منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

لماذا نستقبل رمضان بالإسراف؟!|سلسلة خطبة الجمعة 

الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي

0

لماذا نستقبل رمضان بالإسراف؟!|سلسلة خطبة الجمعة 

بقلم: الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي

الحمد لله الذي سخر لنا ما في الأرض من الخيرات، وشرع لنا الانتفاع بما فيها من الحيوانات، وأنعم علينا فيها بثمرات الأشجار والنباتات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الأسماء والصفات، أمرنا بالتوسط والاقتصاد في المأكولات والمشروبات، ونهانا عن الإسراف في استغلال الثروات، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة لجميع المخلوقات، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين والطيبات، وعلى التابعين لهم بإحسان مادامت الأرض والسماوات.

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.

ها نحن في بداية شهر رمضان المبارك، والكل قد استعد وتأهب، وهو شهر تصفد فيه الشياطين، وتفتح فيه أبواب الجنان، وشهر مدارسة القرآن، وشهر الصيام والقيام، وشهر الجود والإكرام.

فكيف حالنا؟ وكيف حال الأمة؟ وما هي مراسم الاستقبال؟ هل من وقفة صادقة للمحاسبة؟ هل من وقوف جاد للتأمل؟ هل من توبة نصوح؟ هل من بر وإحسان؟ وما هو برنامجك؟

وإن ما يلفت الانتباه ويحير الألباب، في استعداد الناس لرمضان ظاهرةَ الإسراف بكل أنواعه وأشكاله؛ فمن الناس من استعد لرمضان بالإسراف في الحلال والمباحات، ومنهم من استعد له بالإسراف في الخمول والكسل وتضييع الأوقات، ومنهم من استعد له بالإسراف في الفسوق والمحرمات، ومنهم من استعد له بالإسراف في العبادات.

● أولا: أما الإسراف في الحلال والمباحات؛ فإنك ترى الناس في الأسواق تدور وتتقلب، لتجلب من المأكولات ما تحتاج إليه الموائد وتتطلب، لا تجتنب أرخصها ولا من أغلاها تتهرب، حتى يتم كل شيء صالح للأكل ويترتب، ثمار وفواكه وتمور، وحلويات وشباكيات ولحوم، ومكونات لشربة الحريرة وأكلة البغرير؛ بينما رمضان فرصة للفوائد لا للموائد، فرصة لتنقية الأفئدة لا لملئ المعدة، فرصة للتسلح بالأخلاق لا لتنمية الأذواق؛ وكثير من الأطباء والخبراء المتخصصين في التغذية يدقون ناقوس الخطر، ويحذرون من حالات الإسراف التي تؤدي بنا إلى الإشراف على الهلاك، سكريات بالأنواع؛ ولحوم حمراء إلى حد الإشباع، حالات سببت لنا أمراضا في المعدة والأمعاء، وارتفاعا للملح والسكر، وضغطا في الدماء والأعصاب؛ كل ذلك من جراء الأكل بدون نظام ولا انتظام، وإنك لترى من الناس من يجمع على مائدته في رمضان من ألوان الطعام وصنوف الشراب ما يكفي الجماعة من الناس، ومع ذلك لا يأكل إلا القليل منها، ثم يلقي بالباقي في الأزبال والنفايات، وبجانبنا فقراء يعانون من ألوان الحرمان وصنوف الجوع؛ بل من الناس أمَم وشعوب يموتون جوعا، لا يجدون ما يسدون به رمقهم؛ كأن رمضان معرضا لفنون الأطعمة والأشربة، حيث تزداد فيه تخمة الغني بقدر ما تزداد حسرة الفقير! وإن من أعظم العبادات في رمضان إفطار الصائمين؛ روى الترمذي أن النبيﷺ قال: «من فطَّر صائماً كان له مثلُ أجره، غيرَ أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً».

● ثانيا: أما الإسراف في الخمول والكسل وتضييع الأوقات؛ والوقت نعمة كبرى فما ضاع منه لن يرجع أبدا؛ قال النبيﷺ فيما روى البخاري: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»، ومعنى الغبن هو: بيع شيء ثمين بأقل من ثمنه، ولا شك أن الوقت هو أغلى ما يملك الإنسان في حياته؛ بل إن الوقت هو حياته، وفي هذا يقول عمر بن عبد العزيز: “يا بن آدم إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما”، ويقول الحسن البصري: “يا بن آدم؛ إنما أنت مجموعة من الأيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك”، وحين يقدم المسلم وقته مجانا في نوم وفراغ فهو مغبون؛ فكيف بمن يدفعه مقابل المحرمات والترهات والتفاهات؟

ومن هذه الأمور التي تفتح علينا أبواب التفاهات والسفاهات هذه الهواتف المحمولة، بحيث لا يوجد إنسان اليوم إلا وله قرين من هاتف أو هواتف، يحملها معه حيثما حل وارتحل، لا يفارقها ليلا ونهارا يقظة ومناما، في شغله وفراغه في مقامه ومساره، هي معه في البيت وفي العمل وفي الدراسة وفي الطريق؛ بل حتى عند قضاء حاجته في المراحيض، وعند أداء عبادته في المساجد؛ كأننا لما أعرضنا عن ذكر الله تعالى قَيَّضَ الله لنا منها قرناء تَشْغَلنا حتى عن أنفسنا وأهلينا، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}؛ تجد الإنسان دائما يَتَطَلَّع إليه؛ فيكون آخرُ ما يَطَّلِع عليه قبل خلوده للنوم هاتفَه المحمول، كما يكون أولُ ما يَطْلُع عليه بعد الاستيقاظ هو شمس هاتفه المحبوب، ليستعرض -قبل فعل أي شيء حتى قبل غسل وجهه من أثر النوم- المكالمات والرسائل التي نزلت عليه من وحي هاتفه وهو مستغرق في نومه؛ بدل أن يكون آخرُ شيء وأولُ شيء يتصل به قبل النوم وبعد الاستيقاظ هو أذكار النوم المشروعة؛ اقتداء بالنبيﷺ، على العكس من ذلك يكون آخر ما يتصل به، وأول ما يتصل به هو هاتفه المحمول؛ فهو دائما في جيبه، وعلى كل الأحوال هو بجانبه، يوظفه في الخير والشر، وفي السراء والضراء؛ فنِعم مَنْ وظَّفَه في الخير والسراء، وبئس مَنْ وظَّفَه في الشر والضراء.

● ثانيا: أما الإسراف في الفسوق والمحرمات؛ فتلك الطامة الكبرى فتناول القليل من الحرام جريمة؛ فكيف بالإسراف من الحرام، بالتنقل في الأنترنيت بين المواقع المتطورة منها والمتهورة، ولا يتتبع فيها إلا الفضائح والفظائع، حيث يوجد من الأفلام أفحشها، ومن البرامج الخليعة أفسقها؛ فيبثون لبيوت الصائمين والصائمات أقبح السهرات إلى حد الإسراف.

● رابعا: أما الإسراف في العبادات؛ فإن الإسلام قد حرم الإسراف في كل شيء حتى في العبادات؛ مثلا: أن يحيي المسلم كل الليالي بالقيام ويُحرم نفسة من راحة النوم حرام، وأن يصوم كل يوم ويُحرم نفسه من نعمة الأكل حرام، وأن ينفق كل ماله فيترك نفسه وأهله عالة وفقراء حرام، وأن يسرف في العزوبة والعزوف عن الزواج لمن قدر عليه حرام، وقد ثبت أن النبيﷺ نهى عن كل ذلك؛ روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه يقول: »جاء ثلاثة رهط… فقالوا: أين نحن من النبيﷺ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدا؛ فجاء النبيﷺ فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله، إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقُد، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» ولا يوجد شيء يخاف منه الصحابة رضوان الله عليهم من قول الرسولﷺ: «…ليس مني».
والنجاة في الواجبات من العبادات وفي المباحات من العادات إنما هي في الوسطية والاعتدال؛ يقول الله تعالى في الإنفاق: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}، ويقول سبحانه في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يُقْتِرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين…

الحمد لله رب العالمين …

أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛ إن الإسراف والتبذير داء فتاك بالأمم والمجتمعات، يبدد الأموال والثروات؛ فكم من ثروة عظيمة وأموال طائلة شتتها الإسراف والتبذير، وبددها الترف وسوء التدبير؟! والإسلام ينهى عن الإسراف في كل شيء؛ في المباحات، وفي المحرمات؛ بل وحتى في العبادات، ويستهدف في منهجه القويم من المباحات الوسطية والاعتدال، ومن المحرمات الاجتناب التام والاكتفاء بالحلال.

● فالقرآن الكريم مليء بآيات تحذرنا من الإسراف:

• المسرفون لا يحبهم الله تعالى؛ يقول سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.

• المسرفون من أحباب الشيطان؛ يقول سبحانه: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}.

• المسرفون من أسباب هلاك الأمم والشعوب؛ يقول سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}، ويقول سبحانه: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}.

• المسرفون من أصحاب النار إذا لم يتوبوا قبل أن يموتوا؛ يقول سبحانه: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمُ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ}، وبعض هذه الآيات وإن نزلت في الكفار فإن علماء التفسير يقولون: “كل آية في الكفار تجر ذيلها على عُصاة المؤمنين”…

● والحديث النبوي بدوه يحذرنا من مغبة الإسراف:

• روى الشيخان أن النبيﷺ: «كان ينهى عن قيِلَ وقالَ، وإضاعَةِ المال، وكثرةِ السؤال»؛ فقيل وقال هو الإسراف في الكلام التافه والساقط، وإضاعة المال هو الإسراف في تبذير الأموال فيما لا فائدة منه، وكثرة السؤال هو الإسراف في طرح أسئلة لا فائدة منها.

• وروى الترمذي أن النبيﷺ قال: «ما مَلأ آدميّ وعاء شَراً من بَطْنٍ، بِحَسْب ابن آدم لُقَيْمَات يُقِمنَ صُلْبَه، فإن كان لا مَحَالةَ: فَثُلُث لطَعَامِه، وثُلث لشرابِهِ، وثُلُث لنَفَسِه».

• وروى البخاري والنسائي أن النبيﷺ قال: «كلوا وتصدّقوا، والبَسُوا في غير إسراف ولا مَخيلة»، والمخيلة هي: العُجْب والكِبْر.

• وروى ابن ماجه، «أن النبيﷺ مر على سعد بن وقاص، وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السرف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف يا رسول الله؟ قالﷺ: نعم ولو كنت على نهر جار».

• وروى النسائي: «جاء أعرابيّ إِلى رسول اللهﷺ يسأله عن الوضوء؟ فأراه: ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتَعَدَّى وظلم».
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.