مقاصد الصيام
د. إدريس يعكوبي
مقدمة
وبعد؛ فإن شهر رمضان الأبرك، موسم للخيرات والبركات، خصه ربنا سبحانه وتعالى بجملة من الخصائص والمميزات، ضيق فيه سبل الشيطان، وسهل فيه المسالك الموصلة إلى مرضاته، فتح فيه أبواب رحمته وجنته، وأغلق فيه أبواب جهنم، وقيد فيه المردة والشياطين، شرع فيه جملة من العبادات والطاعات، ففرض فيه الصيام، وشرع فيه القيام، ومدارسة القرآن، وجعله شهرا للجود والإحسان.
ويبقى من أهم العبادات فيه التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، عبادة الصيام، فما مقصود الشرع من هذه العبادة؟
الجواب عن هذا السؤال، هو ما أتوخى وأود بيانه في هذا المقال إن شاء الله تعالى، وذلك من خلال مطلبين؛ أولهما تمهيدي، والأخر هو المقصود بالذات، ثم أختم بخاتمة، فأقول وبالله التوفيق.
المطلب الأول: مقاصد العبادة عموما.
يرى عالم المقاصد أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى؛ أن الشريعة وضعت لمقاصد العباد، في العاجل والآجل، أي: في الدنيا والآخرة. ودليله في هذا؛ الاستقراء، حيث تتبع نصوص الشرع فوجدها مؤكدة لهذا المعنى،[1] ومن النصوص العامة التي ذكرها؛ قوله سبحانه وتعالى: “رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل“.[2] ومن النصوص الخاصة؛ قوله سبحانه وتعالى في الصلاة: “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر“.[3] وقوله تعالى في الصيام: “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”.[4]
وهذه الشريعة التي وضعت لمصالح العباد، ليست على نسق واحد، ولا على نمط واحد؛ بل فيها ما يسمى بالمعاملات، وفيها ما يسمى بالعبادات. والأصل في المعاملات؛ أنها يغلب عليها جانب المعنى، وجانب التعليل، بينما العبادات يغلب عليها جانب التعبد، أي: عدم إدراك عللها وحكمها ومقاصدها. قال أبو إسحاق رحمه الله تعالى: “فقد علمنا من مقاصد الشرع: التفرقة بين العبادات والعادات، وأنه غلب في جانب العبادات جانب التعبد، وفي باب العادات جانب الالتفات إلى المعنى، والعكس في البابين قليل”.[5]
ويرى رحمه الله تعالى كذلك: أن للعبادات عموما مقاصد أصلية، ومقاصد تبعية، قال: “إن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية، مقاصد أصلية، ومقاصد تبعية، مثال ذلك: النكاح، فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول، ويليه: طلب السكن، والازدواج، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية، من الاستمتاع بالحلال، والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء…وكذلك العبادات، فإن المقصد الأصلي فيها؛ التوجه إلى الواحد المعبود، وإفراده بالقصد إليه على كل حال، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة، أو ليكون من أولياء الله تعالى، وما أشبه ذلك، فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول، وباعثة عليه، ومقتضية للدوام فيه سرا وجهرا…”.[6]
وهذه المقاصد منها ما هو منصوص عليه، ومنها ما هو مشار إليه، ومنها ما هو معلوم من دليل آخر منفصل.
وخلاصة هذا المطلب؛ أن الشريعة إنما وضعت لمقاصد العباد، سواء منها العبادات أو المعاملات، وأن العبادات يغلب عليها جانب التعبد، ومع ذلك فإن لها مقاصد أصلية، ومقاصد تبعية، تعرف من جهات متعددة، فما هي مقاصد عبادة الصيام، الأصلية والتبعية؟
المطلب الثاني: مقاصد عبادة الصيام.
الصوم هو: الإمساك عن شهوتي: البطن والفرج، يوما كاملا بنية التقرب.[7] وهو بهذا المعنى الشرعي يحقق مقاصد شرعية أصلية، ومقاصد أخرى تبعية.
المقاصد الأصلية للصيام:
يمكن أن نحصر المقاصد الأصلية للصوم إجمالا، في مقصد واحد عام، وهو: الانقياد، والخضوع لله عز وجل، وهذا المقصد هو عام في جميع العبادات، إلا أنه في الصوم أظهر وأوضح، كما يدل على ذلك الحديث القدسي الذي يقول الله عز وجل فيه: “كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به“.[8] وفي رواية: “يدع شهوته وطعامه من أجلي“.[9] ومما قاله العلماء في هذه الإضافة؛ أن الصوم عبادة خفية ليس فيها رياء ولا سمعة، بخلاف العبادات الأخرى التي تشتمل على أعمال حسية ظاهرة، قد يدب إليها نوع من الرياء أو السمعة.
فالصائم يمسك عما ذكر قبل من الطعام والشراب…خضوعا لله عز وجل وحده دون سواه.
المقاصد التبعية للصيام:
للصوم مقاصد تبعية كثيرة، بعضها مصرح به، وبعضها مشار إليه، ويمكن إجمالها تبعا لما بين أيدينا من النصوص الشرعية في الآتي:
- المقصد الأول: مقصد التقوى.
وهو مقصد عام مصرح به كما تقدم في قوله سبحانه وتعالى: “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون“.
يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: “وقوله: “لعلكم تتقون“. بيان لحكم الصيام، وما لأجله شرع، فهو في قوة المفعول لأجله”.[10]
وإذا لاحظنا هنا معنى التقوى، من امتثال للأوامر، واجتناب للنواهي، وما إلى ذلك مما قيل في معناها، فإن هذا المقصد المصرح به، يكون أشمل وأجمع لجميع المقاصد الأخرى، التي سنذكر بعضها بعد، فالتقوى ستار ولباس وحاجز يمنع صاحبه من كل مكروه يصيبه في دنياه وأخراه، فهي مقصد دنيوي وأخروي.
- المقصد الثاني: مقصد تكفير الذنوب والسيئات.
وهذا المقصد مصرح به أيضا في كثير من النصوص الحديثية، من ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: “الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر“،[11] وقوله صلى الله عليه وسلم كذلك: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه“.[12]
فربنا سبحانه وتعالى عالم بأحوالنا، عالم بأننا نقصر ونفرط ونخطئ، فأكرمنا برمضان، وبعبادة الصيام، وجعل ذلك مكفرا لما اقترف خلال العام من الذنوب والآثام.
- المقصد الثالث: مقصد تكثير الأجر والحسنات.
جزاء الصائمين غير مقدر بعدد معلوم من الحسنات، لا أحد يطلع على ذلك، وإنما ربنا سبحانه وتعالى وحده هو العالم بمقداره، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به“.[13]
والصوم كما ورد في حديث: “نصف الصبر“،[14] وجزاء الصابرين جزاء بلا عد ولا حساب. مصداقا لقول الله تعالى: “إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب“.[15]
- المقصد الرابع: مقصد الفوز بالجنة.
هذا المقصد مشار إليه في قوله صلى الله عليه وسلم: “إن في الجنة بابا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم، أغلق فلم يدخل منه أحد “.[16]
- المقصد الخامس: مقصد الفرح غدا يوم القيامة.
مقصد عظيم جدا من مقاصد الصيام، أكرم الله به الصائمين غدا يوم القيامة، وهو: فرحهم بصومهم عند لقاء ربهم، ففي الحديث الصحيح: “…وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه“.[17]
- المقصد السادس: مقصد التحصن في العزبة.
وهذا المقصد هو أحد المقاصد الثلاثة التي ذكرها أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى،[18] ودليله المذكور فيه صراحة، هو قوله صلى الله عليه وسلم: “من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء“.[19] قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى: “وهوـ أي: الوجاء ـ رض الخصيتين، وقيل رض عروقهما، ومن يفعل به ذلك تنقطع شهوته، ومقتضاه: أن الصوم قامع لشهوة النكاح“.[20] وهذا كله كناية عن ضعف القوة الجنسية، وذلك يكون سببا للتحصن والتعفف.
- المقصد السابع: مقصد الجُنة والوقاية.
كما قال صلى الله عليه وسلم: “والصيام جنة”[21] أي: وقاية، وهي وقاية عامة لم تعلق ولم تقيد في الحديث بقيد، وحذف المتعلق كما يقول الأصوليون يوذن بالعموم، فتشمل كما قال الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: الوقاية من الوقوع في الآثام، والوقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، والوقاية من العلل، والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات،[22] ويشهد لهذا الأمر: الحديث المشهور الذي رواه الإمام الطبراني وغيره، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “صوموا تصحوا“. والحديث وإن كان ضعيفا، لكن يشهد لهذا أيضا، قوله صلى الله عليه وسلم: “ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن. بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه“.[23]
- المقصد الثامن: مقصد التربية على الصبر، والإرادة، وقوة التحمل.
فالصائم إنما يحبس نفسه عن شهوتي البطن والفرج بإرادته وعزيمته، وهو في شهر رمضان يتمرن على هذا المنهج، وهذا السلوك، وعلى هذه العادة الحميدة، وذلك من شأنه أن يكون سببا في تركه لكثير من العادات الذميمة التي اعتادها وهو مفطر، وكثير من الناس الذين ابتلاهم الله ببعض هذه العادات يتخلصون منها خلال شهر الصيام، ومنهم من يوفقه الله سبحانه وتعالى فلا يرجع إليها أبدا، وذلك لما اكتسبه خلال صيامه شهر رمضان، من الصبر وقوة التحمل. فمن استطاع مثلا أن يتوقف عن التدخين ساعات من النهار، فهو قادر أن يضيف إليها ساعات الليل كذلك، وبذلك يتركه ويتخلص منه نهائيا.
- المقصد التاسع: مقصد تزكية النفس والترقي بها إلى أسمى المعاني.
الإنسان مكون من جسم وروح، وإنسانيته تتجلى في الجانب الروحي، ومن الواجب تقوية هذا الجانب ليبقى الإنسان إنسانا، ومما يقوى به هذا الجانب؛ عبادة الصيام، وفي هذا المعنى يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، وهو يتحدث عن رأي علماء الآخرة في الصوم، وكيف يفهمونه، قال: “فأما علماء الآخرة، فيعنون بالصحة: القبول، وبالقبول: الوصول إلى المقصود، ويفهمون أن المقصود من الصوم: التخلق بخلق من أخلاق الله عز وجل، وهو: الصمدية، والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان، فإنهم منزهون عن الشهوات، والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم؛ لقدرته بنور العقل على كسر شهوته، ودون رتبة الملائكة؛ لاستيلاء الشهوات عليه، وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات، انحط إلى أسفل السافلين، والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات، ارتفع إلى أعلى عليين، والتحق بأفق الملائكة، والملائكة مقربون من الله عز وجل، والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم، يقرب من الله عز وجل كقربهم، فإن الشبيه من القريب قريب، وليس القريب ثَم بالمكان بل بالصفات”.[24]
- المقصد العاشر: مقصد الصدقة، والنفقة على المحرومين، والمساكين والمحتاجين.
الصائم وهو يحس أحيانا بألم الجوع والعطش، من شأنه أن يلتفت إلى هؤلاء الذين يحسون بهذا الألم دائما وأبدا، في رمضان وفي سائر الشهور والأيام، وفي هذا المقصد الاجتماعي، يقول الشيخ القرضاوي حفظه الله تعالى: “ومن أسرار الصيام الاجتماعية؛ أنه تذكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين، تذكير بغير خطبة بليغة، ولا لسان فصيح، تذكير يسمعه الصائم من صوت المعدة، ونداء الأمعاء، فإن الذي نبت في أحضان النعمة، ولم يعرف طعم الجوع، ولم يذق مرارة العطش، لعله يظن أن الناس كلهم مثله، وأنه ما دام يجد، فالناس يجدون، وما دام يطعم لحم طير مما يشتهي، وفاكهة مما يتخير، فلن يحرم الناس الخبز والبقول، فلا غرو أن جعل الله من الصوم مظهرا للاشتراكية الصحيحة، والمساواة الكاملة، وجعل الجوع ضريبة إجبارية يدفعها الموسر والمعسر، ويؤديها من يملك القناطير المقنطرة، ومن لا يملك قوت يومه، حتى يشعر الغني أن هناك معدات خاوية، وبطونا خالية، وأحشاء لا تجد ما يسد الرمق، ويطفئ الحرق، فحري بإنسانية الإنسان، وإسلام المسلم، وإيمان المؤمن، أن يرق قلبه، وأن يعطي المحتاجين، وأن يمد يده إلى المساكين، فإن الله رحيم، وإنما يرحم من عباده الرحماء…”.[25]
خاتمة
الصوم عبادة شرعها ربنا سبحانه وتعالى لحكم ومقاصد كثيرة، منها ما يرجع إلى الصائم نفسه في دنياه، تزكو بها نفسه، ويصح بها جسمه، ومنها ما ينتفع بها في آخرته، يفرح بصومه عند لقاء ربه، ويدخل من باب الريان إلى جنته ونعيمه.
ومنها ما يرجع إلى محيطه ومجتمعه، بسبب ما يجود به على الفقراء والمحتاجين، والمحرومين.
هذه بعض مقاصد الصيام، ولا شك أن له مقاصد أخرى غير هذه، على الصائم أن يسعى إلى تحقيقها بمراعاة آداب الصيام وشروطه، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الصالحين، ومن عباده الصائمين حقا، حتى نفرح بصومنا يوم لقاء ربنا، آمين والحمد لله رب العالمين.
[1] ـ أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، المكتبة العصرية، ط الأولى، 1421هـ، 2000م: 02/05.
[2] ـ النساء: 164.
[3] ـ العنكبوت: 45.
[4] ـ البقرة: 182.
[5] ـ الموافقات: 02/294.
[6] ـ نفسه.
[7] ـ محمد بن أحمد الفاسي الشهير بميارة، حاشية محمد الطالب بن حمدون بن الحاج، دار الفكر، د ت: 01/65.
[8] ـ صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام.
[9] ـ نفسه.
[10] ـ محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، 1984: 02/158.
[11] ـ صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس، والجمعة ….
[12] ـ نفسه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح.
[13] ـ صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام.
[14] ـ سنن ابن ماجه، رقم: 1745.
[15] ـ الزمر: 11.
[16] ـ صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام.
[17] ـ نفسه.
[18] ـ الموافقات: 02/297.
[19] ـ صحيح البخاري: كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة.
[20] ـ فتح الباري: 04/149.
[21] ـ صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام.
[22] ـ التحرير والتنوير: 02/158.
[23] ـ سنن الترمذي: باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، رقم: 2380.
[24] ـ إحياء علوم الدين: 01/215.
[25] ـ الدكتور يوسف القرضاوي، العبادة في الإسلام، ص: 293.