“الصُّمْعِيَة”(قصة قصيرة)
بقلم: لحسن شعيب
فُتِح جزءٌ من الباب العُلوي للصندوق، أخرجت الصُّمْعِيَّة رأسها، وبحركة رشيقة نَطَّتْ خارجا، رقصت وقفزت واهتزت على قرع طبلٍ ونفخ نايٍ، ثم فجأة، وعلى غفلة من صاحبها، تسللت خارج الحلقة، وتابعت زحفها لا تلتفتُ ولا تلوي على شيء، حتى اختفت وسط حقل من حقول الذرة. هناك التقطت أنفاسها، قبل أن تواصل زحفها حتى ابتعدت كثيرا، لكنها كانت تخشى أن يدركها صاحبها فيعيدها إلى الصندوق.
كان داوود مستلقيا على ظهره يستريح بعد يوم عمل شاق في تأبير النخل، وري أشجار الزيتون، سمع خشخشة، فالتفت إلى مصدر الصوت، فرأى حركة متموجة وسط دالية العنب؛ وقف شعرُ رأسه وفقد القدرة على الحركة وعلى الصراخ معا، ثم رآها تقتربُ حتى صارت على بعد مترين منه، استدارت كما تستدير عمامة شيخ الدوار على رأسه، وتوقفت عن الحركة، وظل كل منهما ينظرُ إلى الآخر ولا يحرك ساكناً.
جلس داوود وجبينه يتفصد عرقا، وجسمه يرتجف مثل عصفور بلله القطر، لكن لم يجد قدرة على الهرب ولا على النزال.
– السلام عليكم أيها الرجل الطيب، قالت الصمعية..
– أفعى تتكلم؟ كاد يغمى على داوود من هول الموقف..
– لا تخف أيها الفلاح، أنا أستجير بك من العيساوي البوهالي، صياد الأفاعي ومروضها، لقد هربتُ منه، واستعدْتُ حريتي، وأخشى أن يلحق بي ويَسْلُبَنِيها ثانية..
– ما المطلوب مني أيتها…
– اسمي الصمعية، وأنا أكبرُ الأفاعي التي يملكها العيساوي، وأنا مصدر رزقه الوحيد، لهذا لن يرف له جفن حتى يستعيدني، وأنا كرهت الصندوق وكرهت الحلقة والجمهور والصياح. أنا خلقت لأعيش حرة، أهيم في بلاد الله وآكل من خشاش الأرض؛ لهذا لا أريد أن أعود إلى الصندوق، والعيساوي إن أمسك بي سيذيقني صنوف العذاب، وأنا أستجير بك منه، أرجوك احمني ولا تُسْلِمْنِي له ثانية.
– وكيف لمثلي أن يحمي مثلك؟
– تُخبِّئني في مكانٍ لا يطالني فيه العيساوي..
– أجعلكِ تحت جلبابي، وأَلُفُّ عليك سِلهامي، هل يكفي ذلك؟
– لا أبدا… إن لمزمار العيساوي قوةً لا أقاومها، ما إن ينفخ في مزماره حتى أخرج من مخبئي..
– فأين أخبئك إذن؟
– تبتلعُني، وحين يذهبُ صاحبي أخرج وأذهب لحال سبيلي..
– وإن ذهب هو، وبقيت أنتِ في أحشائي؟
– لو أردتُ إيذاءك لَلَدَغْتُكَ الآن، وواصلتُ طريقي. اسمع أيها الرجل الوقور، لك عهدُ الله وميثاقه أن أخرج ما إن ينصرف العيساوي..
ابتلع داوودُ الصمعيةَ، وصارت في أحشائه؛ ثم جاء العيساوي، وسأله عنها، قال بأنها حية سوداء مرقطة بطول مترين تقريبا هربت منه، فقال له داوود بأنه لم ير شيئا؛ أخرج الرجل نايه، ونفخ فيه طويلا، لكن لم تظهر الصمعية، عندها أيقن العيساوي أن أفعاه ليست مع الرجل، فواصل سيره يبحث عنها في الجوار.
– لقد ذهب صاحبكِ، فاخرجي يا أمة الله..
– هأ هأ هأ.. أخرج؟ وكيف أخرج وقد وجدت هنا شحما ولحما ودما… لن أخرج أيها المغفل حتى أنال بغيتي منك..
– أو لم تعاهديني ألا تؤذيني؟ ألا تخافين الله أيتها المخلوقة؟
– ومتى كان للأفعى عهد؟
ضاقت بداوودَ الأرضُ بما رحبت، وتسارعت دقات قلبه وأنفاسه، ثم إنه استقبل القبلةَ، وصلى ركعتين، ورفع رأسه ويديه إلى السماء، يدعو ويستغيث الله أن يفرج عنه، ويصرف عنه السوء والبلوى. وبينما هو على تلك الحال، أحس ببرودة تجتاح أطرافه، وبسكينةٍ حلت في قلبه، وألهمه الله كلماتٍ ودعواتٍ مباركات دعا بهن، كانت دموعه تنساب على وجنتيه وتنهمر شلالا على لحيته البيضاء الطويلة.
وفي تلك الأثناء، أحس بحركة رهيبة ومغص شديد في أحشائه؛ نطق أول كلمات دعائه: “يا لطيف يا الصمعية مَنْ كُلَّ َمْن..” (حرام عليك أيتها الأفعى..) فذرعهُ القيء، وكانت مفاجأته عظيمة وهو يلفظ رأس الأفعى، الذي وقع أرضا بلا حراك، واصل دعاءه: دهم الأمر جلال من دهما”، فسقط جزء ثان، ثم قال: “يا غياث يا المستغي تِينَوَيا” (تِينْو أيَا معناها بالأمازيغية هذه مصيبتي) فسقط جزء ثالث، ورابع، وفي آخر كلمات دعائه خرج الجزء الأخير من الأفعى، والذي فيه الذيل. كان دعاء الرجل سبع أبياتٍ، وكان جزءٌ من الأفعى يخرج من جوفه مع كل بيت. وعُرِفت هذه الأبياتُ بقصيدة الصُّمْعية، وتحرص نساء القبيلة اليوم على ترديدها كل جمعة في مجلس ذِكْرِهِنَّ، المسمى “لْفْدِيْت (الفدية).
أنهت تودة حكايتها، وتفقدت طفلها الصغير يِدِير النائم في حضنها، فوجدته يغط في نوم عميق. أحس بخوف شديد في بداية القصة، لكنه استسلم للنوم أخيرا، وكانت أمه تُلقنه أبياتَ الصمعية العظيمة كما يلقنه سيدي امحمد إمام الدوار قصار السور في الكُتَّاب، كان يحفظ بيتا كل ليلة حتى أتمها، وكان هو بالمقابل يحَفِّظ أمه قصار سور القرآن التي تعلمها. حفظ يدير الصمعية، وفهم من أمه أنها دعاء عظيم لتفريج الكرب، لكنه لم يفهم منها شيئا، فكلماتها خليط من الأمازيغية والعربية. سأل أمه إن كانت الأفعى تتكلم مثل البشر، وإن كانت تتكلم الأمازيغية تحديدا، فردت بأنها سمعت الحكاية من جدتها، التي أخبرتها أنها صحيحة وقد سمعتها من جدتها أيضا.
كانت الحافلةُ تشق طريقها وسط جبال الأطلس، وكان يِدير يجلس في المقعد الأمامي يتأمل الثلوج البيضاء على أعلى القمم، ويرى الطريق أمامه تنعرج يمينا وشمالا صعودا وهبوطا مثل مفتاح صول حيناً، وأحيانا كأنها ثعبان أسود طويل؛ فتح السائق الراديو، فانطلقت منه أنشودة تقول:
يا لَطِيفَ الصُّنْع يا من كُلّما
دَهَمَ الأمرُ جلا ما دَهَمَا
استجب منا دُعانا كرماً
يا كريم أنت رب الكُرَمَا
يا غيّاث المستغيثين ويا
ماضي الحكم إذا ما حكما
فرّج الأمر علينا سرعةً
إنما الأمر علينا عَظُمَا
عاد طيفُ والدته تودة يتراقص أمامه، وتَذَكَّرَ حكاياتها له، وهو ينام إلى جانبها، تدثِّره بغطاءٍ صوفي سميك، وتذكر الصمعية وهروبها من العيساوي ، واحتماءها ببطن داوود، وغدرها به، ثم خروجها منه جثة هامدة ممزقة. في الحافلة، وبعد أربعين عاما، كشف أخيرا لغز أبياتِ “صمعية” لم يفهم معناها، ألهمها الله داوود، فدعا بهن وفرج الله بفضلهن وبَرَكَتِهِنَّ كربته.