قلبُ أب (قصة قصيرة)
بقلم: عبد الهادي المهادي
البارحة، وأنا أستعدّ للنوم، رُفقة كتابٍ أدبيّ خفيف ـ فمن عادتي أن أستجلب النُّعاس برويّة وهدوء صُحبة نص من تفسير أو حكاية قصيرة أو ترجمة ـ رنّ هاتفي بقوةٍ خارقا صمتا لذيذا كنتُ قد صنعته. ولم أكن لأجيب لولا أن اسمَ صديقٍ عزيز ظهر على الشاشة رسمُه. من افتتاحيته عرفتُ حزنَه، كان يتقطّع ألما، ولم يكن الأمر غريبا عليّ، فهو أديب مُرهف الإحساس.
قال لي بعفويّة: عَوّااااارتَ هاد العشيّا أصاحبي !
وانطلق يحكي لي حكايتَه، ضامنا أذنا صاغية صافية، فهو يعرف جيدا عشقي للحكاية:
اليوم يا صديقي ـ قال لي بصوت مُتهدّج ـ ما إن جلسنا على مائدة الغذاء حتى بدأ يصدرُ تلك الأصوات ويقوم بتلك الحركات التي طالما نبهته لقبحها وحذرته من مغبة تكرارها، خاصة حيث يكون الناس مجتمعين، ولكن طفولته وشوشت له بأن يعاندني؛ فقد اشترى من زمان ـ بذكائه وصغره ـ صبري وضمن حبي، فبالغ اليوم أشد ما تكون المبالغة، حتى أنه أغاظني وأغضبني، فمددتُ يدي سريعا إلى وجهه الصغير وضربته. لم تكن ضربة قاسية، ولكنني ضربته، وتلك سابقة خضّتني وخضّت أفرادَ أسرتي جميعَهم.
كنتُ مساءَئِـذٍ على موعد مع سفر. وقبل مغادرتي صالحته بشتى أنواع المصالحة، مادية ومعنوية، حتى غارت زوجتي أو كادت؛ صببتُ في أذنه كل ما تعلمته من كلام الغزل، ورميت عينيه العسليتين بنظرات لو قام كل عشاق الأرض ما لمعت في مهجهم، واقتنيتُ له ما يشتهي من حلوى ومكسرات، وضممته إلى صدري كأنما أحاول خلطه بلحمي ودمي، لم يكن مثل قطعة لذيذة من الشهد البري، بل كان قطعة شهد بري. وحلاوتها مازالت عالقة في حلقي ولساني بعد مرور ساعات على هذه الحادثة.
أوصلتني زوجتي إلى القطار، وأوصيتها ـ وهي غير محتاجة ـ بأن تُنسيه فيما جرى.
عندما وصلتُ هاتفتني ليلا. قالت: لقد قبّلته طويلا وقلتُ له: هذه قبلتُ أبي. ضمّني وأسرّ لي قائلا: “لن اغسل وجهي حتى يعود أبي، كي لا أمسح قبلة أبي”.
اختنق صوتي، ودمعت عيني. وغزاني إحساس بالذنب لكوني بعيدا عنه، فقد كنتُ أودّ ازدراده.
صبّرتُ صديقي، فقد كان منفطر القلب، ثمّ ودّعته دون كثير كلام.
أغلقتُ هاتفي، وأغمضتُ عيني على أحلى وأجمل ذكرى يمكن للإنسان أن يودّع بها دنياه.