اعتناء بني مرين ببناء المارستانات وتشييدها| الرعاية الصحية
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
اعتناء بني مرين ببناء المارستانات وتشييدها| الرعاية الصحية
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
يمكنكم تحميل كتاب العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م) من الرابط التالي
الفصل الثالث: الرعاية الصحية
من المبادئ التي قامت عليها حضارتنا، جمعها بين حاجة الجسم، والروح واعتبار العناية بالجسم ومطالبه ضرورة لتحقيق سعادة الإنسان وإشراق روحه، ومن الكلمات المأثورة عن واضع أسس هذه الحضارة رسول لله ﷺ: «إن لجسدك عليك حقا.» ومن الملاحظ في عبادة الإسلام تحقيقها أهم غرض من أغراض علم الطب وهو حفظ الصلاة والصيام والحج وما تتطلبه هذه العبادة من شروط وأركان وأعمال، كلها تحفظ للجسم صحته ونشاطه وقوته، وإذا أضفنا إلى ذلك مقاومة الإسلام للأمراض وانتشارها، وترغيبه في طلب العلاج المكافح لها، علمت أية أسس قوية قام عليها بناء حضارتنا في ميدان الطب، ومبلغ ما أفاده العالم من حضارتنا في إقامة المشافي والمعاهد الطبية، وتخريج الأطباء الذين لا تزال الإنسانية تفخر بأياديهم على العلم عامة والطب خاصة.
وليس من شك في أن علم الطب كان ولا يزال من العلوم المفيدة والقريبة من الناس، وسكان المغرب ظلوا وعلى مختلف العصور شأنهم شأن الأمم الأخرى يسعون إلى تطوير هذا العلم، ورعاية المختصين به، لاسيما أهل القرنين الخامس والسادس الهجريين الذين بلغوا في رقبة إلى مرتبة الازدهار. ويكفي أن نقول إن هذا العلم ظل بعيدا عن أذى أو محاربة السلاطين.
وللإشارة فقد تحدث بعض الباحثين على أن هذا الميدان لم يحقق نجاحا على مستوى الدراسة النظرية في العصر المريني، إلا أنه حقق المطلوب على صعيد الطب التقليدي، إضافة إلى دورهم في المستشفيات المنتشرة في قسم من المدن المغربية كما سيأتي لاحقا.
وعبرت الكتب التاريخية عن المستشفيات بكلمة البيمارستان وهي إحدى المنشآت والعمائر كالمســاجــد والمــدارس… التي كــان يشيــدها الســلاطيــن والخــلفــاء وأهــل الخــير والإحســان على العمــوم صدقــة وحسبــة وخدمــة إنســانية وتخليــدا لذكـراهم. ولم تقتصــر مهـنة هذه البيــمــارستــانـــات على مــداواة المرضى، بل كانت في نفس الوقت معاهد علمية ومدارس لتعليم الطب يتخرج منها المتطببون والجراحون.
والمصادر التي اهتمت بتاريخ بني مرين تعرضت إلى الحديث عن هذه المنشآت العمرانية التي أسست في هذا العصر لكنها في تعرضها هذا كانت وجيزة عابرة ثم كثيرا ما اختلفت في تسمية هذه المؤسسات التي كانت في نظر البعض مدارس طبية أو مستشفيات بمعناها الحديث أو مارستانات خاصة بالعلاج وإطعام المساكين والمعوزين، وهكذا وقع الخلط والالتباس في موضوع يكتسي صبغة مهمة بالنسبة لتاريخ الحضارة المغربية في عصر بني مرين ولاسيما الجانب الاجتماعي منها. مثال ذلك ما وقع في تسمية المارستان الذي بناه أبو عنان المريني بسلا، فقد ذكر الكانوني أنه كان مدرسة على ما جزم به الشيخ الوالد المقدس في تاريخ الاستقصا أو مارستانا على ما حققه تلميذه المحقق الفاضل السيد محمد بن علي في تاريخه الاتحاف ويتدخل الكانوني للتوفيق بين هذا الخلاف قائلا: «ويمكن الجمع بين كونه مدرسة ومارستانا بأنه كان أقساما على حسب المدارس الكبرى الطبية والعلمية، فقد كانت المارستانات الإسلامية جامعة بين مواضع المرضى ومواضع الأطباء، وغالبا ما كان هؤلاء الأطباء يشتغلون في جامعة بين مواضع المرضى ومواضع الأطباء، وغالبا ما كان هؤلاء الأطباء يشتغلون في بعض الأوقات بتحضير الأدوية واستخراجها من المواد الكيماوية ويعلمون التلاميذ صناعة ذلك علما وعملا، فكان القسم المعين للتعليم وإلقاء الدروس مدرسة ويسمى مارستانا باعتبار القسم المخصص للمرضى والمجانين ومن في معناهم وهذا شأن الكليات الآن في العواصم الأوروبية والمدن الكبرى، فلا تنافر بين تسميته مدرسة أو مارستانا بحسب هذا الاعتبار.»
والمارستانات كانت في غالب الأحيان مكانا معدا للحمق والمجانين وذوي العاهات العقلية والأمراض النفسية يحبسون فيها خاضعين لنظام طبي إلى أن يعالجوا بصفة نهائية، أما الدروس النظرية فقد كانت تعطى ببعض المدارس التي بناها بعض سلاطين بني مرين، وقد بقيت بعض آثار هذه المارستانات إلى اليوم شاهدة بما كان لبني مرين من عناية بهذا الجانب الاجتماعي.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نعرج الحديث عما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته، حينما خصص فصلا عن علم الطب وصناعة الدواء، يقول: «وهي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصح، فيحاول صاحبها حفظ الصحة وبرء المرض بالأدوية والأغذية الذي يخص كل عضو من أعضاء البدن، وأسباب تلك الأمراض التي تنشأ عنها، وما لكل مرض من الأدوية، مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية وقواها، وعلى المرض بالعلامات المؤذنة بنضجه وقبوله الدواء أولا في السجية والفضلات والنبض، محاذين لذلك قوة الطبيعة، فإنها المدبرة في حالتي الصحة والمرض، وإنما الطبيب محاذيها لذلك قوة الطبيعة، فإنها المدبرة في حالتي الصحة والمرض، وإنما الطبيب يحاذيها ويعينها بعض الشيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادة والفصل والسن، ويسمى العلم الجامع لهذا كله علم الطب.»
المبحث الأول: بناء المارستانات وتشييدها
منذ تقلد بني مرين زمام الأمور في بلاد المغرب الأقصى وهم يحرصون على بناء المارستانات (المستشفيات) لعلاج المرضى، فكان أول سلاطينهم يعقوب بن عبد الحق الذي بنى المارستانات للمرضى.
المطلب الأول: مارستانات مدينة فاس
- الفرع الأول: مارستان سيدي فرج
بعد بَسط المرينيين لدولتهم في المغرب الأقصى وتوحيده تحت حكمهم، شرع السلطان يعقوب بن عبد الحق في بناء مارستان في فاس للمرضى والمجانين، وخصص لها أوقافا، كما وفر لها كل ما يحتاجه المرضى من الأغذية والفواكه، وخصص لها أطباء لتقديم الخدمات الصحية للراقدين فيها، وكان هذا المكان قد اشتهر باسم سيدي فرج، وهو الواقع بقرب من سوق العطارين وسوق الحنا بفاس.
وقيل إن هذا المارستان كان يقيم به المرضى الذين بعقولهم مرض، وهم المجانين، ويسمى ذلك المكان سيدي فرج على أنه لم يدفن به أي شخص كان يسمى بهذا الاسم، وليس به قبر، وإنما بنى هذا المكان السلطان يعقوب بن عبد الحق ليضم مرضى المسلمين الذين لا ملجأ لهم أو مأوى يأوون إليه، وسمي باب الفرج لأن المرضى كانوا يجدون فيها ما يفرج كربهم، وقد حبست عليه الحبوس التي كانت تصرف غلتها عليه.
وقد وصف الدكتور دومازل المارستان فقال: «بناؤه قديم يرجع تأسيسه إلى عهد سلاطين بني مرين -يقصد هنا يعقوب بن عبد الحق- وهم في أوج عزهم وعظمتهم يعاونون على نشر العلوم وتجميل المدن.»
وجاء ذكر هذا المارستان عند الناصري صاحب الاستقصا وهو يتحدث عن أخبار السلطان يعقوب بن عبد الحق وسيرته فقال: «ولما استقام له الأمر بنى المارستانات للمرضى والمجانين ورتب لهم الأطباء لتفقد أحوالهم وأجرى على الكل المرتبات والنفقات من بيت المال وكذا فعل بالجذمى والعمي والفقراء رتب لهم مالا معلوما يقبضونه في كل شهر من جزية اليهود.»
وذكر مارستان فاس عند ابن أبي زرع صاحب الذخيرة، الذي هو من تأسيس السلطان يعقوب بن عبد الحق، وفي هذا الجانب يقول: «وهو الذي صنع المارستانات في بلاد المرتضى للغرباء والمجانين وأجرى عليهم النفقات وجميع ما يحتاجون إليه.»
ونولي وجوهنا قبل ما كتبه الحسن الوزان عن مارستان سيدي فرج، ويصفه لنا وصفا دقيقا أحوال المرضى وغرف المارستانات بشكل يوحي للقارئ شكل المارستان وكأنك بداخله. فيقول: «ولا يجد المريض المسكين فيه غير حجرته وطعامه ومن يخدمه إلى أن يموت أو يشفى من مرضه. وفي هذا البيمارستان حجرات مخصصة للحمقى، أي أولئك المجانين الذين يقذفون بالحجر أو يرتكبون أنواعا أخرى من الأذى، يقيدون فيها بالأغلال والسلاسل. وحواجز هذه الحجرات من جهة الممر وداخل البناية مسورة بعوارض خشبية متينة جدا. وإذا رأى المكلف بتقديم الطعام للحمقى هياج أحدهم انهال عليه بضربات متوالية من عصا يحملها معه دائما لهذا الغرض. وقد يقترب بعض الغرباء من هذه الحجــرات فينـــاديه الحمقى ويشتـــكون إليه استمـــرار حجزهم في السجــن رغم شفــائهم من حمقـهم، ومــا
يتعرضون إليه من كثرة سوء معاملة حراسهم كل يوم. وإذا صدق المارة كلام أحدهم واتكأ على جانب نافذة حجرته، مد الأحمق إليه يده وأمسك بتلابيبه ولطخ يده ولطخ بيده الأخرى وجهه بالغائط، لأن هؤلاء الحمقى، وإن كانت لهم ميضأة، يتغوطون غالبا وسط الحجرة، وعلى الحراس أن ينظفوا هذه الأقذار باستمرار. ولذلك فإنهم ينبهون الغرباء أن يأخذوا حذرهم ولا يقتربوا كثيرا من الحجرات. وأخيرا فإن البيمارستان يتوفر على كل ما يحتاج إليه من كتاب وممرضين وحراس وطباخين وغيرهم ممن يهتمون بالمرضى، ويتقاضى كل واحد من هؤلاء المستخدمين أجرا حسنا، ولقد عملت وأنا شاب كاتبا في هذا البيمارستان مدة عامين، حسبما هو معتاد عند صغار الطلبة.»
والغريب في علاج مرضى الجنون أنهم كانوا يعالجون بالموسيقى والغناء مع استعمال آلات الطرب المختلفة، وقد كان على أرباب الطرب أن يحضروا في كل أسبوع مرة أو مرتين لأن ذلك يفيد في انشراح الصدر وإنعاش الروح فتقوى ضربات القلب وتعود الأعضاء الجسمية إلى تأدية وظائفها، وهكذا كان اللجوء إلى الموسيقى والغناء من الوسائل النافعة لعلاج داء الحمق كما هو الشأن اليوم في مستشفياتنا العصرية.
غير أن لوتورنو نحا منحا آخر في حديثه عن مارستان سيدي فرج، فهو اعتبر هذا المارستان بمثابة سجن لهؤلاء المرضى ذكورا وإناثا والمصابون بأمراض عقلية خطيرة. فيقول في حديثه عن هذا المارستان: «ففي ذلك الزمان لم يكن المريض يذهب إلى المستشفى، كان يعنى بالمريض في البيت وكانت أسرته ترى معرة في أن يرسل أحد أفرادها إلى المستشفى بسبب مرضه. فكان يؤم المستشفى إذن المرضى الذين لم يكن لهم من يعنى بهم -وكان هؤلاء نادرين- أو المرضى الذين لم يكن بالإمكان الاحتفاظ بهم في البيت أولئك المصابون بأمراض عقلية خطرة. ويتضح حالا لما كانت فكرة السجن مرتبطة بفكرة المستشفى. ومستشفى فاس الذي كان يطلق عليه سيدي فرج، كان يتألف من غرف صغيرة تدور بعرصة. وكانت سلاسل الحديد تتدلى من أعلى السطح إلى كل من هذه الغرف، ويربط بها هؤلاء المرضى المساكين ليظلوا هادئين.»
- الفرع الثاني: مارستان أبي الجنود
هذا المارستان الذي يطلق عليه أبو الجنود هو من تأسيس أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني.
فالمؤرخون للدولة المرينية اقتصروا على ذكر اسم المارستان، دون الخوض في تفكيك منظومته ومعالمه وبوارقه، مما يجعلنا نفقد الشيء الكثير عن مضامين هذه المارستانات. ومارستان أبي الجنود من المارستانات التي غاب عنها الكثير من التوضيحات التي تهمه، وبقي الغموض يكتنفه إلا إشارة لاسمه وإلى من شيده، كما يغيب عنا تاريخ تأسيسه. وربما هذا راجع حسب نظرنا المتواضع أن هذا المارستان لم يبلغ الأهمية المطلوبة كباقي المارستانات الكبيرة، أو ربما لم يكن يؤدي مهمة كبيرة على غرار باقي المارستانات المعروفة.
- الفرع الثالث: تجديد المارستان بمدينة فاس
ذكر ابن مرزوق أن السلطان أبا الحسن جدد المارستان بمدينة فاس، وجعله الموضع المتخذ لمداواة المرضى ومعاناتهم. يقول: «جدد إمامنا رضي الله عنه رسم المارستان بمدينة فاس وغيرها. وهو عبارة عن الموضع المتخذ لمداواة المرضى ومعاناتهم.»
وكان هذا المارستان بالقرب من القيسارية بفاس.
- الفرع الرابع: المارستانات في نواحي فاس
كان هناك بعض المارستانات المنتشرة بنواحي فاس مخصصة للمصابين بداء الجذام وكان يشرف عليها نظار وعدول لتسيير الأموال والأملاك التي كانت توقف عليها من طرف الرؤساء وبعض العناصر الشعبية الموسرة وقد أشار بعض المؤرخين إلى أن هذه المارستانات كانت كثيرة بفاس وضواحيها.
وهذا ما بينه لوتورنو حينما أشار إلى هذا النوع من المارستانات المنتشرة خارج أسوار مدينة فاس، بقوله: «وكان مستشفى الجذام القائم خارج الأسوار، نوعا من السجن أيضا، إلا أنه كان أقل قسوة. وليس ثمة شيء مؤكد نعرفه عنه.»
كما أشار الحسن الوزان إلى مستشفيات واعتبرها بالكثيرة خصوصا التي بخارج المدينة أو ضواحيها فقال: «توجد بفاس مستشفيات ومدارس عديدة في الرونق والاتقان، وكل غريب دخل المدينة له أن يقيم بهذه المستشفيات مدة ثلاثة أيام، وتوجد خارج المدينة عدة مستشفيات لا تقل اتقانا عن التي بداخلها وكانت له قبل مداخيل وافرة.»
المطلب الثاني: مارستانات مدينة سلا
- الفرع الأول: مارستان أبي عنان بسلا
يعتبر مارستان مدينة سلا من أعظم المارستانات التي بناها بنو مرين، وكان الذي تولى بناءه السلطان أبا عنان المريني والذي ما زال يحمل اسمه إلى اليوم، ويوجد قريبا من باب حسين، ويتوفر على بنايات ضخمة يغلب على الظن أنها كانت بيوتا يحبس فيها المرضى ويعالجون، ويحكي بعض المؤرخين أن هذا المارستان كان قبل بنائه فندقا للزيت إلى أن تولاه أبو عنان بعناية فبناه ثم جلب له الأطباء المهرة ليعالجوا المرضى المقيمين فيه، كما عين موظفين ليشرفوا على تسييره، وأغدق عليهم أموالا كثيرة مقابل خدمتهم الإدارية والاجتماعية.
وبه كان سكنى العارف بالله أبي موسى الدكالي، ولا يزال بيته معروفا إلى الآن. فبنى أبو عنان به المارستان المذكور وعين له أطباء مهرة من الذين يعانون العلم قراءة وعلاجا. وكان مرتبا لهم الجرايات والصلاة على ما يعانون، فكان سوق الطب كسائر المعارف والعلوم رائجا بأقطار المغرب لاعتناء الملوك به. ولما تقهقر حال الدولة المرينية وضعف حال ملوكها، فهجر المارستان لذلك، ولا سيما لكونه بحارة اليهود، فلم تبق منه منفعة الطب ولا صلات الملوك وجراياتهم أشبه الفندق المعطل، وتطرق إليه الخراب لهجرانه، وأشرف بناؤه الرفيع على الخراب فنقض بناؤه وأعيد لحالته الأولى كما كان فندقا، وبقي بابه شاهدا لحسن بنائه، وعلى بابه كتابة اشتملت على رسم بانيه أبي عنان المريني وعلى تسميته بالمارستان، مكتوب ذلك في الزليج الأسود الملصق على تاج الباب المذكور.
- الفرع الثاني: مارستان سيدي ابن عاشر بسلا
لما قدم أبو العباس أحمد بن محمد بن عاشر الأنصاري الأندلسي من بلاد الأندلس جعل إقامته بسلا، وذلك في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، بعد أن تنقل في بلاد المغرب مثل فاس ومكناسة وشالة، وأخد ابن عاشر يعالج المرضى واشتهر اسمه بسيدي ابن عاشر الطبيب، وأنشئ بالقرب من قبره مارستان. وفي سنة 1247ه/1846م جدد السلطان مولاي عبد الرحمان العلوي بناء هذا المارستان.
المطلب الثالث: مارستان مراكش
يعود تأسيس المارستان إلى يعقوب المنصور الموحدي الذي اختار مكانا له في مدينة مراكش، وخصص له أوقافا.
قال عبد الواحد المراكشي وهو يتحدث عن مناقب الخليفة يعقوب المنصور الموحدي: «وبنى بمدينة مراكش بيمارستـــانــــا ما أظن أن في الدنيا مثلــه، وذلك أنه تخير ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلــد وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه، فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخاريف المحكمة ما زاد على الاقتراح، وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات وأجرى فيه مياها كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع برك في وسط إحداها رخام أبيض، ثم أمر له الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره بما يزيد عن الوصف ويأتي فوق النعت، وأجرى له ثلاثين دينارا في كل يوم برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة خارجا عما جلب إليه من الأدوية، وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشرية والأدهان والأكحال وأعد فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء فإذا نقه المريض فإن كان فقيرا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل، وإن كان غنيا دفع إليه ماله وترك وسببه ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كل من مرض بمراكش من غريب حمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت.»
وفي عهد الدولة المرينية حظي هذا المارستان بعناية شديدة نظرا لأهميته، فقد قام السلطان أبو الحسن المريني بتجديد معظم المارستان، كما ذكر ذلك ابن مرزوق في مسنده.
يقول ابن مرزوق: «جدد إمامنا رضي الله عنه رسم المارستان بمدينة فاس وغيرها.»
وإن كنت قد أشرت إلى مارستان مراكش رغم أنه من تشييد وبناء سلاطين الموحدين، فعلاقته بالدولة المرينية تبقى قائمة باعتبار التحديث والتجديد من طرف أحد سلاطينهم.
المطلب الرابع: المارستان العزيزي بالرباط
كان هذا المارستان في الأصل مدرسة بالجامع الكبير بالرباط لطلاب العلم المترددين على الجامع الكبير، وينتسب المارستان العزيزي والسقاية بجواره إلى مؤسسها السلطان أبي فارس عبد العزيز بن علي بن عثمان المريني، ويرجع تاريخ البناء إلى القرن الثامن الهجري.
وتحدث الدكتور عبد الله السويسي عن المارستان فقال: «مدرسة الجامع الكبير، وهي المارستـان المريني الذي كـــان في الأصـل مدرســة لطلــبة العلم المتردديــــن على تلقي العلوم بالجامع الكبير، والمارستان العزيزي والسقاية بجواره منسوبان إلى مؤسسهما السلطان أبي فارس عبد العزيز بن علي بن عثمان المريني ويرجع تاريخ البناء إلى القرن الثامن الهجري.»
ويتكون بناء المارستان من صحن مركزي مربع الشكل تحيط به أروقة تطل على الصحن بسواري وأقواس بسيطة. والبناء بوجه عام شبيه ببناء المدارس المرينية ولكن ينقصه بيت الصلاة، كما يفتقر إلى الزخرفة ويغلب على البناء في الوقت الحاضر الطابق العلوي حيث أنه جدد في عصر الأسرة العلوية.
المطلب الخامس: مارستان المنصورة قرب تلمسان
ورد ذكر مارستان المنصورة بتلمسان في كتاب العبر لابن خلدون. حين حاصر السلطان المريني يوسف بن يعقوب مدينة تلمسان حصارا طويلا، فقام بتشييد وتخطيط مدينة جديدة بالقرب من تلمسان سماها المنصورة وذلك سنة 698ه/1299م. وأمر الناس بالبناء فبنوا المنازل والدور، واتخذوا البساتين وأجروا المياه، وأمر ببناء سور كسياج للمدينة الجديدة سنة 702ه، وقام بتشييد وبناء المسجد الجامع والمارستان والحمامات.
فالمارستان الذي نحن بصدد الحديث عنه لا نملك عنه معلومات ثرية سوى ما جاء عند ابن خلدون الذي اقتصر على ذكر المارستان ولم يفصل الحديث عن شكله ولا تاريخ بنائه ولا الأمراض التي كانت تعالج فيه، غير أنه فقط شيد بمدينة المنصورة وقت حصار تلمسان، وبذلك يبقى الغموض يكتنف هذا المارستان وتحوم عليه أكثر من علامة استفهام.
ولا بأس أن نذكر ما كتبه ابن خلدون عن هذا المارستان فيقول: «وأمر باتخاذ الحمامات والمارستان، وابتنى مسجدا جامعا، وشيد له مئذنة رفيعة، فكان أجل مساجد الأمصار وأعظمها، وسماها المنصورة، واستبحر عمرانها ونفقت أسواقها. ورحل إليها التجار بالبضائع من الآفاق فكانت إحدى مدائن المغرب.»
المطلب السادس: مارستان آسفي
حين زار لسان الدين بن الخطيب مدينة آسفي سنة 761ه/1360م، أشار إلى وجود المارستان وقد يكون السلطان أبو عنان هو من تولى تأسيسه مع المدرسة العلمية، وإن كانت المادة التاريخية غير متوفرة بشكل يجعلنا متأكدين من مؤسسه وتاريخ إنشاءه.
ونقف على ما كتبه ابن الخطيب عن المارستان فيقول: «وبهذه البلدة، المدرسة والمارستان، وعليها مسحة من قبول الله، وهواؤها أطيب أهوية البلدان، يستدعي الدثار في القيظ لبرده ولطيف مسراه. وتردد بها إلى صاحب السوق ومقيم رسم المارستان، الشيخ الحاج أبو الضياء منير بن أحمد بن محمد ابن منير الهاشمي الجزيري من أهل الظرف والخيرية والتمسك بأذيال أهداب الطلب.»
زيادة على ما ذكره ابن الخطيب حول مارستان آسفي، ذكر الكانوني هذا المارستان واعتبره من آثار المرينيين، رغم أن ما كتبه كان نقلا عن ابن الخطيب.
وبدوره أشار الكانوني إلى الاختلاف الحاصل فيمن بنى المارستان وإلى من يرجع تأسيسه، فذهب أنه من المرجح أن يكون تأسيسه من طرف السلطان أبي عنان، ويحتمل أن يكون من تأسيس السلطان أبي الحسن.
فتبقى الشكوك واردة، كما يبقى الاختلاف أيضا قائما، مما يجعلنا نبقى حبيسي الشكوك واختلاف الآراء، كما أنه لا توجد لوحة تحبيسية تدل دلالة قاطعة على بانيه.
المطلب السابع: مارستان مكناس
مارستان مكناس من تأسيس السلطان أبي عنان المريني، ولا تزال بنايته قائمة في حي الحمام الجديد، يميزها باب لطيف، تتوجه لوحة خشبية مستطيلة، تنقش بها كتابة بخط الثلث فيقرأ فيها اسم المؤسسة وبانيها. ويشتمل المستشفى-في وضــعه الحالي-على قسمــين:
الأول: كان فيما يظــهر مخصصــا لعــلاج
المرضى، ويتكون من طابقين تدور بكل منهما حجرات صغيرة تتنافس من ثلاث جهات، ويتوسط ساحة الطابق الأسفل مربع داخله غرسات مناسبة تحف بصهريج صغير.
أما القسم الثاني: فكان موقعه شرق البناية الأولى، في طابق واحد مقسم إلى بيوت مخصصة لإقامة المعتوهين، وبعد نقل هؤلاء إلى مكان آخر داخل المدينة تحول مستقرهم الأول إلى بناية متسعة تستخدم الآن معملا للنجارة، وقد اقتطع القسم الثاني من المستشفى العناني خلال ستينيات الهجرية الأخيرة. ومن حديث هذا المارستان: أن أديب مكناس ابن عبد المنان سكن به في زيارته لهذه المدينة صحبة السلطان المريني أحمد بن أبي سالم، فكانت هذه السكنى مثار حوار شعري بين العاهل المريني والشاعر المكناسي، حتى نستفيد منها تأكيد مرينية هذا المارستان.
وقال السلطان أحمد بن أبي سالم مناشدا الأديب ابن عبد المنان:
يا شاعرا قد خبرناه ففاض لنا
بالشعر والكتب من تلقـــاه بحـــران
نبئت أنك قد بدلت دارك في
مكناسة فشجا من عندك أنبــــــاني
ما زال يتبعك الغاوون من زمن
حتى لقد همت في وادي المارستان
فأجابه الأديب ابن المنان قائلا:
لما بدا لي في حمى مكناســــــــــــة
مثوى الذين مضوا من الأتراب
أيقنت أني لست ذا عقل بها
أتعبت نفسي في هوى وتغــــاب
فتركت داري لم أعرج نحوهـــــا
ورأيـــــت مارستـــــــــــــــــــــــــــــانها أولى بي
المطلب الثامن: مارستان تازة
يبقى مارستان تازة يكتنفه الغموض لأن الكتابات التاريخية لم تشر إليه، وما جعلني أشير إلى مارستان تازة ما كتبه عنه، وجاد به قلم العلامة محمد المنوني قال: «فكان بداخلها مستشفى مريني حسب اللوحة لوقف أبي عنان عليه، فضلا عن أحد أجزاء الحوالة الحبسية لنفس المدينة، وهي تحتفظ بفقرة صغيرة تذكر نصيف أشجار عرصة المارستان.»
المطلب التاسع: العيون السخنة للتداوي
اعتنى السلطان أبو الحسن المريني أيضا بالعيون السخنة التي يتداوى بها الناس، فبنى حمة خولان، على وجه محكم وبنى وَشْتَاتَة وحمة أبي يعقوب.
فهذه العيون من عطاء الله على بلاد المغرب الأقصى، يندفع منها الماء ساخنا وقد يشتمل على كميات من الكبريت الذي يكون علاجا لبعض الأمراض خصوصا الأمراض الجلدية والعظام والمفاصل لذلك يقصدها الناس للانتفاع بمائها.
- الفرع الأول: حمة خولان
هي من العيون الساخنة، وهي الحمة التي تعرف اليوم بسيدي حرازم تقع على بعد 15 كلم إلى الجنوب الشرقي من مدينة فاس، تنبع فيها مياه غنية بالغاز الكاربوني تبلغ حرارته حوالي 35 درجة، وقد شرعت الدولة المغربية في السنين الأخيرة في تجهيزها وتزويدها بالمرافق العصرية التي تجعل إقامة المستحمين فيها مريحة.
تحدث الجزنائي عن الحمة وأشار إلى أن السلطان أبا الحسن اهتم واعتنى بها نظرا لأهميتها فيقول عنها: «ومنها حمة خلان وهي من العيون الساخنة وهي مرفقة للاستحمام والتداوي، وقد اعتنى مولانا أمير المسلمين أبو الحسن نور الله ضريحه ببناء حمة خولان على وجه محكم لتتم مصالح الناس فيها ومنافعهم.»
ونالت حمة خولان حظ الذكر عند صاحب «جذوة الاقتباس» لأحمد بن القاضي المكناسي الذي تحدث عن منافعها وعن السلطان الذي اعتنى بها، فقال: «اعتنى أمير المسلمين أبو الحسن المريني ببناء حمة خولان على وجه محكم لتتم به مصالح الناس ومنافعهم.»
ولا تزال بناءات السلطان أبي الحسن المريني ماثلة للعيان حتى الآن بحمة خولان المعروفة اليوم بحمة سيدي حرازم، وخلفها شمالا أسس السلطان المنعم سيدي محمد بن يوسف العلوي دارا كان ينزل بها رغبة في الاستحمام، وقد وسعها الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله.
- الفرع الثاني: حمة أبي يعقوب
حمة واقعة في الشمال الغربي من فاس على بعد 15 كلم منها تعرف اليوم بمولاي يعقوب، تنبع فيها مياه سخنة تشتمل على كميات وفيرة من الكبريت، يأتيها الناس من كل صوب لعلاج أمراض الجلد والروماتيـزم والزكــام الدماغي. ووقفنــا على هذه الحمة عند الجزنـــائي رغــم إشـــاراتــه الخفيفة لها، وتحـــدث
على أن الحمة هي للاستحمام والتداوي وهي من الحمات التي اعتنى بها السلطان المريني أبو الحسن.
- الفرع الثالث: حمة وشتاتة
حمة واقعة في المنحدر الشمالي لجبل زالغ المطل على فاس، في مائها كل خصائص ماء حمة مولاي يعقوب، إلا أنه أضعف منه كمية إذ لا يتجاوز كمية نبعه ثلاثة أمتار في الثانية، فلذلك لا ينتفع به إلا السكان المجاورون.
لم يتطرق صاحبي الجذوة وزهرة الآس إلى تفاصيل كثيرة حول الحمة، مما يجعلنا نقف عند هذه الإشارات الضئيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وما يزال الغموض يكتنف الحَمَّات في المصادر التاريخية التي أرخت للحقبة المرينية.