يوم الصيام في جزيرة بالي..
بقلم: عادل زروق
في مطلع هلال رمضان المبارك.. وجدت نفسي لأول مرة بعيدا عن المساجد، بعيدا عن صوت الأذان، وبعيدا حتى عن رائحة الدقيق المحمص التي أحب، ولازالت عندي حيرة الطفولة كلما حل رمضان، كيف للدقيق أن يتحول إلى وجبة سفوف بذلك القدر من الجمال والمذاق اللذيذ، ولا أنكر أنني اشتقت إلى “دردرة” الزنجلان الأبيض على الشباكية التي تتقطر بالعسل، اشتقت إلى صوت “النفار” والتروايح في المساجد، واشتقت أكثر إلى أمي، وخبز أمي ودفء العائلة في رمضان.
قضيت شهر شعبان في سفر طويل، بين أحضان جزيرة أغلب سكانها هندوس، يستعدون -ليل نهار- منذ شهور، للاحتفال بأيامهم القادمة، ينتظرونها بشوق كذلك من أجل الصيام، ولكنه صيام عن الكلام، وليس عن الطعام.
أكثر من 80% من سكان هذه الجزيرة هم هندوس توارثوا الديانة أبا عن جد، لهم طقوس خاصة وعادات وحفلات غريبة. ومن أغرب طقوسهم هذا اليوم العجيب، هذا اليوم الذي يعم فيه الصمت ويمنع فيه الكلام في جميع أرجاء جزيرة بالي، وأفضل الأعمال عندهم كف اللسان عن أي قول طيلة اليوم.
هذا “اليوم الساكت المسكوت” تتوقف فيه كل كل أنواع المواصلات والرحلات الجوية، بل وحتى الإنترنت يغلق في كثير من الأماكن، وتغلق مناطق الجذب السياحي لإعلان يوم التأمل والصوم عن الكلام.
هذا اليوم يعرف في بالي باسم “نيابي” أو “نييبي”،
وفي جزيرة بالي يمكث الهندوس في منازلهم طيلة اليوم لمدة 24 ساعة، يخصصونها كاملة للصمت والتأمل، ويكتفون في التواصل بلغة الإشارة، لا يفتحون التلفاز او الهاتف، ولا يتكلمون إلا اضطرارا، يعدون ويزينون القرابين التي سيقدموناها في المعبد صباح اليوم الموالي.. وفي نهاية المراسيم تجتمع العائلة ويتسامح الجيران في المعابد، وخلال طريق العودة إلى البيوت يذهبون جميعا إلى أقرب بحر أو نهر من أجل الاغتسال وتكفير الخطايا.
في كثير من الفنادق يطلب من السياح أن يحترموا طقوس الصمت في هذا اليوم.. وإذا جئت مسافرا إلى جزيرة بالي وأدركت هذا اليوم فسوف يطلب منك البقاء في غرفة إقامتك قدر المستطاع، مع خفض صوت الموسيقى أو شاشة التلفاز.. والتزام الصمت سواء أثناء الأكل أو عند الخروج من الفندق.
وإذا خرجت في هذا اليوم أوصيك بالصمت أو الهمس أثناء الحديث مع أصدقائك.. ليس من أجل تفادي لعنة الأرواح الشريرة، بل تفاديا لعنة المخالفات، وهناك رسوم في حالة ضبطك وأنت تتكلم أو تضحك في مكان عام.. وقد تتهم عندهم بإهانة طقوس المجتمع.
ورغم أن هذا اليوم هو يوم عطلة في جزيرة بالي، إلا أنه لا يسمح للسيارات والدراجات النارية بالسير في الشوارع إلا في حالات الضرورة، كما يجب إطفاء الأنوار في البيوت، وإغلاق الشبابيك، وإغلاق مراكز التسوق، مع إغلاق الفم طبعا.
هذا اليوم الغريب العجيب يستقطب زواره قبل موعده بأسبوع.. تبدأ الطقوس والاحتفالات صباحا من خلال أفواج ومواكب، تستعرض تماثيل ودمى عملاقة ذات عضلات و وجوه مخيفة -أحيانا أجدها مضحكة-، يجسدون في هذه الوجوه قوى الشر أو الأرواح الشريرة، بعض هذه الدمى يضعون لها قرونا، تشبه تلك التي نراها في موسم بوجلود، يسمونها في لغتهم دمى “أوغو أوغو”، وهذا الاسم جميل اللحن، يذكرني بأسماء الوحوش الذين كانوا يحاربون جريندايزر، و عزائي للأصدقاء الذين لا يعرفون جريندايزر فقد فاتهم الكثير.
في صباح اليوم الموالي ليوم الصمت يخرج الكبار والصغار وكلهم يلبس الثياب الجديدة، وأما النساء فيلبسن أثوابا ناصعة البياض مع حزام حول الخصر، وطرف الحزام يتدلى حد الركبة، أغلب النساء يحملن على رؤوسهن قرابين، ولا أستطيع نسيان منظر امرأة تمشي بثبات، تضع صحن القربان فوق رأسها وهي تمسك يد طفلها وتحمل منشفة في اليد الأخرى.. المرأة اختفت عن الأنظار، وربما قد وضعت القربان، ولكنني لا زلت أحمله هما في رأسي: لماذا وكيف لا يسقط صحن القربان من فوق رأسها ؟ ولماذا هذا القربان أصلا؟
القرابين عندهم بما حضر، وبما تحب أن يكثر في حياتك، ولا شروط في مكونات القربان، وسبق أن رأيت من يضع في قربانه علبة سجائر ، وعلكة، وبيسكوي، وغير ذلك الكثير، إلا أن أفضل القرابين عندهم ما كان فيه أوراق نقدية. ولا عجب في ذلك، فالآلهة تميز جيدا أوراق النقود من العلكة.
الهندوس يقدمون القرابين بسخاء ثلاث مرات في اليوم، في الصباح والزوال والليل، كل فرد على قدر استطاعته، هذا ما أخبرني به صديقي ودليلي في معابد بالي، وهو شاب هندوسي خلوق، لا يعرف الكثير عن دينه، لكنه يحاول شرح الطقوس الشهيرة.. والهندوسية في بالي مختلفة عن هندوسية الهند.. إلا أنهم جميعا يتفقون في ضرورة القربان كل يوم.
أذكر يوما دخلت فيه إلى معبد يسمى “ساراسواتي” في منطقة أوبود، وهو واحد من أجمل وأقدم المعابد في بالي، لم أكن أخطو خطوتين أو ثلاث في ذلك المعبد إلا وأجد تمثالا يفتح فمه أو يمد يده، وحول التماثيل كلاب و قردة وفئران كبيرة من النوع الضخم، تلك التي نسميها “الطوبة”، ولا أكتم سرا أن جلدي كان يتشوك عند رؤيتها فجأة، كان ذلك في الأيام الأولى، أما الآن فأصبح منظرها مألوفا لدي، خصوصا في حقول الأرز أو في المعابد.
أمام التماثيل الكبيرة لابد أن تجد قربانا أو قرابين متنوعة. والعجيب أن بعض القرابين فيها فواكه طازجة و أوراق نقدية مهمة، ولا أحد من الهندوس يتجرأ أو يسرق قرابين الآلهة، لأنهم يعتقدون أن كل من أخذ مال القربان تحل عليه اللعنة، ويطارده الحظ السيء، كل الناس طبعا يشملهم هذا المنع إلا الرهبان هم فقط من يملك حق تفتيش القرابين، وطبعا “حراس المعبد” لا تحل عليهم اللعنة، بل يبتسم لهم الحظ مع كل قربان جديد، لك أن تتخيلهم نهاية كل يوم يشكرون الآلهة.. يضحكون وهم يجمعون الأوراق النقدية، يأكلون الفواكه الطرية، ويتركون الرديئة منها للقردة.
قبل عشر سنوات كنت قد شاهدت الاحتفالات في هذه الجزيرة الرائعة، ولم يتيسر لي مشاهدة الدمى العملاقة إلا هذه المرة، ولمن يريد مشاهدة العروض من عشاق السفر فعليه بيوم العيد، ويوم العيد عندهم هو اليوم الثاني بعد يوم الصيام عن الكلام، وتاريخ هذا اليوم يتغير كل سنة، لأن التقويم عندهم يختلف عن تقويم السنة الميلادية.
في هذا اليوم المهم عندهم، يخرج السكان في الصباح الباكر، صغارا وكبارا يحتفلون بالرقص والغناء في مسيرات تجوب الأحياء والشوارع، يضربون الطبول ويصرخون بالأهازيج تعويضا عما فاتهم من كلام الأمس، المسيرات تجوب تقريبا كل الشوارع، كل البيوت فارغة، وحتى كبار السن يزاحمون الصغار، يرقصون وهم يتبعون الدمى قبل أن تحرق، والحرق عندهم تجسيد للتجديد والتنقية والاستعداد لموسم عبادة جديد.

ما أثارني في هذا الاحتفال هو درجة الإتقان التي تصنع بها التماثيل، وكنت محظوظا أن شاهدت بعض أطوار صناعتها من البداية، الهيكل الأساسي لهذه الدمى العملاقة يكون بالقصب والخيط، ثم بعد ذلك يتم تغليفه بالورق المبلل بماء الجبس، وهكذا يمكنك أن تصنع التماثيل.. والتمثال الجميل يجلب القرابين أكثر.
تأملت كثيرا في طقوس هذا اليوم، استوقفني استعدادهم وجهدهم وسهرهم وإبداعهم في صناعة هذه الدمى، أموال باهضة، وعشرات بل مئات الساعات من الاستعداد والعمل الجاد ليل نهار، وأوقات معلومة يتطوع فيها سكان الحي بصغارهم وكبارهم لبناء تمثال كبير يجسد الأرواح الشريرة.
تخيل معي التمثال الواحد قد يتطلب شهورا من البناء والتعب، ليجوب الشوارع والأزقة في يوم واحد، وليحرق في لحظة واحدة، ذكرني هذا المنطق بالحفلات والسهرات الفنية في بلدي الحبيب، احتفالات ضخمة يرقص فيها شباب عاطل.. ومفرقعات وألعاب نارية ثمينة تتلألأ في السماء بألوان زاهية، ثم تتلاشى بسرعة فوق سماء وطن فقير.
ابتسمت وأنا أشاهد هذه الدمى العملاقة التي تجسد عندهم مظاهر الشر، خرجت من المعبد و تأملت في تعبهم وشوقهم وانتظارهم لحظة إحراق هذه الدمى ذات الروح الشريرة، تأملت في حجم الأموال والجهود الضائعة من فقراء الأحياء والقرى، وتعجبت لسخائهم في ملء القرابين بالعملات والأوراق النقدية.. كيف يبذلون الغالي والنفيس لصناعة هذه الدمى؟ من أقنعهم أنها تطرد الحظ السيء؟ وكيف يرجونها وهم يعلمون أنها مجرد دمية، صنعوها هم بأيديهم، من قصب وخيط وورق !؟
كنت أنظر إلى صفوف المحتفلين، ولوهلة تخيلت نفسي وسطهم من الراقصين، أو ممن يقدمون القرابين، أو من هؤلاء الرهبان الأذكياء الذين يجمعون المال وياكلون الفاكهة، هنالك قلت الحمد لله الذي هدانا لنعمة الإسلام، خرجت من المعبد وأنا أتلو سورة الفاتحة.. ووجدت فيها معنى وجوابا طمأن قلبي، ولازلت أكررها في الطريق كأنني أقرأها أول مرة..
وأسأل الله لي ولهم الهداية والمغفرة، وحسن الخاتمة.
أسألكم الدعاء أيها الأحباب، أعتذر منكم على الإطالة و مبروك العواشر، بالصحة الشباكية المقطرة بالعسل المصفى، والمدردرة بالزنجلان الأبيض، وبالصحة السفوف والحريرة، تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام، وأدخل الله عليكم رمضان بالصحة والإيمان ورضى الوالدين، وبكل خير إن شاء الله.
-يتبع إن شاء الله-