السفر الصوفي
بقلم: ذ.حنان بنعلا
ملخص:
تهدف هذه الدراسة إلى الحديث عن السفر عند أهل التصوف الذي يقودنا إلى الدنو من معراج روحي غرضه الكشف وإماطة الحجب عن نفسية المجاهدين الصادقين من الصوفية، وما السفر عند هؤلاء إلا رمز من رموز التطهير النفسي والتحقق الوجداني الذي يُفْضي في النهاية إلى الكشف عن حقائق الأمور، وبالتالي بلوغ مدارج الحقيقة الروحية ومعرفة الذات الإلهية. وتُعتبر المجاهدات أساس الحركة الصوفية ورأس السفر الذي يُحفز السالك على أن يستقل قطار المقامات المارّ من محطات الأحوال التي تتلبّس المريد وتأْسره؛ هذا هو جوهر السفر الروحي الذي لا يكتمل إلا باكتساب المعارف الموصلة إلى شاطئ اليقين.
الكلمات المفاتيح: السفرالروحي ـ السفر الملكوتي ـ سفر القلوب.
مدخل:
يعد السفر قطعة من الحياة كونه يلازم الإنسان منذ انطلاقته الأولى؛ فالخروج من ظلمات الأرحام سفر، والعودة لله سبحانه وتعالى سفر، كذلك نزول سيدنا آدم الأب الأول في الروحانيات يعد سفرا، كما أكد على ذلك الشيخ ابن عربي[1] في كتابه “الإسفار عن نتائج الأسفار”، حيث يقول: «فلما وقع ما وقع من آدم و حوا، اهبطا إلى الأرض، فهذا سفر في الظاهر من عنده، وكذلك سفر إبليس من عنده، فوجد إبليس في سفره الملك والراحة التي يؤول بها إلى الشقاء الدائم، ووجد آدم المشقة والتكليف الذي يؤول به إلى السعادة، وكان من علو سفره هذا، أنه سافر من شهوة نفسه إلى معرفة عبوديته…»[2].
قبل أن أبسط القول عن رمزية السفر عند أهل التصوف وبعض جوانبه الروحية، لابد من الوقوف عند أهم المفاهيم المُيَسِّرة لولوج دروب هذا البحث، وإماطة اللبس عن دلالاته اللغوية والاصطلاحية.
أولا: مفهوم السفر:
1/ السفر لغة:
«قطع المسافة»[3]، والجمع الأسفار، والمسفر: «الكثير الأسفار؛ ويقال: سفرت، أسفرت، سفورا، خرجت إلى السفر؛ فأنا سافر، وقوم سَفْرٌ مثل صاحب وصحب، وسافرت إلى بلد كذا مُسافر وسفار. والسَّفر خلاف الحَضَر؛ وهو مشتق من ذلك لِمَا فيه من الذهاب والمجيء»[4].
وقد جاء في معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس: «سفر: السين والفاء والراء أصل واحد يدل على الانكشاف والجلاء، ومن ذلك السفر، سمي بذلك لأن الناس ينكشفون عن أماكنهم»[5]. وهذا المعنى نفسه الذي ورد في المعجم الوسيط: «سفر، سفورا: وضح وانكشف، يقال: سفر الصبح: أضاء وأشرق، وسفرت الشمس: طلعت، وسفر وجهه حسنا، أشرق وعلاه جمال، والمرأة كشفت عن وجهها، والرجل سفرا خرج للارتحال، والشيء سفرا: كشفه وأوضحه: يقال سفر العمامة على رأسه: كشفها، وسفرت الريح الغيم عن وجه السماء: كشطته، والبيت كنسه»[6]. في حين وردت الكلمة نفسها في معجم البلدان: «سفر بالتحريك، بوزن السفر ضد الإقامة، [موضع بعينه]»[7]، «سافر: مسافَرَة وسفارا: خرج للارتحال، سفَّرَه: جعله يسافر، والسفر: قطع المسافة؛ يقال: هو مني سَفَر: بعيد، وسَفَر الصبح: بياضه، ويقال لبقية بياض النهار بعد مغيب الشمس سَفَرٌ؛
السِّفر: الكتاب الكبير وفي التنزيل العزيز﴿ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِل ُأَسۡفَارَۢاۚ…﴾»[8]؛
«السُّفرة: طعام يصنع للمسافر، وما يحمل فيه هذا الطعام، والمائدة وما عليها من الطعام: (سُفَرُ)؛
السفير: الرسول والمصلح بين قومين، مبعوث يمثل الدولة لدى رئيس الدولة المبعوث إليها»[9].
ولا تختلف سعاد الحكيم كثيرا عما جاء في “المعجم الوسيط ومعجم مقاييس اللغة” حول معنى السفر، حيث تقول: «السين والفاء والراء أصل يدل على الانكشاف والجلاء من ذلك السفر، وسمي بذلك لأن الناس ينكشفون عن أماكنهم”[10]، وتضيف سعاد الحكيم في السياق نفسه: «والسفر: الكتابة، والسَّفَرة: الكتابة وتسمى بذلك لأن الكتابة تسفير عما يحتاج إليه من الشيء المكتوب…»[11].
إذا انطلقنا من جل هذه المفاهيم المستخلصة حول مفهوم السفر في معناه اللغوي، نجده ينحصر في معنيين اثنين لا غير:
- المعنى الأول: السفر تجلٍّ وانكشاف ووضوح أيضا؛
- المعنى الثاني: السفر ارتحال وانتقال من مكان إلى آخر. وهذا هو الأشهر، والأقرب إلى ما سأتناوله في هذا البحث حول حقيقة السفر عند أهل التصوف.
2/السفر اصطلاحا:
إن السفر في معناه الاصطلاحي يُدْنينا كثيرا من القُربة الإلهية ومحاولة المُثول أمام الحضرة الربانية. يقول الشيخ محيي الدين بن عربي في الفتوحات المكية: «اعلم أيدك الله أن السفر حال المسافر، والطريق هو يمشي فيه ويقطعه بالمعاملات والمقامات والأحوال والمعارف، لأن في المعارف والأحوال الأسفار عن أخلاق المسافرين ومراتب العالم ومنازل الأسماء والحقائق، ولهذا استحق هذا اللقب. والإنسان لَما كان مجموع العالم ونسخة الحضرة الإلهية التي هي ذات وصفات وأفعال احتاج إلى مطرق يطرق له السلوك عليها والسفر فيها ليرى العجائب ويقتني العلوم والأسرار»[12]، والمسافر حسب ابن عربي هو: «من سافر بفكره في طلب الآيات والدلالات على وجود صانعه فلم يجد في سفره دليلا على ذلك سوى إمكانه، ومعنى إمكانه ينسب إليه وإلى جميع الوجود فيقبله أو العدم فيقبله»[13]؛
يمكن أن نقف عند حدود هذا المعنى الذي قدمه ابن عربي حول السفر، لنُوقن أن ما يَكْتَنِه معنى السفر أعظم من أن يكون مجرد ارتحال أو تنقل بين الأماكن، بل السفر هنا يعني رحلة بحث عن الحقيقة، واكتشافٍ لعجائب الكون والتأمل في الملكوت، كما يبدو جَليا أن ابن عربي يربط السفر بالأحوال والمقامات، باعتبارها درجات من الارتقاء الروحي التي يقطعها السالك حينما يجاهد نفسه، وبذلك يكون السفر مرحلة من مراحل الرحلة نحو الحق سبحانه؛
وقد جاء في “الرسالة القشيرية” أن السفر ينقسم إلى قسمين: «سفر بالبدن: وهو الانتقال من بقعة إلى بقعة، وسفر بالقلب، وهو الارتقاء من صفة إلى صفة، فترى ألفاً يسافر بنفسه[14] وقليلا من يسافر بقلبه»[15]، ويروي الإمام أبو القاسم القشيري في نفس السياق عما سمعه من أحد الشيوخ حينما سُئل: “هل سافرت أيها الشيخ؟؛ فقال: «سفر الأرض أم سفر السماء؟ سفر الأرض لا، وسفر السماء بلى»[16].
إن ما جاء في “الرسالة القشيرية” لكفيل بأن يُدنينا من المعنى الحقيقي للسفر الذي نحاول مقاربته، وهو المعنى نفسه الذي أورده ابن عربي في كتاب “الفتوحات المكية“: «السياحة: الجولان في الأرض عن طريق الاعتبار والقربة إلى الله في الأنس بالخلق من الوحشة، فاعلم أن أهل الله ما طلبوا السياحة في الأرض ولزوم الفقر وسواحل البحار إلا لما غلب عليهم من الأنس بالجنس الذي هم أشكاله من الأناسي، وهم وإن كان ذلك الأنس في الظاهر فهو استيحاش في الباطن من حيث لا يشعر طالب السياحة»[17].
انطلاقا من المعاني السابقة؛ يكون السفر قُربة من الله سبحانه وتعالى، ومحاولة للاستئناس بالخلق والانسلاخ عن وحشة الباطن في محاولة للمثول بين يدي الحق والانقطاع إليه بما يلزم من المجاهدات والعبادات.
ويؤكد ابن عربي على هذه القربة الإلهية قائلا: «الإنسان الكامل…يسافر بربه عن كشف إلهي ومعية مُحققة يكون فيها مع الحق كما هو الحق معنا أينما كنا»[18]. لكن أسماء خوالدية تذهب إلى أبعد من ذلك حينما تقرن السفر بالتطهير النفسي، مؤكدة أن السفر يرتبط أشد الارتباط بالعقائد الصوفية، وما هو إلا بديل رمزي لمقاماتهم وأحوالهم يهدف إلى تطهير النفس البشرية من مادة الأرض. «وهو عبارة عن التحقق والوجدان، وهو منتهى سير المقربين، مثلما هو قُرب وتَقْريب وارتقاء. وليس حِكْرًا على الحركة الحسية؛ أي الترقي في السماوات؛ بل يحمل هذا اللفظ معاني عقلية كالتدرج في التطهير من ناحية، أو التدرج في التحقق بالعلوم من ناحية ثانية»[19].
لكن السفر سيصبح أسفارا مع ابن عربي حينما يقول: «أما بعد فإن الأسفار ثلاثة لا رابع لها أثبتها الحق عز وجل، وهي سفر من عنده، وسفر إليه، وسفر فيه، وهذا السفر فيه هو سفر التيه والحيرة؛ فمن سافر من عنده فربْحُه ما وجد وذلك هو ربحه، ومن سافر فيه ولم يربح سوى نفسه، والسفران الأولان لهما غاية يصلون إليها ويحطون عن رحالهم، وسفر التيه لا غاية له، والطريق التي يَمْشي فيها المسافرون طريقان طريق في البر وطريق في البحر»[20].
إن السفر من عند الله؛ هو استخلافه وتبليغ رسالته مع الامتثال لأوامره وتجنب نواهيه وزواجره، ثم التفكر في ملكوته والوقوف على عظيم آياته، والسفر إليه؛ هو التماس سبل الجنة وأنعمها عن طريق التزود بالصالحات والتَّهَنْدُم بلباس التقوى، ولا يتأتى ذلك إلا بالطاعات وأداء الفرائض والتسلح بالصبر، أما السفر فيه فيقسمه ابن عربي، حسب نوع المسافرين، إلى قسمين قائلا: «أما المسافرون فيه طائفتان: طائفة سافرت فيه بأفكارها وعقولها فضلت عن الطريق ولا بد فإنهم ما لهم من دليل في زعمهم يدل بهم سوى فكرهم وهم الفلاسفة ومن نحوهم، وطائفة سُوفِر بها فيه وهم الرسل والأنبياء والمصطفون من الأولياء كالمُحقِّقين من رجال الصوفية مثل سهل بن عبد الله وأبي يزيد وفرقد السبخي والجنيد بن محمد والحسن البصري.. »[21]، ويعتبر بذلك “السفر فيه” مِنْ أرقى الأسفار على الإطلاق، لأنه يمثل رحلة فناء أبدي ووفاء للذات الإلهية، وهذا النوع متعلق فقط بالأنبياء وأهل التصوف.
وقد ذهب أبو حامد الغزالي مذهبا آخر حينما اعتبر السفر وسيلة للخلاص، مميزا بين نوعين منه قائلا: «والسفر سفران: سفر بظاهر البدن عن المستقر والوطن إلى الصحاري والفلوات، وسفر بسَيْر القلب عن أسفل السافلين إلى ملكوت السموات؛ أشرف السفرين السفر الباطن»[22]، ويبدو أن الغزالي فصل بين نوعين من السفر أحدهما مكاني ويعني الانتقال من مكان إلى آخر، والآخر وجداني يتوجه من خلاله السالك إلى ملك الملك تقربا واحتماء بعصمته.
ولا يختلف الجرجاني كثيرا عن أبي حامد الغزالي وعن ابن عربي؛ لكن يفرد أكثر في أنواع السفر، حيث يرى أن السفر عند أهل الحقيقة عبارة عن سير القلب عند أخذه في التوجه إلى الحق بالذكر، والأسفار بالنسبة له أربعة:
- «السفر الأول: هو رفع حجب الكثرة عن وجه الوحدة، وهو السير إلى الله في منازل النفس بإزالة التعشُّق من المظاهر والأخيار إلى أن يصل العبد إلى الأفق المبين وهو نهاية مقام القلب؛
- السفر الثاني: هو رفع حجاب الوحدة عن وجوه الكثرة العلمية الباطنية، وهو السير في الله بالاتصاف بصفاته والتحقق بأسمائه، وهو السير في الحق بالحق إلى الأفق الأعلى وهو نهاية حضرة الواحدية؛
- السفر الثالث: هو زوال التَّقَيُّد بالضدين الظاهر والباطن وبالحصول في أَحَدية عين الجمع وهو الترقي إلى عين الجمع والحضرة الأحدية وهو مقام﴿ قَابَ قَوۡسَيۡنِ﴾[23] وما بقيت الإثنية فإذا ارتفعت وهو مقام﴿أَوۡأَدۡنَىٰ﴾[24] وهو نهاية الولاية؛
- السفر الرابع:عند الرجوع عند الحق إلى الخلق وهو أَحَدية الجمع والفرق بشهود اندراج الحق في الخلق واضمحلال الخلق في الحق حتى يرى عين الوحدة في صورة الكثرة، وصورة الكثرة في عين الوحدة، وهو السير بالله عن الله للتكميل، وهو مقام البقاء بعد الفناء، والفرق بعد الجمع»[25].
وحَسْبُنا الوقوف على هذه الأنواع الأربعة لنكشف عن الوجه الحقيقي للسفر الذي يرتبط في معناه الاصطلاحي برحلة الصوفي وما يتصل بها من سعي نحو السمو والتطهير الذاتي، وذلك بهدف الارتقاء إلى الولاية التي تعتبر«العلامة الكبرى على القرب والوصول والثمرة الطبيعية بعد السفر الطويل عبر مراحل الطريق الصوفي»[26].
من خلال الوقوف على أهم المفاهيم الاصطلاحية المتعلقة بالسفر، نلاحظ أنها تلبست بلبوس المعاني الصوفية، وهذا ما جعل السفر في قراره ارتحال نحو الله سبحانه وتعالى، ودنو من اليقين، ومحاولة لتطهير الأنفس من الشوائب، فلا يغدو بذلك السفر مجرد انتقال مكاني فحسب؛ بل استجلاء لحقائق الكون وخباياه التي لا تتحقق إلا بالقربة الإلهية.
ويضيف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي أثناء شرحه لرسالة الأنوار لابن عربي، «اعلم أن الناس مذ خلقهم الله تعالى وأخرجهم من العدم الإضافي إلى الوجود الإضافي لم يزالوا مسافرين وليس لهم حظ عن رحالهم إلا في الجنة أوفي النار، وكل جنة ونار بحسب أهلها، فجنة الخواص الوصال ونارهم البعد، وجنة العوام محسوسة ونارهم معروفة»[27].
من هنا أمكننا الوقوف على أول الأسفار في الحياة وهو سفر الخروج من ظلمات الأرحام؛ أي الخروج من العدم إلى هذا الكون الفسيح، ثم سفر العودة وشد الرحال إما إلى الجنة أو إلى النار، وبما أننا دنونا من السفر في معناه الرمزي الذي ارتبط بشكل وثيق بأهل التصوف؛ فلا بد من الوقوف على التصوف في معناه اللغوي والاصطلاحي، وكذا طريقه والمعرفة المرتبطة به.
وفي محاولة لرد الاعتبار للسفر أو الجولان أو السياحة أو المعراج كما يصطلح على ذلك رجال التصوف، نجد أن العارفين قد خُصُّوا بعدد من السياحات؛ نذكر منها: «السياحة الكونية، وتكون في عالم الكون لتهذيب النفس ورياضاتها، أو التفكر في آثار قدرة الله، والتعرف على بعض مظاهر نعم الله على خلقه، وقد تكون في الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله»[28]، أو لزيارة الصالحين من أهل العلم، إلى غير ذلك مما سأتناول الحديث عنه.
إلى جانب هذه السياحة الكونية التي عُرِفَ بها أصحاب التصوف وغيرهم من الناس؛ نجد أن هناك سفرين اثنين يرتبطان أشد الارتباط بالجانب الروحي؛ وهما: السفر الملكوتي؛ الذي يكون في شكل منامات، أو في شكل رؤى صالحة، «وقد تكون أيضا يقظة إذا كشف الله الحجب عن القلب فيستضيء بنور الله تعالى…فيشاهد الصالح بقلبه عوالم الملكوت الأعلى وما فيها من أرواح الملائكة، ونعوت المقربين وغيرها من خبايا الملكوت إرثا للخليل»[29]: ﴿ وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ﴾[30].
وهناك السفر الروحي في عوالم القدس الأعلى…«حيث تشهد الروح في صفوها بفضل ربها عوالم سدرة المنتهى وعوالم العرش…وعوام الروح…وعوالم العلم…وغيرها من العوالم القدسية»[31].
إذا ما جُبنا صفحات الكتب بحثا عن المعاني المُسَيِّجة للسفر الروحي عند أهل التصوف؛ سنجده مستوحى من رحلة المعراج النبوي، وخير دليل على ذلك؛ العناوين المبثوثة على كتب الصوفية ومصنفاتهم، من مثل: “معارج القدس في مدارج معرفة النفس” للإمام الغزالي، وكذلك كتابه “معراج السالكين”، وكتاب “معراج التشوف على حقائق التصوف” لأحمد بن عجيبة، كذلك كتاب “الإسرا إلى المقام الأسرى” لابن عربي الذي يصور من خلاله تفاصيل رحلة منامية إلى السموات السبع، فما هي إذن حقيقة السفر الروحي؟ وهل يعتبر مُتَعَالِقًا مع رحلة المعراج النبوي أم أنه تلبس بلبوس الدلالة الرمزية التي اغترفت من ينابيع الرحلة المحمدية؟
يتجلى السفر الروحي داخل دولاب المتون الحكائية والمصنفات الصوفية في صورتين اثنتين: أولهما السفر في عوالم العرش، وثانيهما سفر الموت الذي يتلقف الأرواح ويحملها إلى البرازخ بعيدا عن عالم المادة.
المبحث الأول: السفر الروحي وتجلياته.
1 / سفر الروح إلى عالمها العلوي:
يتجلى هذا السفر حينما يشرع الصوفي بشق طريقه نحو الإرادة؛ وهو سفر الخاصة من أهل التصوف الذين يعيشون حالات من العروج الروحي تشبه إلى حد كبير معراج أبي زيد البسطامي حينما تصور «أن طائرا يحمله ويعرج به إلى السماء، فيصف لنا الملائكة والآيات التي يشاهدها في كل سماء، حتى ينتهي الصعود إلى السماء السابعة ويرى الرسول، ومن تم يتجه إلى البارئ الخالق برؤية نوره والوصول إليه»[32]، وسفر العروج نفسه يصوره لنا ابن عربي في كتابه “الإسرا إلى المقام الأسرى“، حينما عرجت روحه إلى «عالم الأزل فيُسرى به من الأندلس إلى بيت المقدس ومن هناك يصعد إلى أفلاك السموات السبع فالعرش فالكرسي وسدرة المنتهى واللوح المحفوظ، ومنها إلى عوالم الملإ الأعلى»[33]. هذا العروج الروحي نحو السماء ومشاهدة آيات الحق سبحانه لا يمكن إسباغه على كافة الخلق، بل للمجاهدين المتطهرين ممن اجتباهم الله تعالى. وقد وجد الصوفية أن السفر الروحي المتمثل في المعراج «يصور حركة الترقي، وهو ليس حصرا على الحركة الحسية أي الترقي في السموات، بل يحمل هذا اللفظ معاني عقلية، كالتدرج في التطهر النفسي من ناحية أو التدرج في التحقق بالعلوم من ناحية أخرى»[34].
إن الجدل الروحي الذي يكتنه الفكر الإسلامي عامة، والصوفي خاصة، ما هو إلا مرآة عاكسة لفلسفة إسلامية توفيقية، غرضها الانسلاخ من بَوْثَقَة متناقضات الإيمان والفكر ثم الدين والعلم، وهذا الجدل الروحي للإسلام نجده متجليا في الفكر الصوفي الذي يَتَغَيَّا تحرير الإنسان المسلم، وحَمْلِه من أرضية الإقليمية إلى بساط العالمية عبر تأكيد المتصوفة على «قدرة الإنسان في تخطي الأرضية والطينية…للوصول إلى سدرة المنتهى ومشاهدة نور الذات الأسمى. فالمؤمن حر في اختياره أن يكون ترابا أو ضوءا، طينا أو أثيرا، أنا مُغلقة ضيقة أو “الهو” الذي لا يبقى إلا الله»[35]. ومن غير هذه الحركة، لا يمكن للصوفي أن يتحرر، أو بالأحرى أن يتجرد عن عالم الأهواء ونوازع النفس ومنازعها. «إن تَرْكَ الإنسان بين قطبي الأرض والسماء، المادة والروح، البشرية والله، التراب والنور، الملأ الأدنى والملأ الأعلى، وعروجه من فلك إلى فلك ثم العودة إلى الإنسانية هو جدل التجربة الروحية الإسلامية التي أدركت العالم بتجاوز الذات وأدركت الذات بتجاوز العالم»[36].
وهنا يمكن القول إن السفر الروحي أشبه بالمعراج في رمزيته التي تُمَكِّن الإنسان من الانسلاخ عن تناقض الأقطاب، ما يجعل الإنسان يخرج من هذا السفر أكثر عطاء وتجددا، وأكثر تعلقا بالزمن الروحي، «ففناء العبد في الخالق عن طريق المجاهدة هو بقاء له وبقاؤه في الانفصال عنه وفناؤه»[37].
هذه الدينامية القائمة على فناء الأنا وبقاء الكل؛ ترمي من وراء الممارسة إلى تحديد القوة الإنسانية والتخفيف من حدة الشكلية التي أكدت عليها الأعمال والعبادات في تحديد علاقة الخالق بالمخلوق، الإنسان (آدم) هو روح الله، ولا سعادة للفَرْعِ إلا بالعودة إلى الأصل، ثم الصدور عنه من جديد، وبهذا يتجلى السفر الروحي في شكل اغتراب يدعم طريق السلوك الصوفي ويمثل إحدى لبناته، فالاغتراب في عوالم العرش ما هو إلا صورة من صور العشق الإلهي الذي تفنى فيه نفس العبد المتعطش لمعانقة أسمائه وصفاته تعالى.
2 / سفر الموت (سفر الروح إلى عالم البرزخ):
يكتسب الموت طَعما آخر، ويتَهَنْدَمَ بهندام السفر إلى عالم البرزخ؛ هذا العالم الغيبي المُكْتَنِهِ للأسرار العلوية التي لا يملك مفاتيحها إلا الحق سبحانه وتعالى، فالموت بلغة المنطق يعني «خروج الروح من الجسد بأمر الله سبحانه وحده، ولم يعط أحدا من خَلْقِه هذا الحق…فالأمر من الله سبحانه والتنفيذ من الملائكة الذين اختصهم بقبض الروح»[38]، لكن الموت عند أهل التصوف يرمز إلى الانعتاق واستكمال أطوار السفر من دار الفناء إلى دار البقاء، كما يرمز إلى قمع ملذات النفس، والاتصال بمُضمرات الدواخل الإنسانية لتمثل أمام الحضرة الإلهية.
يبدو جليا أن للصوفي قناعات روحية تقر بأن «الموت أمر عقلي منطقي سليم، من أنكره وظن أنه ناجٍ منه دون الخلق، فإن في عقله مسا من الجنون وعدم الأهلية الإنسانية»[39]، فالله حينما خلق الإنسان لم يخلقه من أجل أن يحيا الحياة بصفائها وكدرها، ثم يموت ميتة نهائية، لكن ليُجَهِّز نفسه من أجل الارتقاء بها في الدرجات العليا لا الدرك الأسفل، ثم إن العودة لله سبحانه وتعالى عند أهل التصوف ليست فناء؛ «بل هي انتقال مرحلي من حياة إلى حياة أخرى؛ وهذا الفاصل بين الحياتين أخفي عنا وبقي علمه لدى الله سبحانه»[40]. وخلال البث المباشر الذي يحدث أثناء مغادرة الروح لمعدن الجسد نؤكد مرة أخرى على أن سفر الأرواح «ليس بعدم محض وإنما هو انتقال من حال إلى حال»[41]، والحديث عن هذا الانتقال أورده ابن عربي في كتابه “الإسفار عن نتائج الأسفار” قائلا: «لا نزال في سفر أبدا من وقت نشأتنا ونشأة أصولنا إلى ما لا نهاية له…وكم سافَرْتَ في أطوار المخلوقات إلى أن تََكَوَّنْت دما في أبيك وأمك ثم اجتمعا من أجلك عن قصد لظهورك أو غير قصد فانتقلت منيا من تلك الصورة علقة إلى مضغة إلى عظم ثم كسي العظم لحما…ثم أُخْرجت إلى الدنيا فانتقلت إلى الطفولة، ومن الطفولة إلى الصبا، ومن الصبا إلى الشباب، ومن الشباب إلى الفتوة، ومن الفتوة إلى الكهولة، ومن الكهولة إلى الشيخوخة، ومن الشيخوخة إلى الهرم؛ وهو أرذل العمر ومنه إلى البرزخ، فسافرت في البرزخ إلى الحشر، ثم من الحشر أحدثت سفرا إلى الصراط المستقيم، إما إلى جنة وإما إلى نار إن كنت من أهلها…»[42].
فلم يعد الموت نقيضا للحياة؛ بل هو سفر نحو عالم الأرواح، وليس العذاب والنعيم حكرا على قبر ضيق يتبدد فيه جسد فان، وإنما الموت سفر نحو عوالم البرزخ المكتنز لأسرار الألوهية. فالفضاء الروحي الذي يؤسسه الصوفي «يشكل كتابة رمزية كونية يقصد كشفها واختراق صورها الرمزية»[43]، إذ يتحول الكون كله إلى فضاء جمالي تفنى فيه الروح لتشاهد الجمال الإلهي المطلق، والسفر الروحي والموت يغدوان فناء وسفرا معنويا؛ يتم من خلالهما الانتقال بين الأحوال والمقامات، يقول ابن عجيبة في كتابه “الفتوحات الإلهية“: «السفر إلى الله مجاز، عبارة عن قطع العلائق وعن الخروج عن الشهوات، والعوائد، ليتصل بالأنوار والحقائق، وهي المُعَبَّر عنها بحضرة الحق»[44]، فالموت ما هو إلا نور للحقائق التي تسللت إلى ذات الصوفي وجعلته لا يُبصر أمامه إلا مشاهد الجمال الإلهي، وبهذا المعنى يَكُون الموت والسفر الروحي عند الصوفية صورة من صور الفناء والتطهير النفسي وقمع الشهوات، وإحباط كل محاولة تركض خلف الأهواء وغوايتها.
وبعيدا عن السفر الروحي وسفر الموت، سأنتقل إلى نوع آخر من الأسفار الصوفية التي تتجلى في شكل منامات أو رؤى صالحة، أو مشاهدات، أو في شكل سفر قلبي؛ وهو السفر في الملكوت.
المبحث الثاني:السفر في عوالم الملكوت:
يستطيع الصوفي قُبيل وصوله إلى مقام الولاية أن يدرك بقلبه عوالم الملكوت الأعلى، كأن يرى مثلا أرواح الملائكة، ونَعَموت المقربين، وغيرهما مما يمكن أن يدرك روحيا لا بصريا. ثم إن الكمال لا يكون عادة من نصيب القلوب المسجونة داخل كدر الشهوات ومَراتِع حب الدنيا؛ بل من نصيب العرفاء المكاشفين الذين استطاعوا أن ينيروا بِسُرجهم طريق الإرادة، ومناهل الولاية؛ ليبلغوا درجة الإنسان الكامل الذي تتجسد فيه صفات الله تعالى وأسماؤه، فكيف يتحقق إذن كمال الشخصية الصوفية؟ وكيف يمكنها أن تسلك سبيل السفر الملكوتي؟
للإجابة عن السؤالين، لابد من الوقوف على بعض أنواع السفر الملكوتي التي خص بها السالكون، ويمكن أن أتحدث هنا عن: سفر القلب، سفر الرؤية والمشاهدة، سفر المكاشفة، سفر الخلوة، سفر الانعطاف في دهاليز الولاية، ثم سفر الفناء المطلق.
1 / سفر القلوب:
يعتبر القلب روحا تدبر جميع الجوارح، وليس مجرد عضلة قائمة في جسم الإنسان، ثم إن القلب “محطة للنور العرفاني”[45]، فهو يتشكل من «خمس محطات أساسية هي في الأصل أدوات المعرفة: القلب، الروح، السر، الخفي، والأخفى؛ وتسمى كذلك باللطائف الإنسانية، فالمعارف تتدرج من القلب إلى الروح إلى السر ثم سر السر ثم عين السر»[46]، و«لصعوبة هذه الرحلة القلبية يرى الهجويري أن إعداد القلب لتلقي المعرفة أمر شاق لا يقوى عليه إلا أولو العزم»[47]؛ وهو ما يجعلهم يُعرضون عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب وشهوات النفس، سعيا إلى التماس الأنوار السماوية والألطاف الإلهية.
غير أن انتزاع الشهوات من القلب لا يتم «إلا من خلال خوف مزعج أو شوق مقلق، فمداواة الأمراض الظاهرة التزام التوبة والتقوى والاستقامة، فإن صعب عليه فليلزم صُحبة الشيخ ومداومة الجلوس بين يديه، أو تكرار المجيء إليه»[48]، واللجوء إلى أحد الشيوخ في مستهل الطريق الصوفي أمر لا مَحيد عنه، كونه يخفف من آلامه القلبية، ويبدد أحزانه الداخلية، وهو السلوك نفسه الذي يتأدب به أغلب السالكين من المتصوفة.
بات من الواضح أن «القلب كالمعدة والمعدة بيت الداء، فإذا كثرت عليها الأخلاط مرضت وفسدت، وعلاجها الحمية من الأخلاط، كذلك القلب إذا كثرت عليه الهموم والخواطر، فسدت فكرته، وانطمست مرآته، وإذا قلت منه الهموم والخواطر سلمت فكرته والتصقت مرآته»[49]. فسفر القلب هذا ما هو إلا سفر معنوي، يتوجه فيه الصوفي الفاني إلى الحق سبحانه وتعالى مخَلِّفا وراءه تَرَفَ الحياة المادية وملذاتها، ويتحقق هذا السفر نحو حضرة علام الغيوب في أربعة مواطن:
أولا: يسافر السالك للطريق الصوفي من موطن الذنوب والغفلة إلى موطن التوبة واليقظة؛
ثانيا: يسافر من موطن الحرص على الدنيا والانكباب عليها إلى موطن الزهد فيها والغيبة عنها؛
ثالثا: يسافر من موطن مساوئ النفوس وعيوب القلوب إلى موطن التَّخْلية منها والتَّحْلية بأضدادها؛
رابعا: يسافر من عالم الملك إلى شهود عالم الملكوت، ثم إلى شهود الجبروت، أو من عالم الحس إلى عالم المعنى، أو من عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، أو من شهود الكون إلى شهود المكون؛
وعبر أنفاق الموطن الرابع الذي تتجلى فيه الأرواح وتنكشف فيه المحسوسات؛ ننتقل إلى سفر معنوي آخر، وهو سفر الرؤى والمشاهدات الصالحة التي تتحقق لسالك الطريق الصوفي حينما يداني آخر المقامات.
2 / سفر الرؤى والمشاهدة:
تُعد الرؤيا نوعا من أنواع الكرامات عند السالكين من أهل التصوف، وتحقيقها «خواطر ترد على القلب، وأحوال تتصور في الوهم إذا لم يستغرق النوم جمع الاستشعار، فيتوهم الإنسان عند اليقظة أنه كان رؤية في الحقيقة، وإنما كان ذلك تصورا أوهاما للخلق تقررت في قلوبهم، وحين زال عنهم الإحساس الظاهر تجردت تلك الأوهام عن المعلومات بالحس والضرورة فَقَوِيَت تلك الحالة عند صاحبها، فإذا استيقظ ضَعُفت تلك الأحوال»[50]، أما المشاهدة عند أهل التصوف فتعني «رؤية الأشياء بدلائل التوحيد ورؤيته في الأشياء وحقيقتها اليقين عن غير شك، والمشاهدة تطلق بإزاء ثلاثة معان: مشاهدة الخلق في الحق وهي رؤية الأشياء بدلائل التوحيد. ومنها مشاهدة الحق في الخلق وهي رؤية الحق في الأشياء، ومنها مشاهدة الحق بلا الخلق وهي حقيقة اليقين بلا شك»[51].
نجد الشخصية الصوفية الهائمة في لُجج المقامات تغيب في عتمة الرؤى والمشاهدات وتندس في غياهب الكشف عن علائق النفس وحل شفراتها الروحية. ويمكن القول إن الرؤية المنامية هي عين الولاية الصوفية، حيث يبدو جليا أن الشخصية المتأدبة بآداب الطريق، تسلك في سفرها قنوات المشاهدة التي تمكنها من رؤية الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يعني رؤية ذات الله حقيقة؛ وإنما التجَلِّى في صفات الحق وأسمائه، وما هذه الرؤيا إلا شكل من أشكال الصور المبشرة بدخول الرائي عالما مثاليا تشع فيه أنوار الحقائق الإلهية، فإذا كانت الرؤى ترتبط بعالم الوحي لدى الأنبياء، فإنها عند الصوفي تُعد ظاهرة رمزية تُمكنه من إدراك الأسرار الخفية، «فالسالك كلما كُشِفت له المقامات، نادته هواتف الحقيقة»[52]، من أجل أن يجتهد ويحول سفر الرؤيا هذا إلى يقظة، ثم إلى حقيقة كاشفة.
وقد تخرج نفس السالك، خلال هذا السفر، عن المعتاد لتناجي كوامنها في سفر منامي نوراني يستقطب ذات الله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر قد يستنكره بعض السالكين ممن يوجدون في بداية الطريق الصوفي؛ وهو الموضوع الذي تردد صدى حقيقتة في أغلب مصنفات أهل التصوف، حيث أجمعوا أن رؤية الله تعالى غير ممكنة، وما يمكن مشاهدته هو تجلي الصفات الإلهية في نفس المشاهد، لأن الحق سبحانه أوكل ملكا بالرؤيا؛ يسمى “الروح، وهو دون السماء الدنيا وبيده صُور الأجساد التي يدرك النائم فيها نفسه وغيرهن وصور ما يحدث من تلك الصور من الأكوان، فإذا نام الإنسان أو كان صاحب غيبة أو فناء أو قوة إدراك لا يحجبه المحسوس في يقظته عن إدراك ما بِيَد هذا الملك من الصور فيدرك هذا الشخص بقوته في يقظة ما يدركه النائم في نومه، وهذا ما يحصل مع كل سالك خاضع سطعت أمامه أنوار الألطاف الإلهية حتى أضحى ذاتا فانية و جسدا شفافا بدأ يدرك بحدسه الروحي صور الأكوان، ثم أخذ يرقى في صعود تدريجي إلى عالم الملكوت. فالرائي كما نعلم يعيش حالتين اثنتين: حالة النوم وحالة اليقظة، وما يبصره الإنسان في يقظته يسمى رؤية، وكل ما يبصره في النوم يسمى رؤيا.
فالرؤيا الصادقة في المعرفة الصوفية سر من أسرار النبوة الروحية التي لا يملك مفاتيحها إلا الصالحون والأولياء، والرؤيا كما أشرت إلى ذلك سابقا ترتبط بالحس وبالصور الرابضة في خيال السالك الصوفي، والمتواجدة بين عالم الشهادة وعالم الغيب، وأكاد أقول أن هذه الرؤى المبشرة تمثل سفرا تأويليا، غرضه كشف ما استبطن من الحقائق الإسلامية؛ إنها رؤى روحية يشاهد فيها السالك الذي بلغ درجة الولاية صورًا محسوسة مُدْرَكَة تعظم الحق، وتستجلي آيات ملكوته.
3 / سفر الكشف والمكاشفة:
إن السفر والاطلاع على خبايا العالم هاجس يراود الصوفي خلال تنقله بين المقامات، حتى يكون حاضرا في التجليات الإلهية، والكشف الصوفي خيال معرفي يَتَغَيَّا الاطلاع على سرائر الوجود ليرقى إلى سفر وسلوك داخل العالم، ولا أقصد هنا السفر في بعده الجغرافي، بل أقصد سفرا باطنيا يستجلي الأسرار الكونية. أما المكاشفة فتمثل نوعا من الإدراك المعنوي الذي يخص الأولياء من الصوفية الذين قطعوا منازل الطريق حتى بلغوا درجة اليقين وتجلى لهم العالم المحسوس، وأدركوا ببصائرهم أرواح الأنبياء والملائكة.
إن رؤية أرواح الأنبياء والرسل والملائكة في هذا السفر رموز مبشرة؛ تقوم على أساس وحدة العلاقة التي تربط بين السالك وربه برباط القرابة الروحية، إذ أن الصوفية أنفسهم يعتبرون «رؤية الملائكة جائزة للصالحين الذين وصلوا إلى مقام اليقين ففتح الله عين البصيرة في القلب والتي بها يروا عالم الأنوار المحيطة بالإنسان، فالدنيا عالم كثيف لا يراه الإنسان إلا بهذه العين الحسية فيرى المادة والجماد، أما عين الروح فإنها ترى المعاني وعين القلب ترى الأنوار، فكل ما هو من عالم الأنوار كالملائكة يراها أهل القلوب»[53]، والسالك حينما يصبح بدوره من أهل القلوب، يؤكد على أنه بدأ يشارف على نهاية الطريق الصوفي متحررا من قيود الزمن داخل سفر منفتح كاشف بِمِسْلاطه طريق المقامات والمعاملات، وهذا يعني أن «الطريق الصوفي يقتضي ألا يكون الكشف عملية كلية تتم دفعة واحدة، وإنما يرتبط بلحظات وعمليات، فزمانيته تتحول تماما كتحول الأماكن والمشاهد»[54].
فالكشف الصوفي يكسر في رحلته «حلقات الزمن، لأنه ينتقل من حلقة إلى أخرى عبر وثبات أو قفزات مفاجئة، ولم يكن فقط سفرا عاديا مكانيا أو زمانيا، بمعنى مجرد انتقال من مكان إلى آخر ومن لحظة إلى أخرى، بل كان سفرا متجددا، فهو يلقي الصوفي داخل مجالات يجهلها، بمعنى أنه لم يعايشها قط، وبالتالي كان حضوره مع تجليات الحقيقة دائما ومتناهيا»[55].
وعلى هذا الأساس فسفر الكشف الصوفي يُجْهل بدايته، كما يُجهل نهايته، لكن حين يدرك المسافات الفاصلة بين نقطتي البداية والنهاية، لحظتها يتحسس الهدف؛ وهو معرفة الحق سبحانه وتعالى والتحلي بصفاته والتجمل بأخلاق أنبيائه من خلال ممارسة الرياضات. إن ما يصور أحوال أهل الطريقة ودرجات التطهير الروحي التي يبلغونها خلال رحلتهم الكاشفة يتقيد بثلاثة حدود أساسية:
- يتقيد بأشكال الوجود، لأنه يُعَدُّ ممارسة داخل العالم، وحتى حينما يقصد اكتشاف أسرار الألوهية، فإنه يربط تلك القصدية بمجال العالم وموجوداته؛
- يتقيد بالإمكان لا بالمطلق، فهو لا يرقى بذاته إلى مستوى الحقيقة الكونية المطلقة، لأن الصوفي يعتبر معارفه نسبية وممكنة مادام مجالها هو الإمكان ذاته؛ إنه عالم الأشكال الوجودية؛
- يتقيد بالتحول والتجدد تبعا لتجدد التجليات الإلهية؛ من هنا كان أيضا لا متناهيا ومفتوحا.
4 / سفر الخلوة والعزلة:
الخلوة أعلى المقامات التي يرقى إليها السالك، وهي بمثابة «المنزل الذي يعمره الإنسان ويملؤه بذاته فلا يسعه معه فيه غيره، فتلك الخلوة ونسبتها إليه، ونسبته إليها نسبة الحق إلى قلب العبد الذي وسعه ولا يدخله وفيه غير بوجه من الوجوه الكونية فيكون خاليا من الأكوان كلها فينظر فيه بذاته»[56]، هكذا عرف ابن عربي الخلوة معتبرا إياها منزلا يُعمر بذات السالك لا بذات غيره، وقد اشترط لها شروطا قائلا: «فمن شروط الخلوة في هذا الطريق؛ الذكر النفسي لا الذكر اللفظي، فأول خلوته الذكر الخيالي وهو تَصَوُّر لفظة الذكر من كونه مركبا من حروف رقمية ولفظية يمسكها الخيال سمعا ورؤية فيذكر بها من غير أن يرقى إلى الذكر المعنوي الذي لا صورة له وهو القلب»[57]. وبذلك، فإن الطريق إلى الخلوة يراهن على استحضار القلب والذكر الخيالي في لحظات الانقطاع عن العالم المادي.
كان السفر إلى الخلوة بالنسبة للسالك هو مفتاح الولاية، فباعتزاله الناس تنصهر أمامه الحقائق الإلهية، وتُنْحَت في نفسه أسماء وصفات الله تعالى، لينعطف بذلك بين سفوح الولاية حتى ينتقل من مجرد سالك إلى عبد مفعم بالربانية، قادر على تحقيق السمو النفسي وإدراك قبس من الكرامات الصوفية التي لا تتأتى إلا من خلال اعتزال الناس ومجاهدة النفس.
انطلاقا مما أورده ابن عربي، فالخَلوة ثلاثة أنواع: خلوة في سبيل طلب علوم الكون، وخلوة للسفر عن شهوات النفس، ثم خلوة اعتزال الناس والأهل، حتى يسلم منهم ويسلموا منه؛ وهي خلوة عامة أهل الطريق التي لا تلبث إلا قليلا حتى تتحول إلى رياضة وانقطاع عن المألوفات من الأنس بالخلق، والخَلوة أيضا طقس من الطقوس التي مارسها أهل التصوف، حتى أضحت بالنسبة لهم بابا من أبواب مجاهدة النفس وترويضها، وهي ليست كالرَّهْبنَة المسيحية، من حيث كونها عزلة تامة عن الحياة، وعزوف عن الزواج وغير ذلك من ملذات الحياة الدنيا، فالخلوة الصوفية محكومة بفترة معينة، يحددها الصوفي، وقد تكون شهرا أو أقل أو أكثر حتى تحصل له القُرْبة الإلهية ويتحقق في النفس اليقين بأن الدنيا فانية وذات الله تعالى باقية.
5 / سفر الفناء:
إن المعرفة الصوفية يمكن أن تتحقق بشرط أن يعيشها الصوفي كرحلة داخل العالم، ما يجعله يشعر بالحيرة التي تفصل بين مستوى العلم والمعرفة، ومستوى ما بعد المعرفة، وهو ما يسمى بالفناء. إن تواتر الحيرة وسيادة الشك تحملان الصوفي من فضاء الكشف إلى نحو عالم الفناء؛ وهو ما «سيدفع العارف الصوفي إلى أن يتجاوز مقام المعرفة وأن يتحقق بمقام آخر سيفرض عليه نوعية جديدة من العلاقات بالطبيعة والوجود والحقيقة»[58]؛ حيث سينتقل الصوفي من عالم الخلْق إلى عالم الجمال المطلق متجردا بذلك عن كل ما بقي راسبا من أهواء النفس.
إن الصوفي «حينما يصطدم بمقام الحيرة يطلب تجديد علاقته بالألوهية والعالم ضمن أفق مغاير لأفق الكشف والمعرفة، غير أنه لا يفرض هذا على الآخرين، وإنما يلتزم به شخصيا إحساسا منه بأنه يلتقي به في غمار تجربة متفردة وخاصة»[59]؛ هي تجربة الفناء التي تسدل الستار عن ثلاثة أبعاد أساسية تترجم ما يؤول إليه السالك:
- «بُعْدٌ جمالي يكشف على أن الصوفي يطور تجربة الفناء من خلال نظرة جمالية عن العالم والإنسان والألوهية، تنضاف إلى النظرة الرمزية التي أقامها الصوفي عن الوجود؛
- بُعْدٌ يرتبط بنزعة الحب والعشق التي تجمع بين الصوفي وبين الألوهية والطبيعة وكائناتها، ويتولد هذا البعد عن إحساس الصوفي بجمالية العالم والطبيعة؛
- بُعْدُ الإغتراب والرحلة الذي يكشف عن إحدى الخاصيات الأساسية التي تميز الفناء، هي الحياة على الهامش الاجتماعي»[60]، لهذا ليس من الغريب أن نجد الصوفي في رحلته نحو الفناء يعاني آلاما حادة وغربة مريرة ناتجة عن الاصطدام بخيبات الأمل التي يشعر بها الصوفي حينما يتعذر عليه الوصول إلى درجة الصفاء الروحي، إما لتقصيره في العبادات والمجاهدات وإما لإغفاله إحدى المقامات في الطريق.
6 / سفر الانعطاف نحو دهاليز الولاية:
الولاية «هي العلامة الكبرى على القرب والوصول، والثمرة الطيبة بعد السفر الطويل عبر مراحل الطريق الصوفي»[61]، وهي الساحة الشاسعة التي يتولى فيها الله تعالى من شاء من عباده حسب درجاتهم ومراتبهم، ويرى الإمام الجيلاني أن الولاية “منحة إلهية” «يختص بها الله تعالى بعض المتقربين إليه من عباده»[62]،
فالصوفي «قد يجد شبح الولي في القلب الخالي من كل شيء، وقد يجد تحت الأنقاض الكنز المخفي وينادي في نشوته مهللا: ما لم أجده أبدا قد وجدته في الإنسان، والمتصوفون المتحمسون الذين بلغوا تلك الحال ظواهرهم قد نتج عنها شعور بوحدة شاملة لكل شيء قد يبعث في الأذهان انطباعا بأن الحدود بين الإنسان والله قد نُسيت، ونظريات ابن عربي تعاضد ذلك، ومع ذلك فالرب يبقى ربا، والعبد عبدا، وهذا هو الموقف المقبول في الصوفية المعتدلة»[63].
من خلال السفر الروحي والملكوتي؛ نجد الصوفي غالبا ما يقيم علاقة جدلية بين الخالق/ الكامل والمخلوق/الكائن الضعيف الذي يطمح إلى تحقيق الكمال من خلال العروج أو «السعي للانسلاخ من ماديته المبتذلة الملوثة بالحجب الشيطانية إلى ماديته المُكْرَم بها من الله والتي هي في حقيقتها تتويج إلهي لإكمال دوره في الحياة الدنيا والمتمثل بالاقتداء بالمنهج النبوي في الحياة و الملخص ب: لا إفراط ولا تفريط في المأكل والمشرب والحاجات الدنيوية الأخرى وهذه القاعدة لا تنطبق على الحياة المادية بل لها الأثر والأهمية عينها في الحياة الروحية»[64].
إن الصوفي من خلال أسفاره الروحية والملكوتية يسعى للوصول إلى الحق سبحانه وتعالى والاتحاد معه من غير الممازجة؛ بل من خلال التحلي بصفاته والحنين إليه، هذا الحنين هو ما يعمق بحث الصوفي ويدفعه للسفر عبر قنوات الرؤى والمشاهدات والمكاشفات من أجل تحقيق اتصال وجودي مباشر مع معالم الجمال الإلهي، أما سفر الفناء عند الصوفي فيجسد محاولة لاستئصال ما ترسب من كادورات في نفس الصوفي قصد العودة به إلى أصله الأزلي.
لهذا ليس من الغريب أن نجد الصوفي في إحدى محطات الطريق يُوثِر الخلوة عازفا عن العباد والأهل، وملتمسا في عتمة الفراغ أنوار الألطاف الإلهية، وهي محاولة أخرى للتأمل وتطهير القلب من بقايا المادة، لأن الإنسان «إذا عبد ربه في مثل هذه الأرض وجد أُنسا من تلك الوحشة التي كانت له في العمران، ووجد لذة وطيباً في قلبه وانفراده، وذلك كله من أثر نفس الرحمن الذي نفس الله به ما كان يجده من الغم والضيق والحرج في الأرض المشتركة»[65]، ثم إن الصوفي إذا خرج من خلوته رأى العلامات الكبرى الدالة على عظمة الله سبحانه، وانجلت عن نفسه علامات الحيرة والقلق.
المبحث الثالث: السفر في بعده الجغرافي:
بَعْد سياحة طويلة في مَراتِع كتب أهل التصوف، نجدهم يمجدون نوعا آخر من الأسفار إلى جانب السفرين الكوني والروحي؛ وهو السفر الجغرافي الذي امتدت رُقْعَتُه ليشمل جميع السالكين، وبين جَنَبات هذا الامتداد تَدِبُّ حركة غير عادية لتَخْترق حاجز المسافات النائية بهدف رصد حَلَقات المنظومة الإلهية التي تُوَجِّه الكون بأسره، وتقود الطبيعة والحياة البشرية. فمنذ خلق الله تعالى الإنسان ورُوحُ السفر تدب في عروقه، وفُضُول كشف المجهول يُحرِّك سواكنه ويهزّ كيانه، خصوصا أن بدايات التنقل الأولى كانت خجولة، ووسائل الاتصال شبه بدائية، عكس العصر الراهن الذي يُخَوِّل للمسافر التَّنقُّل بين مختلف الأقطار والبقاع تنقلا يسيرا، أو بكبسة زر واحدة إذا كان سفره إلكترونيا.
إن السفر الجغرافي بالنسبة للصوفي يُعَدُّ محاولة منه لإخراج الذات من بَوْتَقة المتناقضات والتفكير الضيق؛ بهدف التحرر والانعتاق من قيود العدم، لهذا ليس من الغريب أن نجد الصوفي في سفر دائم، يهدف من خلاله إلى نزع أصفاد المُكوث والثبات عن الأماكن التي لَطالما أَلِفَها. إن للصوفي رغبة مَلحَّة تُحفِّزه على السفر من أجل تجديد الاتصال بالكون وإمعان النظر في آيات الله ومظاهر إعجازه، ثم إن للصوفي قناعات مفادها أن السفر هو المخرج الوحيد للهروب من حالة الشك التي تَتَلبّسه، ولا سبيل للوصول إلى اليقين إلا من خلال انتفاضة السفر والثورة على المادة الراكضة في أعماق القلب التي أفقدته السكينة وقَلَبَت معدنه.
فالصوفي يتوسل بالسفر من أجل وضع أرصفةٍ لطريق السالك الذي يقطعه بالرياضات والمجاهدات والمعاملات حتى يبلغ ذروة اليقين، وتَنْداح في صدره كل شرارات الشك. ولا ينبغي أن نعتقد أن السالك يَهُبُّ لقطع المسافات بهدف الاستجمام، أو لأغراض ترفيهية، بل إن للصوفي أسفارا مكانية خاصة به محددة الأهداف والمرامي، ومن الممكن أن تتقاطع مع أسفاره الروحية التي ذَكرتُها سابقا؛ كالسفر إلى بيت الله الحرام، أو السفر في سبيل تحصيل العلوم، أو السفر من أجل زيارة الشيوخ وأهل العلم، كذلك سفر الهروب بالبدن خوفا من الإِذايَة…وغيرها. ولعل السفر في سبيل تحصيل العلوم النافعة هو هم جميع السالكين الملتزمين بأخلاقيات الطريق الذين يترجمون الرغبة المُلحة للصوفي في تحقيق ما ينشده من أهداف وما يرسمه من غايات بغية انتقاله انتقالا سلسا بين المقامات والأحوال.
أضحى للصوفي يقين بأن أول باب يُقرع في طريق المعاملات هو باب العلم، ولا سبيل إلى الوصول إلا من خلال السعي وراء طلب العلوم النافعة وتحصيلها. كما أن الصوفي يسعى دائما إلى السمو والارتقاء إلى عالم الروحانيات حتى تتجلى له آثار نفسه مرسومة في الأفق الأعلى، لهذا نجد السالك يلجأ في كل مراحل حياته إلى تزكية نفسه وتطهيرها حتى يفوح منها أريج الإلهامات، وإن شئت قلت: إن علم النفس كان عند أهل التصوف علما «يهدف إلى غاية أخلاقية؛ هي تهذيب النفس بتعويدها الفضائل الأخلاقية على اختلافها، فلم يكن علم النفس عندهم إذن مستقلا أو موضوعيا كما هو الشأن في العصر الحاضر»[66]، ويرى الإمام الغزالي أن «غاية الطريق الصوفي الترقي الخُلُقي بالمجاهدة للنفس، وإحلال الأخلاق المحمودة محل المذمومة؛ حتى يصل السالك إلى المعرفة بالله»[67]، ولتحقيق هذا الوصول يسعى الصوفي جاهدا لبلوغ درجات المعرفة التي سَتُعينُه على ذلك، فيكون لجوؤه إلى حلقات العلم أمرا لا مفر منه تُمْلِيه عليه قواعد التصوف.
أما العلوم التي يسعى السالك إلى تحصيلها، فلا يجب أن تخرج عن إطار الشريعة الإسلامية؛ وذلك لإيمان الصوفي بأن العلم أول ما فَرضَه الله على خَلْقه مصداقا لقوله تعالى:﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾[68]، بل أكثر من ذلك نجد الصوفية يفَرِّقون بين العلم والمعرفة؛ فالعلم عند أهل التصوف يتجلى في معرفة الظاهر من أمور الشريعة، أما المعرفة فتمثل «العلم اللَّذُني بدقائق الحقيقة التي تتجلى لأهل القرب، وهذا ما أشار إليه الصوفية بقولهم: إن العلم علمان؛ الأول بذل المجهود والآخر من عين الجود…ويريدون بذلك العلم الأول علوم الشريعة التي تستلزم المجاهدة، أما العلم الثاني فهو يُلقي في القلب إلهاما ومكاشفة»[69]. ويرى الإمام الجيلاني أن العلم الأول المفروض على العباد يقوم على أركان ثلاثة: «الركن الأول؛ إثبات الصفات الإلهية باسمها دون تشبيه بصفات الخلق، فهو الله سميع بصير لا كسمع الخلق وبصرهم، وإنما كما أخبر عن نفسه بقوله: ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦشَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾[70]، والركن الثاني؛ هو نفي التشبيه دون تعطيل، فلا يقع العبد في المَحضور الذي سقط فيه المُعطِّلة حين أرادوا تنزيه الله، فعطَّلوا الصفات الإلهية. أما الركن الثالث الأخير؛ فهو الوقوف على شاطئ بحر التأويل الذي غرق فيه المُتعمّقون الذين اشتغلوا عن العلم النافع المفروض بعلم لم يُؤمروا به ولم يتصل بهم إلا لاستهلاك العقل والدين»[71]، فإذا وَجَد السالك في نفسه القدرة على استكمال هذه الأركان انصرف إلى تحصيل المعارف الدينية عن طريق تَلَقُّفِها من أفواه العلماء وأهل العلم والتفسير؛ لا عن طريق الخوض في التأويل المغلوط. ولأجل تحصيل المعارف الصوفية، يخوض الصوفي غمار معركة السفر بين الأماكن معانقا مجالس الشيوخ، مُلتمسا في عتمة التنقل ووحشة النأي ما يُغذّي جوع معرفته؛ ولا يخلو السفر في بعده الجغرافي من التردد على البقاع الكريمة والأماكن المنعزلة، التي يلتمس فيها الصوفي أنوار الحقيقة واليقين وينشد فيها سُبُل الهداية والولاية الكبرى.
خلاصة:
لقد أسفر السفر عند أهل التصوف عن حركة الظاهر، لكنه أضمر في الأعماق معارف ونظريات أهل الطريق القائمة على الكشف والإلهام، أو ما يصطلح عليه بالإشراق الذي يُعدّ الباعث الأساس على حركة الترقي الروحي والسفر الملكوتي، وفي خضم هذه الحركة يطمح الصوفي إلى تطهير النفس من رواسب المادة الراكدة في بواطن الدّواخل عن طريق تسلّحه بالمعرفة الصوفية، التي تقوم على التّوحيد المُطلق المُجَسَّد في معرفة صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى.
وحتى في غربة الفناء والانسلاخ عن الذات، تجد الصوفي مستغرقا في المشاهدات والمكاشفات، تاركا عالم المادة التي غرق فيها أمدًا طويلا، وقد يتنبّأُ الصّوفي في غمرة الأحداث بأنه أَوْشَك على الفانية، وهو الأمر الذي يشعره بحبور السفر الأخير إيمانا منه أن الموت هو آخر الأسفار إلى الرحمن.
إن السفر الصوفي في بعديه الروحي والمكاني لا يغدو مجرد مطية للترحال فحسب، بل هو توثيق لتفاصيل اللحظات التي عاشها الصوفي بكل دقائقها، وبجميع ما انطوى تحت جُبّة أوقاته من وصف للحواضر وللحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ضف إلى ذلك العبر والرسائل الروحية التي يمررّها من خلال خطاباته.
لائحة المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
المصادر: - ابن عربي محيي الدين:
- الإسفار عن نتائج الأسفار، دار المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن،1367 هـ/1948م.
- الإسراء إلى المقام الأسرى، تحقيق سعاد الحكيم، دار دندره للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت.
- الفتوحات المكية، ضبطه وصححه ووضع فهارسه، أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1420 هـ 1999م، ج4/ج3.
- ابن قيم الجوزية: الروح حققه وقدم له وعلق على حواشيه محمد اسنكدريليدا،دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،ط1،1982.
- ابن منظور: لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، لبنان بيروت،1419 هـ/1999م،ج 6
- أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع،ج3.
- أحمد بن محمد بن عجيبة: الفتوحات الإلهية، راجعه وحققه وقدم له خادم المسلمين عبد الرحمن حسن محمود، دارعالم الفكر، (الطبعة والسنة غير واردتين).
- الجرجاني علي بن محمد:معجم التعريفات، تحقيق ودراسة محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة، القاهرة،(سنة الطبع غير واردة).
- الجيلي عبد الكريم بن إبراهيم: الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأنوار،المتين،وهو رسالة الأنوارلابن عربي، والشرح وهوالإسفارللشيخ عبد الكريم الجيلي، ضبطه وصححه وعلق عليه الشيخ الدكتور عاصم إبراهيم الكيالي الحسني الشاذلي الدرقاوي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 2004 م، ص 69.
- سعاد الحكيم: المعجم الصوفي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1/1401، هـ/1981.
- شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت: معجم البلدان، دار صادر بيروت، المجلد الثالث(السنة والطبعة غير واردتين).
- الغزالي أبو حامد: إحياء علوم الدين، دار المنهاج للنشر والتوزيع، ط1، 1432ه/2011م.
- القشيري أبو القاسم: الرسالة القشيرية، تحقيق عبد الحليم محمود والدكتور محمود بن الشريف، مطابع مؤسسة دار الشعب، القاهرة، 1989.
- مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، أشرف على إخراج هذه الطبعة، شوقي ضيف، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الرابعة، 2004.
المراجع:
- آنا مارشيمل: الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، ترجمة محمد إسماعيل السيد رضا حامد قطب، منشورات الجمل، بغداد، الطبعة الأولى.
- ابن بريكة محمد: التصوف الإسلامي من الرمز إلى العرفان، دار المتون للنشر والترجمة، الطبعة الأولى 2006.
- أبو الوفا الغنيمي التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة،القاهرة.
- أسماء خوالدية:الرمز الصوفي بين الاغتراب وبداهة الإغراب قصدا، منشورات ضفاف، دار الأمان، ط1، 2014.
- شريف هزاع شريف نقد / تصوف،مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى2008.
- فوزي محمد أبو زيد: سياحة العارفين، دار الإيمان والحياة، مصر،الطبعة الأولى2010.
- ماهر أحمد الصوفي: الموت وعالم البرزخ، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، 2011.
- محمد زيدان يوسف: الطريق الصوفي وفروع القادرية بمصر، دارالجيل بيروت، الطبعة الاولى،1991.
- منصف عبد الحق: أبعاد التجربة الصوفية الحب ـ الإنصات ـ الحكاية، افريقيا الشرق، 2007.
- نذير العظمة: المعراج والرمز الصوفي، قراءة ثانية للتراث، دار الباحث(السنة والطبعة غير واردتين).
- يوسف محمد طه زيدان: الطريق الصوفي وفروع القادرية بمصر، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى1991.
- 1. هو محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي الشهير بمحيي الدين بن عربي، أحد أشهر المتصوفة، لقبه أتباعه وغيرهم من المتصوفة الشيخ الأكبر، ولذا تنسب إليه الطريقة الأكبرية الصوفية. ولد في مرسية الأندلسية شهر رمضان عام 560هـ. وتوفي في دمشــــــــق عام 638هـ. كان أبوه من كبار قادة جيش ابن حاتم شرق الأندلس.(ينظر بحوث حول كتب ومفاهيم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي لعبد الباقي مفتاح، دار الكتب العلمية، 2011، ص12)
- 2. ابن عربي محيي الدين: الإسفار عن نتائج الأسفار، دار المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، 1367 هـ/1948م، ص26.
[3]. الجرجاني علي بن محمد: معجم التعريفات، تحقيق ودراسة محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة، القاهرة، ص 103.
[4]. ابن منظور: لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، لبنان بيروت، 1419 هـ/1999م، ج 6، ص277.
- 3. أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ج3. ص 82.
[6]. مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، أشرف على إخراج هذه الطبعة، شوقي ضيف، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الرابعة، 2004، ص 432.
[7]. شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت: معجم البلدان، دار صادر بيروت، المجلد الثالث، ص 224.
[8]. سورة الجمعة الآية 5.
[9].مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، أشرف على إخراج هذه الطبعة، شوقي ضيف، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الرابعة، 2004، ص433.
[10]. سعاد الحكيم: المعجم الصوفي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1401، هـ/1981م، ص580.
[11].سعاد الحكيم: المعجم الصوفي، المصدر نفسه، ص580.
[12]. ابن عربي: الفتوحات المكية، ضبطه وصححه ووضع فهارسه، أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1420 هـ 1999م، ج4، ص 19.
[13]. ابن عربي: الفتوحات المكية، المصدر نفسه، ص 18.
[14]. أي ببدنه.
[15]. القشيري أبو القاسم: الرسالة القشيرية، تحقيق عبد الحليم محمود والدكتور محمود بن الشريف، مطابع مؤسسة دار الشعب، القاهرة، 1989 ص479.
[16]. القشيري أبو القاسم، نفس المصدر والصفحة.
[17]. ابن عربي: الفتوحات المكية، ج3. ص440-441.
[18]. ابن عربي: الفتوحات المكية، المصدر نفسه، 4، ص 19.
- 2. أسماء خوالدية: الرمز الصوفي بين الاغتراب وبداهة الإغراب قصدا، منشورات ضفاف، دار الأمان، ط1، 2014، ص70-71.
[20]. ابن عربي: الإسفار عن نتائج الأسفار، مصدر سابق، ص3.
[21]. ابن عربي: الإسفار عن نتائج الأسفار، المصدر السابق، ص 8.
[22]. الغزالي أبو حامد: إحياء علوم الدين، دار المنهاج للنشر والتوزيع، ط1، 1432هـ/2011م، ص 712.
[23]. سورة النجم، الآية 9.
[24].سورة النجم، الآية 9.
[25]. الجرجاني علي بن محمد: معجم التعريفات، مصدر سابق، ص103.
[26]. محمد زيدان يوسف: الطريق الصوفي وفروع القادرية بمصر1، دار الجيل بيروت، 1991 الطبعة الأولى، ص 119
[27]. الجيلي عبد الكريم بن إبراهيم: الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلى لأهل الذكر من الأنوار، ضبطه وصححه وعلق عليه الشيخ الدكتور عاصم إبراهيم الكيالي الحسني الشاذلي الدرقاوي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 2004 م، ص 69.
فوزي محمد أبو زيد: سياحة العارفين، الطبعة الأولى، دار الإيمان والحياة، 2010، ص4..[28]
فوزي محمد أبو زيد: سياحة العارفين، الطبعة الأولى، دار الإيمان والحياة، 2010، ص4..[29]
فوزي محمد أبو زيد: سياحة العارفين، ص 5..[31]
نذير العظمة: المعراج والرمز الصوفي، قراءة ثانية للتراث، دار الباحث، ص40(بتصرف)..[32]
نذير العظمة: نفس المرجع والصفحة..[33]
[34]. ابن عربي: الإسراء إلى المقام الأسرى، تحقيق سعاد الحكيم، الطبعة الأولى، دار دندره للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ص27(بتصرف).
[35]. ندير العظمة: المعراج والرمز الصوفي، ص52.
نذير العظمة: نفس المرجع ص45..[36]
نذير العظمة: المعراج والرمز الصوفي، مرجع سابق،. ص53..[37]
ماهر أحمد الصوفي: الموت وعالم البرزخ، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، 2011، ص25..[38]
[41]. ابن قيم الجوزية: الروح حققه وقدم له وعلق على حواشيه محمد اسنكدر يليدا، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1982، ص51.
ابن عربي: الإسفار عن نتائج الأسفار، مصدر سابق، ص5..[42]
[43]. منصف عبد الحق: أبعاد التجربة الصوفية الحب ـ الإنصات ـ الحكاية، افريقيا الشرق، 2007، ص38.
[44]. أحمد بن محمد بن عجيبة: الفتوحات الإلهية، راجعه وحققه وقدم له خادم المسلمين عبد الرحمن حسن محمود، عالم الفكر، ص58.
[45]. ابن بريكة محمد: التصوف الإسلامي من الرمز إلى العرفان، الطبعة الأولى، دار المتون للنشر والترجمة، 2006، ص301..
ابن بريكة محمد: (م، نفسه)، ص 301، (بتصرف)..[46]
ابن بريكة محمد: (م، نفسه)، ص301. .[47]
ابن بريكة محمد: التصوف الإسلامي من الرمز إلى العرفان، ط1، دار المتون للنشر، ص 106..[48]
ابن بريكة محمد: نفسه ص 106..[49]
القشيري أبو القاسم: الرسالة القشيرية، مصدر سابق، ص605..[50]
[51]. ابن عربي: الفتوحات المكية، مصدر سابق، الجزء الرابع، ص185.
فوزي محمد أبو زيد: سياحة العارفين، دار الإيمان والحياة، مصر 2010، ص110..[52]
فوزي محمد أبو زيد: سياحة العارفين، دار الإيمان والحياة، مصر 2010، ص119..[53]
منصف عبد الحق: أبعاد التجربة الصوفية أفريقيا الشرق، المغرب، 2007، ص 28..[54]
منصف عبد الحق: أبعاد التجربة الصوفية، نفسه، ص 29..[55]
ابن عربي: الفتوحات المكية، مصدر سابق، الجزء الثالث، ص 225..[56]
ابن عربي: الفتوحات المكية، مصدر سابق، الجزء الثالث، ص 228..[57]
منصف عبد الحق: أبعاد التجربة الصوفية، مرجع سابق، ص 39..[58]
منصف عبد الحق: أبعاد التجربة الصوفية مرجع سابق، ص 40..[59]
منصف عبد الحق: نفسه ص 40، ص41.[60]
[61]. يوسف محمد طه زيدان: الطريق الصوفي وفروع القادرية بمصر، دار الجيل، بيروت، ص114.
يوسف محمد طه زيدان: نفسه، ص 124..[62]
آنا ماري شيمل: الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، مرجع سابق، ص 219..[63]
شريف هزاع شريف نقد / تصوف، ط،1، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2008، ص 242..[64]
ابن عربي: الفتوحات المكية، مصدر سابق، الجزء 3، ص 441..[65]
[66]. أبو الوفا الغنيمي التفتزاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الثالثة، ص 104.
أبو الوفا الغنيمي التفتزاني، المرجع نفسه، ص 169..[67]
[69] يوسف محمد طه زيدان: الطريق الصوفي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، ص 25..[69]