وداع (قصة قصيرة )
بقلم: حسناء ادويشي
لاحت في الأفق البعيد، رمقها وهي تحث الخطى، تهم بالمغادرة، تملكته الدهشة، كيف ستغادر بهذه السرعة؟ كيف لم يشعر بأيامها تتسرب وتنقضي؟ ها قد مرقت كالسهم إلى نهايتها المحتومة بغير رجعة، حاول أن يلحقها، أن يسألها، لكنها تفلتت، ذابت، وتلاشت كأنها الهباء، فجأة لم يعد لها وجود!. لقد كانت هنا قبيل قليل، لكنها سحبت بساط أيامها من تحت أرجلنا جميعا، ورحلت لا تلوي على شيء، وأطلت السنة الجديدة من شرنقتها لتعاود مسيرة أختها. أختها! أي أخوة هاته! أخوة بلا عناق ولا لقاء! أخوة فيها ولادة بعد فناء!
لقد تلاشت بعدما أخذت معها لحظات الأسى والألم، و التعب والشجن، وأثخنت القلب بجروح بصمت أثرا لا يبرح مكانه، وذكرى لا تمحي، وخطفت أيام الفرح والنجاح التي لا توصف، وساعات السعادة التي لا تكاد تعد، حملت معها كل أيامها، وغادرت، نعم هي أيامها، التي لا ينازعها أحد فيها، فهي تنسب إليها، وتؤرخ في سجلها، ولا حق لنا في استعادتها.
تساءل بين نفسه في همس كالجنون: هل أختها هي نفسها بلبوس جديد؟ أم هو فناء بلا عودة؟ وانقضاء بلا أوبة؟ وبلى بلا تجدد؟ دوامة من الأسئلة اللامتناهية تتناسل على فكره، ولا جواب.
نظر بإمعان إلى المرآة أمامه، فأطل من صدغه بعض الشيب الذي أشعل نور عقله، فتأمل في نفسه وأيامه هو، كان هذا الشعر في الأمس القريب أسود كالليل البهيم، وها هو قد اشتعل بياضا، ليعلن أن أيامه “هو” هي التي تنساب كالماء من بين أصابعه، أيام بانصرامها ينصرم عمره، فلا عودة ليوم مضى ولا زيادة ولا تجدد، قد تعود السنة بسيناريو جديد، وقد ترجع أختها ربما؟ لكنه أدرك قطعا أن يومه الذي ولى أقسم ألاَّ يعود.
حول النظر من المرآة إلى نافذة غرفته، تأمل في الأفق الواسع أمامه، وسبح بنظره في قرص الشمس الدامي الذي يذوب رويدا رويدا في سماء داكنة، فانتبه من سبَحاته على صوت المؤذن، فردد وراء ه: الله أكبر، الله أكبر، حمل سجادته، وفتح الباب متوجها إلى المسجد لأداء الصلاة، حيث في المسجد يتجدد اللقاء بين الأرض والسماء، وتتسع دائرة الزمن والأيام وترتقي إلى عالم الخلود.