أصناف الناس بعد رمضان بين السابقين والناقصين والناكصين |سلسلة خطبة الجمعة
الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
أصناف الناس بعد رمضان بين السابقين والناقصين والناكصين |سلسلة خطب الجمعة
الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
الحمد لله الذي جعل رمضان مدرسة نتدرب فيها على العمل بالإخلاص، لنحصل منها على الوقاية والحماية والخلاص، وأشهد أن لا إله إلا الله جعل من علامات الفوز في رمضان الاستمرارَ على العمل من غير انتقاص، كما جعل من علامات الرسوب فيه الرجوعَ على العقب والنكوص، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المؤيد بأقوى الأدلة والنصوص، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين فاقوا في الشرف العموم والخصوص، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم نهاية لا مفر منها ولا مناص.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته.
ها هو رمضان قد مضى؛ فنعم من كان فيه بعمله عند الله مرتضى، وبئس من توقف عمله وانقضى، ورمضان مدرسة عظيمة تربي في المسلم إتقان الصيام، وجودة الصلاة، والجود بالصدقات، وصدق اللسان، واختيار الصحبة، وتلاوة القرآن، والصبر على المتاعب؛ والناس بعد رمضان في هذه الأمور على ثلاثة أصناف: السابقين والناقصين والناكصين
الصنف الأول: السابقون السابقون؛
الذين استمروا على ما كانوا عليه في رمضان، الذين لم يرضوا أن يكونوا رمضانين فكانوا ربانيين؛ امتثالا لقوله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}؛ فحافظوا في العمل على النوعية والاستمرارية: النوعية التي يقول فيها النبيﷺ: فيما روى الإمام مسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»، وفيما روى البيهقي والطبراني: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»، والاستمرارية التي يقول الله تعالى فيها: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}، ويقول النبيﷺ فيها: «أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل».
قد ربى فيهم رمضان صدق اللسان، والصداقة على المساكين، واختيار أفضل الأصدقاء، والصبر على المصاعب؛ فقد كان النبيﷺ أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارسه القرآن، فتعلموا منه فكان ذلك من أخلاقهم وصفاتهم التي تميزهم بعد رمضان، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، وفي جيوبهم من أثر الصدقات، وفي أصواتهم من أثر التلاوة، وفي تحملهم من أثر الصبر الجميل، وفي معاملتهم من أثر الخلق الكريم.
كان صيامهم في رمضان من النوعية الجيدة، ولم يكن صيام المعدة بل كان صيام الجوارح والأفئدة؛ فصامت قلوبهم عن الرياء والسمعة والتكبر والسخط والبغضاء، وصامت جوارحهم؛ فحفظوا ألسنتهم من الغيبة والنميمة، وأبصارَهم من تتبع عورات غيرهم، وأسماعَهم عن لهو المغاني والغواني، وبطونَهم من أكل المحرمات، وأيديَهم وأرجلَهم من تتبع الشهوات والشبهات.
وبعد التخرج من مدرسة رمضان تراهم يبادرون بعد أيام العيد بصيام ست من شوال، ويحافظون على صيام يومي الاثنين والخميس، وعلى صيام أيام البيض من كل شهر، وعلى صيام عرفة وعاشوراء.
وكانت تلاوتهم للمصحف في رمضان قراءة تدبر وتعبد، قراءة القلب واللسان، تجاوز القرآن حناجرهم ليستقر بلسما شافيا في سويداء قلوبهم، فيُبَيِّض وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه؛ فاستمروا على وردهم من القرآن بعد التخرج من مدرسة رمضان قراءة أو سماعا، حزبا صباحا وحزبا مساء كما هو سنة المغاربة في الحزب الراتب.
وكانت صلاتهم في رمضان صلاة الروح والقلب، كما كانت صلاة الجسد والقالَب؛ فكانت من النوعية الجيدة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فحافظوا عليها بعد رمضان في أوقاتها وشروطها وأركانها وجماعتها وخشوعها ونوافلها ورواتبها؛ ففازوا ونجحوا؛ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}.
الصنف الثاني: الناقصون المقصرون؛
الذين ينتقصون من الأعمال مباشرة بعد رمضان؛ نعم كان صيامهم من النوعية الجيدة وكذلك صلاتهم وتلاوتهم؛ ولكن بعد رمضان نَسُوا أن هناك نوافل في الصيام والصلاة، فلم يعرفوا لا ستا من شوال ولا أيام البيض، ولم يعرفوا من الصلاة إلا الصلوات الخمس، أما القرآن فقد قطعوا الصلة به وأسلموا مصاحفهم للرفوف تعلوها الأغبار منتظرين موسم رمضان؛ فهؤلاء هم الرمضانيون، لهم جزاء ما قدموا في رمضان ولكن ضاعوا وضيعوا أنفسهم فحُرموا من ذلك بعد رمضان.
الصنف الثالث: الناكصون المتأخرون؛
الذين نكَصوا بعد رمضان على أعقابهم فتراجعوا عما كانوا عليه بصفة نهائية، والنكوص هو الرجوع إلى الوراء ومعنى نكص على عقبيه: رجع عما كان عليه من أعمال، وقد وصف الله به الشيطان حين شارك في غزوة بدر بجانب الكفار فقال سبحانه: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ}، كما وصف به الكفار فقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تُهْجِرُونَ}.
فأول ضحية يضيعها هؤلاء الناكصون هي صلاة الفجر في وقتها، مستسلمين للنوم في السحر، بعد أن استسلموا في الليل للسهر والسمر، ينتقلون عبر هواتفهم من موقع إلى موقع متتبعين لهو الأفلام والغواني، إلى ما بعد منتصف الليالي، ومن ضحاياهم أيضا الصلاة جماعة؛ فلا يعرفون الجماعة إلا في المقاهي والملاهي؛ فإذا كانوا يحافظون في رمضان على صلاة الفجر وعلى الجماعة؛ فما بالهم بعد رمضان لا يصلون الفجر إلا بعد شروق الشمس، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا ينفقون إلا وهو كارهون؟! فإذا كانوا يعبدون رمضان فرمضان قد انتهى، وإذا كانوا يعبدون رب مضان فهو الحي الذي لا يموت أبدا.
ومنهم من يقطع صلته بالتدخين في رمضان؛ ولكنه بعد رمضان ينكِص على عقبيه فيعود إلى التدخين بأكثر مما كان عليه قبل رمضان كأنه يريد قضاء ما فاته من هذا الداء الخطير.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ قد صنف الله تعالى الناس باعتبار الدين كله أيضا إلى ثلاثة أصناف فقال سبحانه: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}، وقال في أصحاب اليمين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} أي مستوي الطرفين؛ ويفهم منه أن أصحاب الشمال هم قليل من الأولين وثلة من الآخرين.
كما صنف سبحانه وتعالى الذين يحافظون على قراءة القرآن الكريم إلى ثلاثة أصناف أيضا ولكنهم يدخلون الجنة بفضل القرآن؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}؛ نعم يدخلونها مرددين: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}.
فلينظر كل واحد منا أي صنف من هذه الأصناف الثلاثة يختار (السابقون أو الناقصون، أو الناكصون)؛ والفرصة أمامنا…
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على الرسولﷺ…