منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

أعطني رغيفة بالعسل

أعطني رغيفة بالعسل/ذة. فدوى المصباحي

0

أعطني رغيفة بالعسل
ذة. فدوى المصباحي
خريجة مدرسة علوم المعلومات

بدأت سنة التحضيري في أجواء حيوية وقد تولت أمرنا أستاذتي مليكة، وبدأت إزاء ذلك أيام الأنس بالأصدقاء، بعد أن توثقت بيننا أواصر المودة وموجبات الألفة والإخاء، من لعب وحديث ومزاح.

سعاد صديقتي التي تجالسني على الطاولة. نتقاسم الحلو والمر، ولا نكاد نفترق طوال الدوام المدرسي.

بديعة فتاة هادئة الطبع دائمة الابتسام. أتت لتوها من الحسيمة وقد استقرت مع أسرتها بالعرائش. لم تكن في قسمي لكن كانت تعجبني رفقتها. ما إن يعلن با عمار موعد الاستراحة حتى أسرع مع بشرى وسعاد وسناء إلى الساحة، وتطل بدورها بخديها الحمراوين وجسمها المكتنز، وعينيها الدعجاوين.

يروقني حديثها بلكنتها الريفية الجميلة وهي تحثني قائلة: _أنت لا تأكلين الخبز، انظري إلى نفسك، جلد على عظم! ثم تلتقط بأصبعيها الجلد على ظاهر يدي النحيلة لتثبت لي صواب رأيها. كنت أؤكد وأقسم لها أني آكل أكثر منها، لكنها لم تصدقني قط، بل تصر قائلة: _عليك أن تكوني ” صحييييحة” مثلي وتظهر عليك أثر النعمة!. كانت “الصحة” في فهمها هو أن تكتنز لحما وتطبق شحما، أما العجفاء فلا خير فيها. كم خشيت أن يتحول ذلك إلى ذريعة للهمز واللمز وأن تلصق بي إحدى الصفات من جراء نحافتي. كريم ينعتني بالنصرانية، ولم يكن ذلك يغضبني كما لا أغضب ممن يصفني ب “التشاطا”، ولا من الأستاذ سي المقدم حين يناديني “خنفوشتي يا خنفوشتي”. كانت رؤيته تفرحني وتثلج صدري، حين يأتي لزيارة المدرسة البلدية من حين لآخر بعدما ترك التدريس فيها.

ساحة المدرسة مكان للانفساح والانشراح، إذ تزينت برونق أشجار الميموزا، وزهيرات السنط التي تتضوع من أرجها الأنحاء، تسر الناظرين بصفرتها الفاقعة.

في الفسحة، اللعب و الأكل سيدا الموقف. كنت أبتلع ما عندي لكن سرعان ما أشعر بالجوع وتباريحه، وخمص البطن وتكاليفه، وكأني لم أذق طعم الزاد. ويزداد الأمر سوءا حين أشم رائحة الطبخ القادمة من المطعم، حيث مي الموساوية التي توثبت همتها وهي تترأس عملية تحضير الغذاء.

محسن تلميذ دائم المرح أكول إلى حد النهم، معتدل المزاج. ما إن يدق الجرس حتى يخرج من القمطر علبة حليب هرمية الشكل، ذات الربع لتر ومادلينا كبيرة، وقطعة خبز مضمخة بالجبن أو الزبدة. ثم يستزيد مما فضل عن أخته مريم.

ذات يوم من بداية أكتوبر، كنا في أول حصة حينما شممنا رائحة الرغايف المقلية بعد أن أصدر سي أمزيان تعليمات بتوزيعها على التلاميذ أثناء الاستراحة. لقد فاحت نكهتها وكأنها ذكوة ألهبت النزعات وأسالت اللعاب.

اصطففنا أمام الباب الثانوي للمطعم كما أمرنا با عمار، الرجل الطيب الذي نتسابق لتقبيل يديه من شدة حبنا له، وكأننا نؤدي طواعية فروض الطاعة والولاء. صديقتي سعاد بجانبي، وبديعة على مرأى مني، والرغايف الشهية تقلى وتدهن بالعسل، وقد مدت الأيدي واتسعت الأحداق واشرأبت الأعناق والكل يطمح أن يحظى بنصيب منها. ما عدا بعض التلاميذ الذين زهدوا في هذا الصنف من المأكولات وآثروا اللعب واللهو. أما سامية أميرة القسم، ست الحسن التي تلفها النضارة والرواء، وتتحلق بها هالة الغموض من فرط هدوئها، فتكتفي عادة ببعض الكعك.

بدأت مي الموساوية بتوزيع ما جهز على دفعات، فلا نحظى بنصيب منها. وفجأة لاحظت غياب سعاد وبديعة. لا شك أنهما ذهبا إلى القسم بعد أن أيسا من الأمر . وما هي إلا لحظات حتى وجدت سعاد بجانبي وآثار الزيت والعسل على شفتيها، وفتات الرغيفة على ذقنها. سألتني : _ألم تأكلي شيئا؟!. هي التي اختفت ولم تسأل عني في محنة جوعي إلا بعد أن انتهت من الأكل. أما بديعة فقد ذهبت لغسل يديها الملطختين بالعسل. لم تظهر في مجال بصري ولم ألتق بها إلا في استراحة المساء وقد تبحبحت وغدت ترفل في النعماء وهي تتحدث عن محاسن الرغيفة ولذة الرغيفة، بينما سعاد تدور حول نفسها من شدة الحبور، بفستانها المفضل الذي كانت تسميه ” الكسوة د الريح”. لقد كان أول عهدي بغدر الأصدقاء.

في المساء، وفور خروجي من القسم، توجهت إلى المطعم ووقفت عند الباب. سألتني مي الموساوية: _هل تريدين ” الميريندا”؟ أجبتها: _أرجوك أريد رغيفة بالعسل، هل مازال عندك منها؟، أجابتني: كلا، لكن ادخلي وكلي بعض المعكرونة بالحليب أو قطعة خبز ب منطيكيا وكوبا من الحليب. لقد عاملتني بلطف رغم طبعها الشديد وقوة شكيمتها. فضلت أن آخذ الخبز بالزبدة عساه يخفف مزاجي العكر، والتهمته في طريقي إلى البيت وأنا أجر أذيال الخيبة والخذلان.

في أيامنا الخوالي، كان الباعة يتراصون قرب باب المدرسة، بما لذ طعمه وطاب زرده ورخص ثمنه. بائع جبان بقطعته الخشبية الأسطوانية، وعلى غراره بائع فاكهة الزفزوف المغلفة بالكاراميل. “الزريعة” نجمة الأمسيات، وغزيل البنات، والفول الذي نأكله هنيئا مريئا من يد مي البقالية، والشامية، وكاليينطي الذي همت به منذ زماني القديم.
أما يوم الرغايف المعسلة فقد تكرر عدة مرات على مدى السنة، ولم أفز يوما بواحدة. وإن جرت العادات بإعداده في الأعياد والمناسبات، فلا زلت أرنو إليه كسالف دأبي وديدني.. والآن وقد ولى الصبا ومضت آنفة الشباب، لا زال في نفسي شيء من رغايف مي الموساوية.

لقد أصاب برنارد شو حين قال: ” ليس هناك حب أخلص من حب الطعام”.

[ كل تشابه أو تطابق في الأسماء والأماكن فهو من باب الصدفة المحضة].

من صفحة نبراس:

https://www.facebook.com/Nibras63

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.