poetic texts for the sake of achieving an artistic and semantic construct. This piece of paper concludes that these blending texts shape creative side of the author’s personality and that through the religious and poetic intertextuality, he seeks to produce the sign he targets to.
Keywords : intertextuality, novel, comparison.
مقدمة:
تعد الرواية جنسا أدبيا كباقي الأجناس الأخرى، له مكوناته وعناصره التي تميزه سواء من ناحية اللغة المستعملة أو من ناحية المحتوى أو المضمون، أو من ناحية البناء العام لهذا النوع من الأنواع الأدبية. وتجدر الإشارة إلى أن الرواية مثلت في مرحلة من المراحل ولا تزال مرآة تعكس هموم الشعوب وآمالها. من هنا أصبحنا نتحدث عما يسمى الرواية الواقعية أو الرواية الاجتماعية التي حاولت أن تنقل صورة الإنسان الذي يعاني من القهر والظلم والاستبداد، فلم تكن بذلك في منأى عما تعيشه هذه الشعوب من عيش بئيس، وهدر للكرامة وحرمان من أبسط الحقوق. بل ومنها من رمت صاحبها إلى القبوع في غياهب السجون ليدفع ضريبة قول كلمة حق في زمن اتسم بسيادة القهر والاستبداد، حيث لعبت الرواية دورا في إيقاظ ضمائر الشعوب وحشد هممها واستنهاضها من أجل الثورة على واقعها وتغييره.
ومادام أن الرواية موضوع الدراسة هي لكاتب مغربي هو محمد حجو[1]، فقد ارتأيت أن أتحدث عن خصائص هذا الجنس الأدبي في المغرب دون الحديث عن الرواية العربية ، وهذا ليس تجاهلا مني، بل حرصا على التركيز على ما يهم عناصر الدراسة بالتحديد. وقبل ذلك سأطرق مفهوم الرواية للتعرف على الظروف والسياقات التي أنتجت هذا النوع من أنواع الكتابة الأدبية.
مفهوم الرواية
:
إن السؤال التقليدي الذي يُطرح ونحن نطرق موضوع الرواية، هو ما الرواية؟ وهو سؤال شغل نقادا ومبدعين في الشرق والغرب، مما يدل على مدى الإشكال الذي تطرحه ماهية الرواية. فمنهم من يرى أنها: “مؤلف تخييلي نثري له طول معين، ويقدم شخصيات معطاة كشخصيات واقعية يجعلها تعيش في وسط، ويعمل على تعريفنا سيكولوجيتها، بمصيرها، وبمغامراتها” [2] في حين نظر إليها عبد الفتاح عثمان على أنها ” انطباع شخصي مباشر للحياة، وفي هذا بادئ ذي بدء تتلخص قيمتها التي تعظم وتصغر تبعا لحدة هذا الانطباع” [3] و” الرواية تصف الرجل العادي أي أنها تأخذ مادتها من الواقع المعاش، وتعبر عن الأفراد العاديين الذين نراهم ونتعامل معهم في حياتهم اليومية”. [4] من هنا تختلف الرواية عن الأسطورة التي تصف الكائنات الغيبية تغوص في الخيال، وهذا ما جعل النقاد والمبدعين ينشغلون بتحديد ماهيتها والبحث في جذورها وأصولها، مادامت تعتبر أكثر الفنون الأدبية التصاقا بالحياة الواقعية. لهذا يعرفها محمد زغلول سلام بأنها “نموذج فني يتصل بكثير مما يهم الناس مما يضمنه الفنان عمله” [5] وهذا يجعل الرواية تجمع بين الشق الموضوعي المرتبط بهموم الناس ومعاناتهم، والشق الشكلي الذي يحقق جمالية الرواية وإبداعيتها. ويظل لوكاتش أول من قدم طرحا متناسقا للرواية في كتابه “نظرية الرواية” عندما ربط بينها وبين الملحمة واعتبرها ملحمة برجوازية، ولكن الاختلاف يكمن في كون الملحمة لا تشمل سوى طبقة معينة وهي الطبقة الارستقراطية، في حين تشمل الرواية كل الطبقات وبالتالي تستهوي جل أصناف القراء. والرواية في رأي باختين، لا تخضع لتعريف قار. ولا تلتزم بقوانين ثابتة بسبب تطورها المستمر، وارتباطها بالواقع الذي يعطيها إمكانية التغير والتجدد. [6]
وتأسيسا على ما سبق، نقول إن الرواية لا تملك تعريفا جاهزا، واحدا، مادام الواقع الانساني غير ثابت وغير نهائي، فالرواية تظل أكثر الأجناس الأدبية ارتباطا بالواقع الانساني، مما يطرح صعوبة إيجاد تعريف قار لها.
الرواية المغربية
:
إن الرواية المغربية “تبدو الورطة أكبر، ما دامت تمثل العطب المزدوج، عطبها الخاص المتعلق بنشأتها، وعطب تقليدها للرواية المشرقية التي قلدت بدورها رواية الغرب، المبدع الحقيقي، بلا منازع، للرواية العصرية”[7]. و”الواقع أن معظم الروايات المغربية، وعلى الخصوص روايات البدايات، هي روايات سير ذاتية بشكل أو بآخر، حيث غالبا ما ينهل كاتبها من تجربته، محاولا الاستفادة من ماضيه كما هو، أو محورا بصياغة فنية، تختلف من كاتب لآخر” [8]. أما فيما يخص الخصائص البنيوية التي وسمت الرواية المغربية في تلك المرحلة، فتتأسس” على الحكاية، والزمن الواحد المسلسل، والراوي التقليدي المطلع والعارف بكل شيء، والتعليمات المباشرة والوعظ والخطابية، وتدخل المؤلف بالتعليق على الأحداث والشرح”.[9]
كما مثلت نصوص تلك المرحلة مرآة عكست الواقع المعيش وسعت إلى فضح تناقضاته وتشوهاته. ومن أهم روادها، نجد محمد شكري ومحمد زفزاف ومبارك ربيع وعبد الكريم غلاب وغيرهم. وركزت بشكل كبير على المضمون على حساب الشكل بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية التي طبعت الساحة المغربية آنذاك. وقد حافظت الرواية المغربية على نهجها الواقعي إلى حدود الثمانينات من القرن الماضي، لكنها بعد ذلك ستعرف منعطفا نوعيا جعلها تصب اهتمامها على الشكل مهملة بذلك المضمون. فلم تعد الرواية تلامس هموم الفرد وتسعى لنقل مشاعره وانفعالاته، بل عملت على تكسير النمط السائد (خطية السرد وتعدد الساردين). كما عملت كذلك على تكسير بنية الزمن واستثمار التراث وغيرها من المكونات الشكلية التي حددت ملامح النص وطورته بشكل كبير.
“ولا يقل حضور تيمة الغرب في الرواية المغربية كما هو الحال في الرواية المشرقية، وهو ما ظهر جليا عند عبد المجيد بن جلون(في مرحلة أولى) في سيرته الذاتية “في الطفولة” التي رسمت لنا طفولة مقسمة بين مدينتين (لندن وفاس) متعارضين أشد التعارض”[10]. وعلى الرغم من كون الكتابة الروائية حديثة العهد بالمشهد الإبداعي المغربي إلا أنها استطاعت أن تتبوأ مكانة محترمة تتجلى من خلال حجم وقيمة الجوائز المحصل عليها، وكذا من حيث الحصيلة الكمية والكيفية المتحققة في هذا المجال. [11]
التعريف بالرواية موضوع الدراسة:
تعد رواية ” دروس في الحب والسعادة” ثاني عمل روائي للكاتب محمد حجو، بعد روايته الصادرة سنة 1994، والموسومة ب “هلم شرا” . تقع في 152 صفحة. وهي متن روائي يمتزج فيه الواقعي بالمتخيل، يخلق فيه الكاتب حوارا بين شخصين أو بالأحرى جيلين: جيل يمثله الأب وجيل يمثله الابن، يكسر من خلاله الزمن المعتاد عبر استدعائه لأزمنة بعيدة وعوالم تنتمي إلى عالم الأسطورة يسبح فيه ويغوص لعله يجد ذاته ، بلغة تمزج بين الشعر والنحو والأسطورة والأدب والفلسفة، مزيج يجعله يثور على عالمه الواقعي ليتجاوزه إلى عوالم يحفر وينبش فيها باستمرار ليخرج مكنون النفس، حيث تنفجر طاقة الذّات الداخلية معبرة عما يختلج بداخلها من هواجس تتملص من قيود الزمن والمكان.
لا تنحصر الرواية داخل إطار زمني معين بل تنفلت منه وتجوب العوالم كلها في تجاهل تام للزمن الذي يقيد حركة البطل ويشل حركته. منذ مستهل الرواية يتبدى تمرد على الصورة النمطية للذات عبر الانسلاخ عنها حيث تتشكل ذات أخرى غير ذات البطل.
أ-ملخص الرواية:
الرواية عبارة عن حوار بين أب وابن يتضمن دروسا في الحب والسعادة. وليس بالضرورة أن يكون الابن هو من طلب من الأب تلك الدروس، فغالبا ما تكون العاطفة الأبوية منطلقا لبث هذا الفعل أو السلوك.
تدور الأحداث في عوالم لا يحصرها الزمان ولا المكان، بل تتحدى الحدود وتجوب بنا في رحاب عالم التراب المدنس، وتسعى إلى التخلص من قيوده وتشوهاته الشخصية المحورية لتأخذنا إلى العالم المائي الطاهر. فالابن يظل يطرح أسئلة لعله يجد لها جوابا. كيف السبيل إلى التخلص من قذارة التراب؟ والكاتب من خلال هذا الحوار الدائر بين الاب والابن، يرسل رسائل إلى قرائه تقودهم نحو سبيل يخلصهم من ثقل التراب الذي يقيدهم ويحرمهم من الحب والسعادة. يحضر هنا البعد الفيزيائي للكائن البشري حيث يشكل حاجزا أمامه يحجب عنه الطهر والصفاء والنقاء.
ب-عنوان الرواية
لعل أول ما يشد الانتباه في أي متن روائي كان، هو العنوان لما يحمله هذا العنصر من دلالات تمكننا من سبر أغوار المتن الداخلية، ولما يمتلكه بوصفه بنية لا تنفصل عن خصوصية العمل الأدبي من قدرة على جذب القارئ وشده. فهو نواة الحكاية ومحورها الأساسي:” فالعناوين لا تحمل نفس الدلالة فمنها من يأتي مباشرا يحيل على محتوى البعد التاريخي والسياسي والاجتماعي…أما غير المباشر فتركيبه مجازي استعاري بحكم الشاعرية التي يتسم بها العنوان”[12].
فالعنوان عنصر من أهم العناصر المؤثثة للنص الروائي، وهو يحل محل النص من حيث قوته وسلطته التي يفرضها على القارئ. هذا إلى جانب وظيفته المتمثلة في الكشف عن طبيعة النص وفك مغاليقه. حيث يسهم في توضيح دلالات النص، ومن خلال العنوان يمكننا استخلاص طبيعة كل إبداع أو عمل.
وقد سعى الدارسون في الغرب إلى الاهتمام بالعنوان، حدا جعلهم يفردون له علما يحظى باستقلالية تامة، وهو علم العنوان”Titrologie” والذي أسهم في تأسيسه ورسم حدوده كل من: جيرار جنيت G.Genette وهنري متران H.Metterand ولوسيان كولدمان L.Goldman وشارل ﮔريفل CH.Grivel وروجر روفر Roger Rofer وليوهويك Leo Hoek.
وإذا نظرنا إلى معظم الدّراسات التي اشتغلت على مقاربة العنوان سندرك بشـكل واضح الأهمية الكبيرة التي يحظى بها بوصفه ” نصا مختزلا ومكثفا ومختصرا “[13] له علاقة مباشرة بالنص الذي وسم به. ويعرفه ليوهـوك بأنه ” مجـموع العلامات اللســانية (كلـمـات مفردة، جمل، نص) التي يمكن أن تدرج على رأس نصه لتحدده وتدل على محتواه العام وتعرف الجمهور بقراءته”[14] فالعنوان يشكل مفتاح النص ومدخله الأساس قبل أي عنصر آخر من عناصر بنائه.
تتخذ العناوين بنى تركيبية مختلفة غالبا ما تنحو نحو هذه الصيغة: مبتدأ + خبر وقد يأتي المبتدأ محذوفا والخبر جملة فعلية أو شبه جملة. والعمل الذي بين أيدينا يتشكل فيه عنوان الرواية على المستوى التركيبي من جملة اسمية تتكون من:
- مبتدأ محذوف تقديره هذه + خبر + جار ومجرور+ اسم معطوف
” دروس في الحب والسعادة ” جملة اسمية تحمل من الدلالات ما يدفعنا إلى التوقف عند كلمة “دروس”. فاللفظة توحي لنا بوجود شخصية متمرسة في المجال، أو على الأقل لديها خبرة وتجربة في الحياة ما يجعلها قادرة على تقديم هذه الدروس. فهل هي شخصية حكيم أم شخصية معلم أم مجرد شخصية أب يوجه نصائح وتوجيهات في شكل دروس لابنه. وهما شخصيتنا محوريتان في الرواية كما سنرى في مبحث لاحق.
انطلاقا من الوصف الخارجي، يبدو جليا أن هناك انسجاما بين شقي العنوان، لأن الدروس قد نتلقاها في الحب والسعادة، لما لا؟ فلا غرابة إذن في دلالة العنوان. لكن السؤال الذي يطرح، هل عبر هذا العنوان بالفعل عن مضمون الرواية؟ وانسجم مع مضمون العمل الروائي؟ الجواب نجده متضمنا في كل ليلة من ليالي الحكي التي تسردها وترويها الرواية على لسان الأب (الشخصية المحورية).
ج-شخوص الرواية:
تلعب الشخصية دورا أساسيا في بناء النص الروائي، فهي تشكل المحور الذي تدور حوله الأفكار ومنبع المعاني والمجال الذي تدور فيه الأحداث، وبدون هذا العنصر الروائي يسقط هذا الجنس الأدبي في مغبة الدعاية المباشرة والوصف التقريري وهذا ما أكده آرنولد بقوله:” إن أساس الرواية الجيدة هو خلق الشخصيات ولا شيء سوى ذلك”[15].
وقد أكد عبد الملك مرتاض على ذلك قائلا: ” تتعدد الشخصية الروائية بتعدد الأهواء والمذاهب والأيديولوجيات والثقافات والحضارات والهواجس والطبائع البشرية التي ليس لتنوعها ولا لاختلافها من حدود”[16]
وتشكل الشخصية الروائية علامة لغوية تلتحم بباقي العلامات اللغوية لتنتج تركيبا رصينا ومحكما. وترتبط الشخصية بفضاء زماني ومكاني محدد، كما تذعن لسياق يسهم في إبرازها وظهورها.
تنتمي الرواية إلى جنس الأدب الرمزي لهذا فهي لا تقدم شخصيات تقليدية حقيقية بقدر ما تقدم نماذج إنسانية تتميز بالذهن المتوقد والمعاناة، إذ هي في صراع دائم مع نفسها ومع العالم الخارجي، والكاتب يجسد هذا الصراع من خلال ما يحكيه البطل عن عالمه ومن خلال الأوصاف التي يحيلها إليه، أما الشخصيات الأخرى فهي عوامل مساعدة على إبرازه وتألقه.
تعد شخصية ” الأب” الشخصية المركزية في هذه الرواية، إنه البطل الذي يتبلور السرد حوله من خلال تبلور الأحداث؛ بحيث نجد أن الكاتب يرصد كل الحوارات التي لها علاقة بالبطل. وتظل السمة الغالبة على شخصيات الرواية أو بالأحرى الغالبة على خطابها، هي أنها تتحدث بلسانها، فخطابها تلفظي. أما على مستوى حركية الشخصيات فنسجل نوعا من الجمود والانحسار في مكان محدد لا يتغير مع مضي الليالي التي عنون بها الكاتب محاور روايته. فلا تخرج الشخصيات عن الإطار الذي حدد لها مسبقا(البيت)، إلا عبر العوالم التي يستدعيها الكاتب في متنه، وهي عوالم تنفلت من عنصري الزمان والمكان الفيزيائيين.
د– لغة الرواية:
يعتبر المنظر السويسري فرديناند دي سوسير (1857-1913) مؤسسا لعلم اللغة الحديث، منذ أن وضع الحدود بين اللسان واللغة والكلام. ثم جاء دارسون وباحثون من بعده وطوروا هذا العلم ليصبح مجموعة من العلوم والنظريات. وقد منحت هذه الأبحاث أهمية كبيرة لدور اللغة في مجال المنطوق والمكتوب، وفي مجال التنظير الأدبي. ولقد كان لتطور الرواية الحديثة في الغرب الدور الفاعل في تطور دراسة المستويات اللغوية في الرواية الحديثة.
وتعد اللغة عاملا هاما في بناء الرواية. فهي الوعاء الذي يحمل جميع العناصر الروائية كالمكان والزمان والشخصيات والسرد والحوار والوصف. والحامل لأفكار الروائي ومضامين كتابته، وهي أشبه بالريشة التي يستعملها الرسام، وبالنوتة التي يستعملها الموسيقي. كما تمثل في نظر باختين ” التنوع الاجتماعي للغات”[17]. وبما أن الرواية جنس أدبي مرتبط بالواقع، فإنها توظف مختلف الأشكال اللغوية.
وتنتمي الرواية موضوع الدراسة إلى صنف “الرواية الرمزية” التي تتطلب لغة خاصة (أو تعاملا خاص مع اللغة) تكمن في التعبير عن الأجواء النفسية المعقدة، وتعتمد على الإيحاء، فهي أقرب إلى الشعر المنثور لما تحمله من شحنة إيحائية للتعبير عن الحالات النفسية المعقدة. كما يظل الرمز أقدر على التعبير والبوح بالمشاعر المختلجة بالدواخل، وترجمة أسرار النفس وعدم فضح مكنوناتها بشكل مباشر وصريخ، وهنا يحضر البعد الجمالي لهذا اللون من الكتابة. فاللغة العادية تعجز عن التعبير مثلما يفعل الرمز، الذي يستطيع نقل مشاعر الذات المرسلة، بشكل تدريجي لا يُذهب إبداعية العمل ولا جماليته. من هنا فقد استعمل الكاتب الماء بوصفه يرمز إلى عالم الصفاء والنقاء والبراءة الذي تنتمي إليه شخصية الابن، في حين استعمل رمزية التراب للتعبير عن الخسة والقذارة والانحطاط الذي يتسم به العالم الذي ينتمي إليه الأب (العالم السفلي).
ينزع الكاتب إلى الاستلهام من المعين الرمزي والأسطوري لإثراء تجربته السردية. من هنا استدعى الأسطورة اليونانية الشهيرة، المتعلقة بزهرة النرجس، من خلال تكرار هذا الرمز في مواقع كثيرة من الرواية، يقول الكاتب:
-” للنرجس حكاية طويلة، طويلة جدا. أما حكاية تاريخ النرجس فهي أطول. كيف أقول لك..؟ النرجس كائن يلتقط أنفاسه ولا ينبعث منه شيء.النرجس ماء.. ومرآة… وتيه.. وعشق لا ينكسر. النرجس عبادة من الداخل. وتاريخ النرجس غطيط الكلمة وتجمد النطفة في رحم الأيام.. “[18].
والكثير من الناس يسمعون بزهرة النرجس فيعجبون بشكلها أيما إعجاب، دونما معرفة بسبب وجودها ولا استكناه شكلها المائل ونظرتها الحزينة، وهي صورة طبق الأصل عن هذه الأسطورة التي تحكي قصة شاب يوناني يدعى “نركسوس” الذي كان فائق الجمال وكان هو مدركا لذلك الجمال الذي حباه الله به، فكان شديد التباهي بنفسه، يصد كل من يعجب به، لكن مع مرور الأيام خرج “نركسوس”، الابن المدلل لنهر “كفيسوس” وزوجته “ليروبي” (حورية النهر)، في رحلة صيد مع رفاقه يطارد فريسة، وفجأة شعر بالعطش، فجلس على حافة غدير، دون أن يعلم أن هناك عين ترقب حركاته وسكناته عن بعد، فقد كانت هناك فتاة على حافة الغدير تدعى “إكو” (إحدى الفتيات المعجبات به)، والتي كانت تحبه حبا جما رغم أنها تقل عنه جمالا، وهامت بحبه حتى سقمت ومرضت. وكابدت وصبرت حتى أضناها هذا الحب وجعلها تذبل شيئا فشيئا حتى فارقت الحياة. غير أن الآلهة (بزعم الأسطورة) لم تترك نركسيوس دون عقاب، لذلك كانت نتيجة هذا الحب الذاتي أن أصيب الفتى بالجنون وفقد عقله، من فرط تردده على البركة المائية، حتى افتتن بنفسه وعشقها. ومن فرط ذلك العشق قفز في الماء ليمسك صورته ولكن مصيره كان الغرق فمات. فظهرت مكانه زهرة سميت باسمه “نرجس”. فصار على إثر هذه الأسطورة، كل من يفتتن بجسده أو نفسه، أو مولع بحب الذات أو عبادة ذاته، أو إصابته بالأنانية، يسمى شخصا نرجسيا، وينعت في عرف مدرسة التحليل النفسي، بـــ”شخصية نرجسية”. وقد تم استدعاء هذا المتن الأسطوري في الرواية، بغرض تحذير الابن من هذا النوع من الشخصيات التي سيصادفها كثيرا في عالم التراب. وبشكل عام فالشخصية النرجسية هي شخصية مرضية يصعب التعامل معها بشكل عادي وطبيعي، فهي شخصية تتسم بالأنانية والغرور المفرطين، كما تتسم بالحسد والغيرة، ولديها اعتقاد بأنها شخصية متميزة ولا ينبغي أن تتعامل إلا مع من هم مثلها. وهي شخصية قد تودي بصاحبها إلى فقدان العقل أو الموت بشكل مفاجئ.
ومادامت العلة التي من أجلها وُجدت اللغة هي أداءَ الفهم المتبادل بين المتخاطبين بها، فإن هذه الغاية تلزمها أن تتموضع في جميع مسالكها لتحقيق تكامل الدلالة، وقد أسهم دخول مستجدات على عالم الإنسان في البحث عن كيفيات في اللغة تُعِينه على التعبير عن هذه الأشياء بصورة كاملة وواضحة، لهذا كانت الحاجة ملحة إلى الزيادة في أصول مفردات اللغة، فسعى الإنسان إلى وضع وسائل لذلك، فكان الاشتقاق، والتركيب، والترادف، والمشترك وغيرها. من هنا اتسمت لغة الرواية بكونها لغة اشتقاقية بامتياز، وقد تكرر هذا الاشتقاق في عدد من صفحات الرواية. حيث نجد الكاتب أورد كلمات كثيرة من قبيل:
-” لم أقل شيئا، كنت أكمكم فقط.
– وهل الكمكمة هي أن تقول كلاما لا يفهم؟
– ربما يكون كذلك، كالجمجمة والقمقمة العربية. ولكن الأمر هنا غير ذلك، لم أجد من أكلمه فكلمت نفسي، أو كمكمتها كماما، أقصد كلاما، لا يُعير للمعنى اهتماما.” [19]
ز- أسلوب الرواية:
لا شك أن الحوار ركن أساسي تتشكل عن طريقه ملامح الشخصيّة، وتكتسب المواقف قوّة الإقناع والتأثير. ومن إحدى الإشكاليّات أو التحدّيات التي تواجه الروائيّ، كيفيّة التعامل مع اللغة، وكيفية إجراء حوار بين الشخصيات، وهل يعتمد اللهجات وحدها أم الفصحى أم يزاوج بينهما لتكون هناك لغة وسطى. يقلص من خلالها الفجوة بين الشخصيّة وعالمها الروائيّ، والقارئ وعالمه الواقعيّ. وهناك من الروائيّين من اعتمد الحوار بشكلٍ مطلق لبناء روايته. وقد يعتمد بعض الكتّاب على الحوار في بناء فصول بعينها، من دون أن يكون له الحيّز كله.
عمدت الرواية إلى أسلوب الحوار منذ الوهلة الأولى، وحتى النهاية في قالب سردي ماتع. وقد صاغ الكاتب لغة الحوار بالفصحى. وشكل أسلوب الحوار ركيزة استند إليها العمل واستنطق عبرها الشخوص للكشف عن مكنوناتهم النفسية ورواية حكاياتهم الإنسانية. كما مثل هذا الأسلوب أيضا النافذة الرئيسة التي من خلالها حاول الكاتب إبراز شخوصه، ودفعهم إلى البوح عن خوالج الصدر في حوار دار بين الأب وابنه، حيث يلقن عبره دروسا في الحب والسعادة. حيث سعت الشخصية المحورية “الأب” إلى استعمال أسلوب حواري راقٍ يتكلم فيه عن كل المحاذير التي يرغب تجنيب ابنه إياها، في مقابل حثه على التمسك بجملة من القيم، وفتح عينيه على السلوكات التي تَسِمُّ عالم التراب.
إن التوفيق في كتابة حوار يكون مقنعا ومناسبا للشخصيات المتكلمة به، وإسهامه في رسم معالمها، وكذا توظيفه توظيفا تقنيا يخدم البناء السردي للمتن، لهو أمر صعب تحققه إلا لمن كانت له دربة وباع طويل في ميدان الكتابة والإبداع. وقد عبر الكاتب عن مهارة وحرفية عاليتين في كتابته للمتن الروائي بشكل عام وكتابة الحوار بشكل خاص؛ كما أبان عن حس فني أثبت من خلاله قدرته على تحقيق المواءمة بين الحوار وطبيعة الشخصيات، وخلوه من أي تكلف يذهب بجمالية العمل وإبداعيته. ولم يشكل الحوار غاية في حد ذاته بل وظفه الكاتب بحسبانه وسيلة لتبليغ العديد من الأفكار لتلبية حاجة الإبداع نفسه.
4- التناص في الرواية:
بعد انطلاق العديد من المحاولات لتعريف مفهوم النص وبعد تناول النقاد للنص بمفهومه الجديد کان لابد أن يظهر مفهوم جديد يتصل بالنص وهو “التناص”. وحينما نسمع مصطلح “تناص” يتبادر إلى ذهننا مباشرة مجموع التفاعلات التي تتحقق بوجود تداخل وتشارك بين نصين أو أكثر. وقد ظهر مصطلح التناص حديثا في تاريخ النقد الأدبي تحديدا في منتصف الستينات من هذا القرن في أبحاث متفرقة نشرتها الناقدة جوليا كرستيفا في مجلتي تيل-كيل وكرتيك في فرنسا“[20].
وتوحي كلمة ” التناص” بوجود تفاعل أو تشارك بين نصين باستفادة أحدهما من الأخر ولعل ذلك ما جعل النقد يركز على كشف حيثياته في الثقافة العربية قديما والثقافة الغربية حديثا، وهي التي أنتجت هذا المصطلح بصيغته الحالية “intertextualité” ولا يختلف هذا التعريف عما ذهبت إليه كريستيفا في قولها إن: ” النص ترحال للنصوص وتداخل نص في فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى”.[21] ومنذ أن قامت الناقدة جوليا كريستيفا بصياغة مصطلح التناص تحول هذا المصطلح إلى هاجس هيمن على كل الدراسات الأدبية والثقافية، التي تناولته بشكل عملي كل الاتجاهات النظرية.[22] وقد أشارت إلى أن صاحب الفضل في وجود الظاهرة هو ميخائيل باختين في مجموعة من كتبها[23]. والنص الأدبي أياً كان جنسه، هو أيضاً مجموعة من أقوال الآخرين ونصوصهم، قام النص الجديد بهضمها وتمثلها وتحويلها، فلا وجود لكلمة عذراء لا يسكنها صوت الآخرين، باستثناء كلمة آدم، كما يرى باختين. [24] كما يرى الكثيرُ من الدارسين حتمية التناص إزاء كل نص، واصفينه بأنه “قانون النصوص جميعا”[25] وأن “كل نص هو تناص”[26] ويعني أيضا النص المتعدد الذي “يتوالد في الآن عينه من نصوص عديدة سابقة عليه” [27] فالتناص من وجهة نظر جوليا كريستيفا هو “التقاطع داخل نص لتعبير مأخوذ من نصوص أخرى” [28] وقد ظهر هذا المفهوم عند الدارسين بمسميات مختلفة فنجد باختين يعرفه بمصطلح”الحوارية”، في حين يركن عماد عبد اللطيف إلى مصطلح “التظفير الخطابي” وهي كلها مسميات لمفهوم واحد هو “التناص”.
تنفتح الرواية على نصوص وخطابات متعددة تنتمي إلى عوالم مختلفة تتداخل وتتشابك فيما بينها مشكلة بناء سرديا جديدا مستحدَثا. فالنص لا يتأتى له أن يؤسس كيانه إن لم يستدعِ خطابات مغايرة وأنماط متنوعة من الكتابات الأخرى (الدينية والأسطورية والتاريخية والتراثية). وهذا التعدد والتنوع والامتزاج والتداخل هو الذي يمنح للعمل البعد الإبداعي والجمالي، ويخرج الرواية عن نهج الأحادية في الخطاب، ونمط الكتابة المنفردة. وسنقدم بعض النماذج التطبيقية من خلال رواية “دروس الحب والسعادة” حتى نرى إلى أي حد كانت النصوص الأخرى حاضرة بقوة في جسد الرواية.
التناص الديني:
- القرآن الكريم:
يستلهم الكاتب طائفة من النصوص التي تنتمي إلى الحقل الديني والتي تحيل على آي القرآن الكريم. غير أنه يصيغها في نسيج خطابه الروائي، دون استحضار للآية كاملة، بل يقتطع منها جزءا، تارة محافظا عليها في صيغتها الأصلية في مقطع وتارة متصرفا فيها في مقطع آخر. ومثال ذلك قوله:
- ” هكذا نحن/أنتم بني الإنسان، خلقكم الله من ذكر وأنثى وجعلكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، وجعل أكرمكم عنده أتقاكم” [29]
تتضمن العبارة تناصا مع الآية رقم 13 من سورة الحجرات والتي يقول فيها الحق عز وجل “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”. أحدث الكاتب تكييفات بالحذف على الآية الأصلية كما هي في مقطع ” خلقكم الله من ذكر وأنثى وجعلكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” حيث استعمل الفعل “خلقكم” عوضا عن الفعل ” خلقناكم ” ليقوم بنوع من التحوير للمقطع الموالي من الآية في قوله ” وجعل أكرمكم عنده أتقاكم”” عوضا عن الآية الأصلية “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” ، مغيرا في المقطع الأول والأخير وتاركا المقطع الأوسط كما هو، حيث أسقط جملة النداء التي تصدرت الآية ” يا أيها الناس إنا خلقناكم” ليعوضها بالفعل “خلقكم” مع حذف لحرف التوكيد “إنّا” مما أدى إلى تحويل الجملة من جملة نداء إلى جملة فعلية. من هنا يمارس كل تناص عملية استدعاء واستبعاد تتماشى مع سياق حديث الراوي عن قصة هابيل وقابيل التي تتكلم عن كيد الإنسان لأخيه.
في النموذج الثاني يستحضر الكاتب آيتين من سورتين مختلفتين من القرآن الكريم في سياق كلامه عن سلوك الفرد الذي يسمه الحقد والحسد وعدم حب الخير للغير. فيقول:
- ” بينما يغلي صدره نارا من شر ما حسد ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر ما كذب ومن شر ما كسب، تبت يداه كما تبت يدا أبي لهب”. [30]
يتضمن النموذج تناصا مع سورة “الفلق” وسورة “المسد”، وينقل الكاتب مسارات توظيف هذا النص القرآني في سياق وصفه الشخص “الديماغوجي” وجوابه عن سؤال الابن حول سلوكيات وتصرفات هذا النوع من الشخصيات. حيث ربطت الروايات بين سمات الديماغوجي والسمات التي ساقتها سورة الفلق للحاسد، وكذا السمات التي ساقتها سورة “المسد”، لأبي لهب، فنجدها شخصية انتهازية وصولية، تتصف بالحقد والكذب والشر. وهذا سبب تناص الرواية مع آي القرآن، وهو تناص بالحذف حيث اكتُفيَ فيه بذكر آية من سورة الفلق وهي الآية الثالثة، والآية الأولى من سورة “المسد”. وقد اختارت الرواية هذا التناص لقوة حجيته بحسبانه نصا قرآنيا لا يقبل التكذيب أو المراجعة، ولإقناع المتلقي بفظاعة شخصية الحاسد وحثه على رفضها وعدم تقبلها، ولقوة الوصف الذي ساقه القرآن الكريم لهذا النوع من السلوكيات والأخلاقيات المنبوذة طبعا من لدن الخالق والناس على حد سواء.
أما النموذج الثالث ففيه تناص مع سورة الناس التي لم يخضعها الكاتب لأي حذف أو تكييف به، بل احتفظ بها كما هي. يقول الراوي:
- “ويكبر بالقلب في مراتع البهاء، وتعاويذ الشعر في جفون الحسان، في أناشيد الصبايا يخبلن موسيقى اللغات فوق مرايا الماء، في تسبيح المتعبدين المتعوذين:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمان الرحيم، قٌلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الوَسْواسِ اَلْخُنَّاسِ اَلذِّي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ اَلنَّاسِ، مِنَ اَلْجِنَّةِ وَاَلنَّاسِ” [31]
وقد اختار الكاتب هذا التناص مع سورة “الناس”، في سياق حديث عن صنف من الناس يتمتع بقلب بهي مقبل على الحياة، قلب مسبح، ومتعبد متعوذ. وهناك سبب آخر وراء هذا الاختيار وهو رغبة الأب في تعريف ابنه بأهمية ودور هذه السورة في حفظ الإنسان وتحصينه من وسوسة الشيطان، ومن شر الناس. وهذا لعمري ممن يتنامى تاريخه وتكبر حياته وتنمو كما جاء على لسان الابن في الرواية[32].
التناص الأدبي:
- الشعر
من أنماط التناص الأدبي في الرواية استدعاء الكاتب لبعض النصوص الشعرية الحديثة المحايثة لنصه ليحاورها ويعزز بها كلامه ودروسه التي يلقنها الأب للابن- الشخصيتين المحوريتين-. ففي الرواية تناص صريح بيت شعري لجبران خليل جبران من قصيدته “المواكب”، وتناص آخر مع بيت شعري مشهور لأحمد شوقي[33]، يقول الكاتب:
– ” أما خطو بناء الإنسان، فصناعة بذور الجمال في نفس كل فرد فرد، ليمتلئ نهر الخير جماعات جماعات، فيفيض الحب أمما أمما تؤتي معروفا وتنهى منكرا، وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا، والخير في الناس إذا جبروا، والشر فيهم مجبول وإن قبروا.”[34]
إن اهتمام الشخصية الرئيسية في الرواية “الأب” بالبناء الأخلاقي للابن وحرصه على حُسن تربيته، والاعتناء بتوجيهه وتثقيفه وتوعيته، وتلقينه المبادئ والقيم والأخلاق عبر الدروس التي يقدمها له على مدى صفحات الرواية، هو الذي دفع الكاتب إلى تضمين عبارته تناصا مع بيت حافظ إبراهيم، دون إدخال أي تعديل أو حذف، بخلاف كسره النظام العمودي للبيت، وسوقه في شكل نثر عوض الاحتفاظ في شكله الشعري. كما ضمن عبارته أيضا بيتا لجبران خليل جبران من قصيدته “المواكب” التي تعد من عيون الأدب العربي الحديث بمعانيها ومفرداتها والتي تدعو إلى أسمى درجة من درجات الحب والخير، وقد ساق الكاتب البيت بغرض التأكيد على أن النفس البشرية ستبقى دائماً في هذا التنازع بين الخير والشر، بين الفجور والتقوى. فلا يوجد في الكون إنسان خيرٌّ بشكل مطلق، ولا إنسان يكون شريرا بشكل مطلق، إلا الأنبياء فهم المعصومون عليهم السلام.
وقد تضمنت الرواية بيتين شعريين ينتميان إلى مدرستين شعريتين مختلفتين، فحافظ إبراهيم يحسب على مدرسة البعث والإحياء وهو اسم يطلق على الحركة الشعرية التي ظهرت في مصر في أوائل العصر الحديث، والتزم فيها الشعراء بنظم الشعر العربي على النهج الذي كان عليه في عصور ازدهاره، منذ العصر الجاهلي حتى العصر العباسي. في حين ينتمي جبران خليل جبران إلى مدرسة شعراء المهجر التي دعتْ في أوّل الأمر إلى الثورة علي أوضاع الوطن المختلفة، والبحث عن الحقّ والصّدق، والخير والجمال، والحرّية والعدل في بلاد المهجر، ولكنهم بعد العجز عن تحقيق هذه المعاني في عالم الواقع، بَنَوا المدينة الفاضلة في خيالهم.
وتمثلت “قدرة الكاتب في توظيف الخطاب الشعري توظيفا فنيا متناغما مع نسيج بنائه اللغوي واستثمار ما فيه من طاقات إيحائية وإشارات غنية واضحة تعبّر عن تجربته وتصوراته”[35]. حيث وظف الموروث الشعري من خلال استحضار بيت شعري للمتنبي، من قصيدة ” لكل امرئ من دهره ما تعودا”، من خلال قول الكاتب:
-” إذا أنت أكرمت الكريم ملكته==== وإن أنت أكرمت تمردا”[36]
فالمتنبي تحدث في هذا البيت عن نوعين من الناس، نوع يقابل الاحسان بالإحسان، ونوع آخر جاحد يقابل المعروف بالغدر والخيانة والاساءة، لهذا ليس من الصحيح التعامل مع الناس بمختلف نوعياتهم بالتعامل الانساني الراقي، فهناك نوعية من البشر يحسبون الكرم في التعامل ضعفاً، ويتوقعون ان التواضع اقلال من القيمة. وقد أورد الكاتب البيت، وضمن عبارته هذا التناص في السياق نفسه، حتى يحذر ابنه من الصنف الأخير الذي سيصادفه كثيرا في عالم التراب. ليسوق بعد ذلك بيتا آخر لا يتوافق مع المعنى السابق فيقول:
- “اعطني الناي وغن=== فالغنا سر الوجود”[37]
وهو بيت مقتطف من قصيدة “المواكب” لجبران خليل جبران، وهي قصيدة رمزية طويلة تتكون من مائتين وثلاثة أبيات، تنقسم إلى وحدات تتناول مواضيع مختلفة، والمواكب هي مواكب الناس في حياتهم الشائكة وطباعهم الزائفة ومعتقداتهم الخاطئة. ومن بين هذه المواضيع نجد: الدين، والعدل، والعلم، والسعادة، والحب، ووصف الطبيعة المثالية للبنان.
ويتضمن البيت توجها مختلفا عن المعنى في البيت السابق الذي حذر فيه الأب الابن من نوعية محددة من البشر، لكن يتوافق مع ما في بيت جبران الذي يحث فيه على استقبال الحياة بالغناء والفرح والسعادة وترك كل ما ينغص علينا صفاءها وهدوءها جانبا.
وتجدر الإشارة إلى أن المتن الروائي غني جدا بأنواع أخرى من التناص، منها التناص الأسطوري والتناص القصصي، الذي ينفتح فيه الكاتب على عوالم تنتمي إلى الزمن البعيد. والمساحة البحثية لا تسمح بطرق كل هذه الأنواع، لهذا فالفرصة سانحة أمام باحثين آخرين لدراسة هذه النماذج والوقوف عليها في المتن المدروس.
خاتمة:
سعت هذه الدراسة إلى تقديم إطار نظري للتناص، وتقريب المفهوم من المتلقي عبر تحليل بعض النماذج التي تضمنها المتن الروائي. وقد توسلت الرواية بهذه النصوص الدينية والنصوص الشعرية بغرض تحقيق بناء فني من جهة، وبناء معرفي دلالي من جهة أخرى. فكان امتزاج هذه النصوص بالعمل الروائي أمرا طبيعيا محيلا على الأطر الثقافية التي شكلت شخصية الكاتب الإبداعية، والمصادر التي نهل منها مادته. كما يسعى الكاتب من خلال هذا التناص الديني والشعري إلى إنتاج الدلالة التي يهدف إليها، والتي يقصر النص الحاضر عن الإيفاء بها لوحدها دون الاستئناس بهذا النوع من النصوص. فالنص الديني والشعري يلهم الذاكرة ويحمل القارئ على المراوحة بين النصوص. من هنا شكلت المرجعية الفكرية والدينية للكاتب رافدا أساسيا لتبني هذا النوع تحديدا من التناص. ولا شك إن توظيف الكاتب لمثل هذه النصوص الدينية والأدبية في روايته سيدعم النص بجوانب مختلفة قوية، وسيضفي على المتخيّل السردي طابعا واقعيا، هذا بالإضافة إلى سعيه لترسيخ الأبعاد الجمالية في الرواية. مما يجعل للنص نكهة وجمالية لدى المتلقي مادام سيربطه بجذور معينة سيستمتع بها خلال عملية تلمسه لها. فلا مناص إذن للمبدع من التعالق، تعالق النصوص فيما بينها، وهو تعالق قد يتحقق بين الماضي والحاضر كما قد يتحقق بين نصوص تنتمي إلى الحقبة الزمنية نفسها.
فالرواية تمتح من عدة نصوص تتشابك وتتداخل لتخلق نسيجا روائيا، تنتقل عبره الشخوص من عالم إلى عالم، ويسعى من خلاله الكاتب إلى رسم صورة الأب / الشخصية المحورية الذي يلقن ابنه دروسا في الحب والسعادة، محاولا نقلها وصياغتها في قالب سردي لا يشعر معه القارئ بالضجر وهو يتصفح الرواية.
قائمة المصادر والمراجع:
- المصادر:
- حجو محمد، 2015، دروس في الحب والسعادة، ط.1، دار أبي حيان التوحيدي، الرباط، المغرب.
- المراجع:
– أنجينو مارك، في أصول الخطاب النقدي الجديد، الفصل الخامس بمفهوم التناص في الخطاب النقدي الجديد، ترجمة أحمد المديني، ط1، 1987، دار الشؤون الثقافية، بغداد.
– باختين ميخائيل، 1987، الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، ط.2، دار الأمان، الرباط.
– باختين ميخائيل، 1982، الملحمة والرواية، ترجمة جمال شحيد، د.ط، دار الإنماء العربي.
– بارت رولان، “نظرية النص” ترجمة منجي الشملي وآخرون، حوليات الجامعة التونسية، عدد 27، سنة 1981.
– تودوروف تزفيتان، 1996، المبدأ الحواري، ترجمة وتحقيق فخري صالح، د.ط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
– جراهام آلان، 2011، نظرية التناص، ترجمة باسل المسالمة، ط.1، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، سوريا.
– رائز أحمد، د. ت، الرواية بين النظرية والتطبيق أو مغامرة نبيل سليمان في المسلة، ط.1، دار الحوار للنشر والتوزيع.
- عثمان عبد الفتاح، دون تاريخ، بناء الرواية، ط. 1، مكتبة الشباب.
- كريسيتفا جوليا، 1991، علم النص، ترجمة فريد الزراهي، د.ط، توبقال للنشر.
- مرتاض عبد الملك ،1998، في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد، د.ط، عالم المعرفة، الكويت.
المقالات:
– بوطيب عبد العالي ،2010، الرواية المغربية من التأسيس إلى التجريب” كتاب صادر ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، سلسة دراسات وأبحاث، العدد 29.
– بودربالة الطيب، 2002، قراءة في كتاب سيمياء العنوان للدكتور بسام قطوس، محاضرات الملتقى الوطني الثاني السيمياء، والنص الأدبي، منشورات جامعة بسكرة، 15، 16، أبريل.
– خمري حسين، 1987، إنتاج معرفة بالنص، مقال منشور في مجلة دراسات عربية، العددين 11-12، أيلول-تشرين أول، بيروت.
– رمضان إبراهيم، 2011، التناص في الثقافة العربية المعاصرة، مقال منشور بمجلة كلية التربية، ع. 11، ج. 1، بورسعيد، مصر.
المراجع الأجنبية:
-Léo H.ock, La marque du titre, dispositifs Sémiotiques d’une moutors publishers, Paris, 1981 .
[1] – محمد حجو، أستاذ بجامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، دكتوراه في السيميائيات من جامعة تولوز، دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة القاضي عياض، مراكش، له إصدارات منها: رواية وهلم شرا 1994، وكتاب “الإنسان وانسجام الكون 2012، والرواية التي بين أيدينا 2016.
[2] – أحمد رائز، الرواية بين النظرية والتطبيق أو مغامرة نبيل سليمان في المسلة”، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، دون تاريخ، ص 13.
[3] – عبد الفتاح عثمان: بناء الرواية، مكتبة الشباب، ط. 1، دون تاريخ، ص 13.
[4] – المرجع نفسه، ص 12.
[5] – المرجع نفسه، ص 16-17.
[6] – ميخائيل باختين، الرواية والملحمة، ترجمة جمال شحيد، ص 29.
[7] – أحمد المديني، في الأدب المغربي المعاصر، سلسلة دراسات تحليلية، دار النشر المغربية، 1985، ص40 .
[8] – محمد عزام، وعى العالم الروائي: دراسات في القصة المغربية، 1990، اتحاد الكّتاب العرب، ص22.
[9] – محمد عزام، ص222.
[10] – مقال أحمد المديني بعنوان: الرواية المغربية وضع الهوية في العلاقة مع “الآخر” منشور على موقع:
[11]– مقدمة كتاب” الرواية المغربية من التأسيس إلى التجريب” للكاتب عبد العالي بوطيب الصادر عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس“.
[12] – نور الدين صدوق، ” البداية في النص الروائي”، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1994، ص 69.
[13] – الطيب بودربالة: قراءة في كتاب سيمياء العنوان للدكتور بسام قطوس، محاضرات الملتقى الوطني الثاني السيمياء، والنص الأدبي، منشورات جامعة بسكرة، 15، 16، أفريل ،2002، ص52.
[14] – Léo H.ock , la marque du titre, dispositifs Sémiotiques d’une moutors publishers .Paris 1981, p. 17
[15] – عبد الفتاح عثمان، بناء الرواية، ص 106.
[16] – عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، عالم المعرفة، الكويت، 1998، ص: 73
[17] – ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة. ص51.
[18] – الرواية، ص 21.
[19] – الرواية، ص 60.
[20] – حسين خمري، إنتاج معرفة بالنص، مقال، ص102.
[21] – علم النص – جوليا كريسيتفا: ترجمة فريد النراهي، توبقال للنشر، ص 21
[22] – جراهام آلان، نظرية التناص، ص 7 (مقدمة المترجم) بتصرف.
[23] – إبراهيم رمضان، التناص في الثقافة العربية المعاصرة، مقال، ص 144.
[24] – تودوروف، المبدأ الحواري، ص 82
[25] – شجاع العاني، الليث والخراف المهضومة دراسة في بلاغة التناص الأدبي، مقال، ص، ص 84-105.
[26] – بارت، نظرية النص، ص 80.
[27] – مارك أنجينو، في أصول الخطاب النقدي الجديد، الفصل الخامس بمفهوم التناص في الخطاب النقدي الجديد، ت.أحمد المديني، ص99.
[28] – ـ إنتاج معرفة بالنص، ص102.
[29] – الرواية، ص 39.
[30] – الرواية، ص 53.
[31] – الرواية، ص 57.
[32] – الرواية، ص 57.
[33] – البيت لأمير الشعراء أحمد شوقي، ورد في ديوانه “الشوقيات” ج1. أما بخصوص القصيدة فلم أعثر لها على عنوان.
[34] – الرواية، ص 61.
[35] – التناص في رواية أسرار صاحب الستر لإبراهيم درغوثي الثلاثاء ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٠بقلم: أمين عثمان باحث تونسي، منشور على موقع ديوان العرب: http://diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=23002
[36] – الرواية، ص 57.
[37] – المرجع نفسه، ص 57.