الاقتصاد التربوي
ذ. محمد افكيرش
مفتش للتعليم الثانوي
نشر بمجلة النــداء التربـوي، العدد 16-17، السنة العاشرة 1429 هـ-2008،
الصفحات من 22 إلى 26
توطئة:
عندما يعزب عن فكر المشرع التربوي أصل يستمد فيه ثوابته، بل عندما يفتقد معينا ثاقبا يخترق به حجب الهيمنة الفكرية والغزو المالي والتبعية المستغربة، نجده يترنح بين موجات العصرنة الجاهلة، والنعرات القومية، والعرقية والمذهبية الجارفتين، ولاء تارة وتعصبا أو تقليدا تارة أخرى.
العمران الأخوي مطلب أصيل في فكرنا ومراجعنا، إنه ضامن متميز لقومة ناهضة، وصحوة واعدة، نتخلص بهما من بواعث التخلف والركوض والركون إلى الذين ظلموا.{هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} سورة هود الآية: 61
الناطقون بأسماء لا سلطان لها، يحدثون أنفسهم عن النظرية العلمية الثالثة! وعن “المذهب العلمي” في المكسب، وعن التنمية الشاملة في المطلب، أو عن الإنتاج الذي يصهر ويذيب الهوية والأخلاق، ثم عن مسارات الحضارة والتاريخ، إلى التقدمية الهجينة، والتطور الرجعي: شعارات تلهب حماس المقلدة المنهزمة عن رعاع القاعدين المخلفين، من الذين تولوا، أو استغشوا ثياب التبعية عن علومية معاشية وعن انبهار. {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} سورة الكهف الآية:104.
“ليس من الممكن أن نقلد نموذجهم في التنمية، لأننا لا نملك قاعدة صناعية، ولا اكتفاء فلاحيا، ولا قوة عسكرية لكي نجعل العالم مجالنا الحيوي بالمعنى الاستعماري، ولكي نتعامل معهم بالمثل، نحن في موقف ضعف، وتقليدنا لنموذجهم يزيدنا ضعفا إذ يُعَرض محاولاتنا التنموية للفشل، نظرا لانعدام الشروط التي سمحت لهم في ماضيهم وحاضرهم بالهيمنة السياسية والاقتصادية.[1]
القاعدة:
إن كلفة التعليم، وزمن التعلم وقيمته، يشكلان قاعدة التنمية الحقيقية، أما محتويات التعليم وموارده البشرية والمادية فيعبران بدورهما عن ماهية العرض التعليمي ومدى تلاؤم منتوجه سوقا وغايات، مع ما ينتظره الشعب ويسعى إلى تحقيقه.
المراجــع:
التخطيط والإعداد والقسمة والحِسْبَة والتدبير والتوزيع والإنتاج والادخار، والكلفة والفعالية، والمردودية معالم لمنظومة دلالات تقابلها مصطلحات المصالح والتحالفات، والفوائد والأولويات ثم الاستراتيجيات فالاستثمارات إلى الأساليب والمحيطين الاقتصادي والسياسي آليات تجعل منها ودائع لبرامج ومخططات وخدع نمر عليها كراما رغم حمولتها المريبة التي لا تدعم أساسا إلا تصورات تربوية دخيلة ومناهج عادة ما توطد وزر “التطور” المشروط والتغير الهيكلي لدمى الهمينة والربح العاجل لكل منوع ممن أصابه خير، ولكل جزوع ممن قدر عليه رزقه…
كيف نحدد موازيننا حتى نرجح الترشيد والعقلنة الخادمة للقلوب والأبدان على غيرها ؟
مشروع الاقتصاد التربوي:
لكل أمة مشروعها وقيمها وضوابطها التي تستمد منها تصورها ومنهجها في الحياة فالداعون للمدنية يرون في الحداثة والعلمنة والفكر الإيديولوجي مطالب مرجعية أساسها الانخلاع والانسلاخ من كل جميل بدعوى التقدمية والتطور والواقعية.
والرجعيون المقلدون ينظرون إلى النموذج المستورد أو غيره فيرون فيه وفي نقله بحذافيره مسلكا مختصرا للقفز على العلوم وللوصول.
“ونرى بدورنا في العمران الأخوي، وفي التربية المنهاجية والتنظيم والتعبئة والنصرة وطلب وجه الله لخير الدارين، منطلقات تتظافر فيها مقومات الحكم العادل والسلطة المعرفية.
فإذا انطلق غيرنا من المتغيرات باسم التطور والتقليد الرجعي والمصلحة أو النفع، انطلقنا نحن، من الثوابت ومن القواعد كتابا وسنة”.[2]
يقول “جوزيف ستيكليز” الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001 [3]، يقول: “إن أكبر تحد في الاقتصاد العالمي المعاصر يتجلى في العقليات لا في المؤسسات”.
الإطار:
الاقتصاد التربوي أداة تفعيل واقتصاد في الجهد التربوي سعيا وراء تقليص متزن لكلفة التربية والتعليم، وترشيدا للميزانيات والنفقات.
فكلما انحصرت قيمة الفرد في إنسانيته (البيولوجية) الحيوية وقيمة الجماعة في الأعراق والأنساب والعشائر، والأمة في جغرافية الجولة القطرية عدوانا وتطاولا، إلا ونظر إلى الاقتصاد فردا بالأنانية ومبادرات الجشع والطمع والسطو والاعتداء أو البخل والاستكبار، وجماعة بالحق والواجب والموضوع -الواقع- دونما أي صلة أو وجدان، ثم نظر إليه أخيرا في الأمة من خلال المصلحة والعدوان والنفع ثم الاستغلال والظلم والهيمنة والاستعمار.
المفهوم:
ما هو الاقتصاد والاقتصاد التربوي؟
1- “وردت كلمة (قصد) واقتصاد في الكتاب والسنة بمعنى الاتجاه إلى الهدف المقصود، وبمعنى التوسط في الأمر، في مثل قول الله عز وجل:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} سورة لقمان الآية 19. عن لقمان يوصي ابنه، وفي مثل قوله عز وجل: {وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} سورة فاطر الآية:32، المقتصد هو المتوسط. وجاء في الحديث الشريف لفظ القصد والاقتصاد بمعنى التوسط والمداومة والسير”.[4]
2- لا فصل في النظر الأمريكي بين الاقتصاد والاقتصاد التربوي كما سيأتي. فالاستراتيجية العامة تجعل من التربية والتعليم عناصر مندمجة في مساق واحد. وهذا ما يعطي للمدرسة الأمريكية فعاليتها المتناسقة داخل النسيج الاقتصادي والاجتماعي.
فالاقتصاد التربوي شعبة علومية تهتم بترشيد وعقلنة الفعل التعليمي التعلمي سياسة وإدارة، وتمويلا وتأطيرا وتوزيعا. فهو إذا عمل – نظامي-، يسعى إلى تقويم التوجهات الكبرى للبلد إملاء أو اختيارا.[5]
لماذا الاقتصاد التربوي ؟
يلاحظ المهتمون بالحقل التربوي عامة تفاوت نتائج التنمية والتغيير في مخرجات الفعل التعليمي التعلمي وما مظاهر بطالة الشباب ذوي الشهادات وانقلاب أسس الكسب والعيش من الفكري إلى اليدوي، إلا تجليات ومظاهر للمفارقات الجوهرية بين الكلفة التربوية والمردود الاجتماعي: مدة التمدرس الطويلة، وتفاوت الكفايات من منظومة تعليمية إلى أخرى، وتذبذب وتيرة النموذجين، واقع الإصلاحات وخلفيات البرامج والمناهج التعليمية.
فانقلاب المحتويات من جوهرها القيمي إلى مظهرها العلومي المبني على برمجة صورية في حلة “معلوماتية-استيلابية ينقل الكلفة التربوية في منظورها التقني ليجعل الميزانيات تنصب على أداة الفعل التعليمي التعلمي -الوسيلة- عوض أن تهتم بالفاعل ومحور الفعل أي التلميذ.
هذا السياق الذي يرى الانعتاق في جلب أدوات التقدم الاستهلاكي يكرس التبعية ويعفي أصحابه من البناء وتوطين التكنولوجيا وتمكين أجياله من تحصيل وكسب أسس العمل ومقومات التحرر. فكل تجديد لا يتأسس على منهاج واضح المعالم، شامل السياسة، ناضج التربية قد يحصر أفقه وتختلط وسائله. فنبتة البذل والجودة والحرية غراس على تربة التدبر والتفكر وإرادة البناء.
إشكالية الاقتصاد التربوي :
يعود البناء الاقتصادي عامة إلى عنصري العرض والطلب، غير أن محاولات التعامل هذه داخل المنظومة التربوية قد تتسبب في نقلها نقلا جافا تفرضه قيم التدافع والتضارب السوقي. فلا ترى في الكينونة البشرية سوى موردا من الموارد. فيصبح البشر مجرد أدوات إنتاج أو وسائل إنتاج وهياكل استثمار: مادة الطلب والوفرة التي تنادي بها نظريات الإنتاج والجودة التي تتشدق بها أخلاقيات الآليات، لا تمثل سوى باطن العملة التي تبرر بدورها تصرفات الاستغلال والاستبداد عبر الإعلانات والإشهار المزيف. [6]
الهوامش
[1]/ – الأستاذ عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، مطبعة الأفق، 1995، ص: 79.
[2] /- محمد فكيرش، L’autre pouvoir، مطابع تريفة المغرب، 2003، ص ص : 153-173.
[3] /- المقال نشر بمجلة (إيكونوميا) لشهر شتنبر 2001 بالصفحتين 22 و23 وهي مجلة تصدر بالمغرب.
[4] /- الأستاذ عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، مرجع سابق، ص: 74.
[5] /- لمزيد من التفصيل انظر العدد 5-6 من النداء التربوي.
[6] /- حصر المجلس الوطني الفرنسي للتنسيق والبحث التربوي لسنة 1998 مجالات البحث في أربعة مجالات:1) الديداكتيك،2) علم النفس، 3) العلوم التربوية بما فيها البيداغوجية. 4) علم الاجتماع التربوي بما فيه الاقتصاد والتاريخ.