نِعم المال الصالح للمرء الصالح| سلسلة خطبة الجمعة
نعم المال الصالح للمرء الصالح| سلسلة خطبة الجمعة/الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
نِعم المال الصالح للمرء الصالح| سلسلة خطبة الجمعة
الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
الحمد لله ذي العزة والجلال، أذن لنا في اكتساب ما تيسر من الأموال، وأمرنا أن يكون مصدرها من الحلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في صفات الجلال والكمال، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله لا مثيل له في حسن الأخلاق والأحوال، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه سادات القرون والأجيال، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الجزاء على الأعمال.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
نعود بكم اليوم إلى السيرة النبوية العطرة، لنطل معكم من خلال هذا الشهر جمادى الأخيرة، على حَدَث أعطانا فيه رسول اللهﷺ حديثا هو أساس التعامل المالي في الإسلام.
أما الحَدَث؛ فهو تكليف رسول اللهﷺ الصحابيَّ الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه في جمادى الأخيرة من السنة الثامنة للهجرة بقيادة جيش في سرية تسمى: “سرية ذات السلاسل” قِوامه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، لمواجهة قبائل موالية لدولة الروم بدأت تُعِدُّ العدة لمهاجمة المدينة.
أما الحديث الذي جاء عن المال بالمناسبة؛ فهو أن رسول اللهﷺ قال لعمرو وهو يعينه قائدا: «إني أريد أن تصيب لنفسك مالا»؛ ثم قالﷺ: «نعم المال الصالح للمرء الصالح»…
ونقف عند هذا الحديث في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح، وحينما نذكر عملية الإصلاح إذن هناك فساد؛ نعم لا ينكر أحد أن الفساد المالي موجود في المجتمع، كما لا ينكر أحد أن بعض الناس فاسدون ماليا، والدنيا لابد منها لإقامة الدين، والتدين لا يعني ترك الدنيا أبدا؛ بل أي عمل يقوم به المسلم في نطاق الحلال هو عبادة، ولا رهبانية في الإسلام؛ وأساس ذلك أمران: المال الصالح، والمرء الصالح.
ما أجمــــل الديــن والدنيا إذا اجتمعا * وأقبـــح الـمرءَ في الدنيـــا بلا دين
فما هو المال الصالح حتى نحققه لأنفسنا؟
المال لا يكون صالحا للاستعمال الشرعي إلا بشروط أربعة:
● الشرط الأول: أن يكتسبه صاحبه من الحلال؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، وقال الرسولﷺ: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام؟»؛ ولا شك أن ذلك قد ظهر في زمننا؛ بل إنه السائد الظاهر؛ فبسبب المال الحرام اختلطت الأوراق فلا نكاد نميز الحلال من الحرام، وقَلَّتْ الأرزاق فانتشر الإفلاس، وساءت الأخلاق فأصبح الحلال هو ما حلَّ بأيدينا، وفسدت الأذواق فلا نتذوق حلاوة الحلال من مرارة الحرام.
● الشرط الثاني: أن ينفقه صاحبه في الحلال، فكثير من الناس حينما تنصحه بعدم تضييع ماله يواجهك بالعبارة التالية: (هذا مالي وأنا حر فيه)؛ والإسلام وإن سمح للإنسان بامتلاك ما شاء من الأموال، فلا يعطي له الحرية المطلقة في التصرف فيه كيف ما شاء؛ ولذلك منع إنفاق الأموال على الحرام، بل حرم إنفاق الأموال حتى على الحلال بشكل مجاوز للحدود المعتبرة شرعا وعرفا؛ لأنه بذلك يكون تبذيرا وإسرافا، والله تعالى يقول: {وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيراً إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِ}، ويقول سبحانه: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
● الشرط الثالث: أن يؤدي منه صاحبُه حقوقه المالية، وقد فصل لنا الإسلام هذه الحقوق المالية تفصيلا تاما؛ فأمر بأدائها ومنع من تضييعها.
– وأول حق في المال هو النفقة على النفس؛ فلا يجوز للمسلم أن يترك نفسه يموت جوعا ليدخر المال فيكون بخيلا حتى على نفسه.
– ثم النفقة على الزوجة والأولاد والوالدين، والنبيﷺ يقول: «كفى بالمرء إِثماً أن يُضَيِّع مَن يعول».
– ثم الوفاء بالتزامات العقود والمعاملات، وأداء الديون والأمانات؛ ويكفي في هذا أن نعلم أن النبيﷺ كان لا يصلى على من مات من أصحابه إذا فاجأه الموت وعليه ديون لم يؤدها، فيقولﷺ: «صلوا على صاحبكم» وينصرف، حتى نزل قوله تعالى: {النَّبِيء أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، فكانﷺ بعد ذلك يسأل عن الميت فإذا كان عليه دَيْن لا يصلى عليه حتى يؤديه عنه.
– ثم النفقة على ما في ملكه من البهائم والحيوانات فلا يجوز أن يحبسها بالجوع، وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها على الجوع حتى ماتت كما دخل رجل الجنة لأنه أعتق كلبا من الموت عطشا، كما أخبرنا بذلك رسول اللهﷺ.
– ثم إذا ما بقي مما سبق بقية دار الحول عليها وجبت فيها زكاة الأموال، كما تجب عليه زكاة الأبدان وهي زكاة الفطر بعد رمضان؛ يقول الرسولﷺ فيما روى ابن خزيمة والحاكم وصححه: «إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره»، ويقولﷺ فيما رواه ابن ماجه: «ما منع قوم الزكاة إلا منع القطر ولولا البهائم لم يمطروا»، وفيما روى الطبراني بسند رجاله ثقات: «ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين».
● الشرط الرابع: أن لا يصدَّ المالُ صاحبَه وألا يمنعَه عن أداء واجباته؛ سواء واجباته نحو نفسه مثل أداء الصلوات في وقتها، أو نحو أولاده من التربية والتعليم، أو نحو والديه من البر والطاعة، أو نحو عائلته من صلة الأرحام، أو واجباته نحو إخواته من المسلمين خصوصا أو من الإنسانية عموما.
فما قيمة مال الدنيا كلها لمن ضيع صَلواتِه، ومنع صِلاتِ أهله وإخوانه؟ فقد خسر الربح ورأس المال؛ مغبون من حَالَ مالُه بينه وبين واجباته، مغبون من لم يُصَلِّ بسبب ماله في الوقت المناسب صلواتِه، ولم يَصِلْ بصلة الرحم عائلاتِه…
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين…
الحمد لله رب العلمين…
أما بعد؛ فيا أيها الاخوة المؤمنون؛ هذا هو المال الصالح؛ فمن هو المرء الصالج؟
لا يكون الشخص صالحا للاستعمال الأخلاقي للمال إلا بأربع صفات أيضا:
• الصفة الأولى: أن يكون صاحب المال صالحا في عقله؛ بأن لا يكون نقص أو خلل في عقله؛ مثل: السفه والعته والصغر، فلا يجوز دفع الأموال إلا لمن بلغ سن الرشد عاقلا؛ يقول الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَمًا} ويقول سبحانه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.
• الصفة الثانية: أن يكون صاحب المال صالحا في قلبه؛ فمن كان الشعور في قلبه مليئا بالكراهية والبغضاء والحسد والبخل والشح والطمع والشره؛ فهو لا شك سوف يوظف ماله في إضرار من يكره ويبغض، وسوف يُحَوِّل حقده وحسده إلى ممارسة لإيذاء محسوده، وسوف لن ينفق المال بسبب بخله إلا على نفسه؛ بل سوف لن ينفقه لشحه وطمعه وشرهه حتى على نفسه؛ لأنه بماله مع فساد قلبه سيتحول إلى طاغية، والله تعالى يقول: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}.
• الصفة الثالثة: أن يكون صاحب المال صالحا في عمله؛ لأن العمل الصالح منه يتولد المال الصالح؛ وإلى هذا يشير النبيﷺ إذ قال لسعد بن أبي وقاص: «أطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء».
• الصفة الرابعة: أن يكون صاحب المال مصلحا لغيره؛ فصاحب المال كثيرا ما يُسْمَع قولُه، عكس الفقير الذي كثيرا ما يُصْفَع لقوله؛ والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحث على توظيف الأموال في الدعوة؛ {فَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنَى}.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…