منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

حوار مع الأديب المغربي الأستاذ نور الدين النبهاني

حوار مع الأديب المغربي الأستاذ نور الدين النبهاني/ الأستاذ محمد فاضيلي

0
الفهرس إخفاء

حوار مع الأديب المغربي الأستاذ نور الدين النبهاني

حاوره: الأستاذ محمد فاضيلي

يتشرف موقع منار الإسلام باستضافة الأديب المغربي المتميز الأستاذ نور الدين النبهاني، صاحب الخيال الواسع والقلم المبدع السيال والنفس السردي الخصب، للحوار معه حول تجربته الأدبية الفذة ورأيه في قضايا متنوعة تتعلق بالأدب والأدباء.

1) الأستاذ الأديب نور الدين النبهاني، أهلا وسهلا بكم ضيفا عزيزا على موقع منار الإسلام..

في البداية يود رواد المنار الكرام التعرف عليكم، فكيف تقدمون نفسكم للقراء، وما أهم المحطات في حياتكم الشخصية؟

أتقدم بتحية الإسلام إلى كل من سيطلع على هذا الحوار، و أقول لهم السلام عليكم ورحمة الله تعالى و بركاته، متمنيا من صميم قلبي أن يكون هذا الحوار حوارا مفيدا و شيقا ..

كما أتقدم بجزيل الشكر والتقدير للأستاذ الفاضل سي محمد فاضيلي على تفضله بإجراء هذا الحوار معي.. وأن يتحمل ثرثرتي .

كما أتقدم بكثير من التقدير و الاحترام لموقع منار الاسلام وللساهرين على استمرار تألقه و نجاحه وتميزه عند المتابعين و القراء ..

في الحقيقة لا أعرف كيف أقدم نفسي، ولا أجد مميزات تميزني عن غيري .. فأنا شخص ما يميزه عن باقي الأشخاص هو اسمه ..

نورالدين النبهاني أستاذ متقاعد .. التحق بنادي اليتامى وهو في سن التاسعة من عمره .. يعني عرف اليتم و الحرمان في سن مبكرة، من مواليد الدارالبيضاء منتصف سنة 1958 بدرب الفقراء وهو بالنسبة له اسم على مسمى حيث عاش فقيرا، وترعرع بين أسر فقيرة تجمع بين الأمل و  الألم، بين فقر المال و غنى النفس.

متزوج وأب لثلاثة أبناء ..اثنين مهندسي دولة، و آخر العنقود تدرس بالاعدادي، يخربش بالكتابة في المسرح و القصة ليعبر عن مكنونات نفسه .

2) أكيد أن لكم صلة وثيقة وعشق عارم للأدب، فهلا حدثتمونا عن صلتكم بالأدب والأدباء، وأهم الشخصيات والمدارس التي تتلمذتم عليها وبلورت شخصيتكم الأدبية الفذة؟

أهم المحطات في حياتي الشخصية و التي لها صلة بالأدب و الأدباء تنطلق من مدرسة سعد بن أبي وقاص الابتدائية التي زودتني بأسلحة محاربة الجهل، فتحت لنا أبواب القراءة حيث اصطحبنا الأستاذ امحمد الطنجاوي رحمه الله في إحدى المناسبات إلى دار الشباب ببوشنتوف للقيام بجولة استطلاعية و التسجيل بأحد الأنشطة المزمع القيام بها، خصوصا أنها كانت حديثة الافتتاح، وذلك بداية سبعينيات القرن الماضي، ساعتها انبهرت بالمكتبة، و عدد الرفوف، و الكتب و المجلدات، وأماكن القراءة و الكتابة.. كراسي.. موائد ولوحات ملعقة على الجدران، و هدوء..أشبه بهدوء المستشفيات .. لا تسمع إلا همسا، تسجلت بها طبعا، وأصبحت ضمن روادها بشكل يومي بعد الخروج من المدرسة كل مساء ..

ومن خلال هذه المكتبة التي أعتبرها الحضن الثالث الذي ضمني إلى صدره، بعد حضن أمي وفضاء المدرسة .. سأتعرف من خلالها على مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي وكتب جبران خليل جبران ومقالات سلامة موسى .. فأشكل من أساليبهم و ثرائهم في اللفظ و التعبير ثروتي اللغوية.

في الإعدادي سأتفرغ لقراءة (دائما بنفس المكتبة ) مؤلفات عميد الأدب العربي طه حسين، و العقاد وأنيس منصور، وسأتعلم منهم ترتيب الأفكار و الأحداث و تقديم الأولويات.

وأنا في التاسعة إعدادي سيختارني و يضمني الأستاذ المرحوم عبد العظيم الشناوي إلى خلية الكتابة المسرحية، حيث كان يعطي دروسا في المسرح بدار الشباب، وهو بالمناسبة أستاذ التعليم الابتدائي يدرس بنفس المدرسة التي كنت أدرس فيها (سعد بن أبي الوقاص )،
ولأني ضيف دائم على المكتبة فقد غيرت وجهة قراءاتي وانكببت على قراءة كتب المسرح، انطلاقا من المسرح اليوناني، مرورا بأغلب مدارس المسرح، فتعرفت أثناء ذلك على مجموعة من مؤلفي المسرحيات مثل جورج بيرنادشو و شكسبير و موليير و بريشت، ولا زال تأثير بعضهم بارزا في كتاباتي حتى و أنا أكتب القصة .

قبل سفر الأستاذ عبد العظيم والتحاقه بإذاعة البحر الأبيض المتوسط بمدينة طنجة قدمني للمرحوم حوري الحسين الذي ضمني إلى فرقته المسرحية.
ذات مساء، وأنا بالمكتبة كالعادة، منكب على القراءة دون اهتمام بمن حولي، جلس بجانبي حوري الحسين و سألني رحمه الله ماذا تقرأ ؟

قلت له مبتسما مسرحية أوديب للأديب توفيق الحكيم .. أخذ الكتاب من بين يدي.. أغلقه، ثم قال لي :

“هل تعرف دوستويفسكي ؟!..”

رآني مستغربا لأني لأول مرة أسمع هذا الاسم و لا أعرف من يكون .. فقال لي:

إذا لم تطلع على الأدب الروسي فأنت لا تعرف شيئا عن الأدب ..وانسحب.. وتلك كانت عادته، حين يلقي فكرة ينسحب ليترك المتلقي يفكر و يتأمل كلامه .. وهكذا دخلت إلى عالم الأدب الروسي وتعرفت على هؤلاء العمالقة .. ليو تولتستوي و مكسيم غوركي وغيرهم .. وانتاجاتهم الإنسانية، والعالمية.

صراحة، لعبت مكتبة دار الشباب بوشنتوف دورا كبيرا في تكويني المعرفي والشخصي .. -اين لفتى يتيم فقير – الإمكانيات ليطلع على كل تلك الكتب،  و يتعرف على كل تلك المدارس، وكان مولاي أحمد المشرف على المكتبة وهو رحمه الله من أهل فاس يوجهني لنوعية الكتب، و أحيانا يسمح لي بأخذ بعض المؤلفات إلى المنزل ..كان رحمه الله ذا هيبة ووقار.. أذكر أنه كان دائما يحمل معه مظلة طول السنة .. تقيه في فصل الشتاء رذاذ المطر و في فصل الصيف أشعة الشمس .. ويستعملها عكازا يتكئ عليها في باقي الأيام ..كان موسوعة ثقافية متنقلة، إذا سألته عن كتاب، أعطاك بكلمات موجزة نبذة عن حياة الكاتب و ملخص عن كتابه.

رحم الله شيوخنا مدرسين و فقهاء و علماء، كانوا لنا آباء و أولياء، تحت رعايتهم لم نحس باليتم ، و لم نشعر بالضياع ، ولم نتعرض للانحراف.
وأذكر مرة طلبت كتاب مقدمة ابن خلدون فابتسم وقال لي: لم يحن وقت قراءتها بعد يا ولدي، وسلمني كتابا للمرحوم سيد قطب “معالم في الطريق “.. لأعرج بشغف على قراءة مؤلفاته ومؤلفات الكواكبي و محمد عبده و الطنطاوي .

ذات مرة استدعاني مولاي أحمد، وسألني:

” لماذا لا تستعير من المكتبة الدواوين الشعرية ”

فاجأني بالسؤال وكانت له هيبة ووقار رحمه الله، فقلت له :

” لا تستهويني فقط “..

فقال لي:

” إذا لم تتذوق الشعر فلن يكون لك شأن في المستقبل، ولا استمتاع بالحياة .”

ثم ناولني ديوان المتنبي..

لا أعرف المعايير التي اتخذها في هذا الاختيار لكن هكذا حصل ..وكنت أكن له تقديرا كبيرا ..كما أن من عادتنا في ذلك الوقت ألا نراجع أساتذنا في قراراتهم .
بالإضافة إلى المكتبة و ما قدمته لي من أدب في طبق من ذهب، كان هناك  رواد المسرح بدار الشباب، الأساتذة التسولي محمد  و فراح محمد و حوري الحسين  و لخويل محمد  و أسماء أخرى غابت عني الٱن .

هؤلاء الذين تعلمت منهم تقنية الكتابة و أسرار المسرح و خباياه.

بالمناسبة لم أفكر في كتابة القصة القصيرة و الرواية إلا قبل تقاعدي بثلاث سنوات، لأن كل اهتمامي كان مع المسرح ابي الفنون الذي تقاعد عن وظيفته،

وانسحب من الساحة البيضاوية، و تركنا نجتر أمجاده وتألقه سنوات سبعينات و ثمانينات و تسعينات القرن الماضي..

3) إبداعاتكم استاذ نور الدين تلقى رواجا وإقبالا كبيرا لدى القراء، فهلا حدثتمونا عن تجربتكم الأدبية وخصائصها ومميزاتها؟

تجربتي في المسرح عميقة تمتد لسنين منذ نعومة اظافري، وبين جدرانه عشت اغلب اطوار حياتي، لكن بالنسبة للقصة القصيرة والرواية فالتجربة صغيرة وقصيرة بل إنها مولود حديث، لا زال يتعلم المشي .. فتجربتي في المسرح بكل تقنياته وأدواته، التي امتدت لسنوات، وما حققته بعض المسرحيات من نجاح في ذلك الوقت مثل مسرحية أولاد الحومة، و حومتنا .. دعمتني اثناء انتقالي إلى القصة، هذا الانتقال جاء بحكم الضرورة .. حيث بدأت بتحويل بعض المشاهد من مسرحياتي إلى قصص قصيرة .. المفاجاة أنها حققت نجاحا وتجاوبا وجعلت الكثير من القراء يتعرفون علي .. ويتواصلون معي و يطالبونني بالمزيد.. وبالتدريج وجدت نفسي في قلب الحدث .. ومع المشاركين في القافلة.

ما يميز كتاباتي هي الواقعية، إذ أن كل النصوص إما عشتها، أو عايشتها ، او سمعت عنها من احد الأصدقاء حدثت له أو لأقربائه. وطبعا للضرورة الدرامية والتشويق أدخل عليها من توابل فكري وخيالي وتجربتي في الحياة.. هناك قصص خيالية مئة في المئة مثل قصة وردة في سوق السمك، التي خطرت لي فكرتها وانا في السوق النموذجي لمدينة ابن أحمد أثناء شراء السمك، والأغرب ان بعض القراء اتصلوا بي من مدينة الجديدة، وقالوا لي إنهم يعرفون وردة، وسبق لهم أن تعاملوا معها، بل إن أحدهم اتصل بي وقال لي إن ابنتها تريد ان تعرف منك أسباب التغييرات في القصة، هل هي إضافات خيالية أم حقيقية .. بمعنى أن كل أحداث قصصي تكون من مخزون ذاكرتي، تكتلت.. تكونت عبر السنين مما شاهدته .. أو عايشته، او سمعت عنه .. يتسرب من ذاكرتي حسب الظروف و الأحداث .

4) يقول أحد الشعراء:”القصيدة التي لا تدل علي لا حاجة لي بها ولا حاجة لها بي”هل توفق الأديب النبهاني في إنتاج نصوص أدبية تدل عليه؟

كل نص من النصوص التي كتبت بنيت في جزء من ذاكرتي .. من ذكرياتي .. من تجاربي .. من تطلعاتي .. حتى وأنا أكتب عن الآخر ..مهما حاولت ان أفصله عني، أو انفصل عنه .. لا بد ان تجد جزءا من مشاعري مبعثرة هنا او هناك ..
لا تخلو قصة لي من وجود جزء من ملامحي تحملها إحدى شخصيات القصة .

5) لكل أديب رسالة، فما رسالة الأستاذ النبهاني التي يروم تمريرها من خلال أدبياته؟

كأي مواطن مغربي يعتز بهويته المغربية، و يفتخر بحضارته الأمازيغية العربية الإفريقية المسلمة التي تمتد جذورها في عمق التاريخ إلى اثنى عشرا قرنا، فإن كتاباتي تظل محلية في محيط المغرب و قضاياه ومعاناة مواطنيه، لذلك ستجد أغلب قصصي تحوم حول ثلاث محاور رئيسية .. التعليم .. الصحة .. والأسرة .. أؤمن بشكل يقيني ان أهم إنجاز ممكن أن تقوم به أي دولة هو بناء المواطن، بناء الإنسان ، حتى تضمن به نجاح التنمية و النهوض بالأمة، لتحقيق ذلك لابد ان توفر الدولة لطالب العلم تعليما جيدا، وللمريض مستشفيات مجهزة بأسرة و أطباء و ادوية، وتضمن للطفل العيش الكريم في أسرة متماسكة و مستقرة نفسيا وماديا.

مثلا في قصة “الفقيه العسكري” حين أصيب بكورونا نقلته ساكنة الدوار إلى مستوصف القرية الذي لم يكن مجهزا، فتم نقله إلى مستوصف الدائرة الذي لم تكن به أدوية، و في طريقهم إلى مستشفى المدينة فارق الحياة وهو على أبواب المستشفى.
مؤلم جدا إلى حد الوجع ان تقع حادثة سير لحافلة في الفقيه بن صالح ويتم نقل الجرحى إلى مستشفى خريبكة .. فمستشفى سطات .. ومنه إلى مستشفى الدارالبيضاء، ليستقر المقام بالجرحى الذين نجوا من الموت وهم في الطريق إلى مستشفيات الرباط.
فقصصي تجدها تشير من بعيد او قريب بشكل مباشر او غير مباشر إلى هذا المثلث، بالإضافة إلى التنويه بالقيم الكونية في الحب و العطاء و السخاء وغيرها.

6) كيف يستدعي الأديب نور الدين النبهاني شخصياته الأدبية، ومتى يرى نفسه في حاجة للكتابة والإبداع؟

ليس من عادتي أخذ ورقة وقلم و الشروع في كتابة قصة بل إن القصة هي التي تختارني وتقتحم عالمي، و ترغمني على الكتابة.
واغتنم الفرصة لأنوه بزوجتي لتحملها سلوكاتي، فهي حين تراني ساهما شاردا انظر في الفراغ لبضع ثوان او دقائق، لا تكلمني، و تنسحب متسللة من الغرفة، وتتركني وحيدا مع بنات أفكاري ..فقد أصبحت تدرك بحكم تجربتها ان حبل الأفكار اهون من خيوط العنكبوت ويحتاج إلى الصمت والتركيز.. وإلا انقطع الحبل وضاع المنتوج الأدبي .

7) لكم رواية بعنوان: اومحند، هلا حدثتمونا عن هذه الرواية؟

لقد اطلعت على انتاج العديد من الكتاب و أعجبت بالكثير منهم، لكن أكثر الكتاب الذين تركوا بصمة في طريقة كتاباتي نجيب محفوظ وجرجي زيدان، حيث أخذت عنهما منهجا أسير عليه، وهو ملاحظة الظواهر الاجتماعية، و توثيقها تاريخيا في قالب قصصي .. فرواية اومحند تؤرخ و توثق لكل الأحداث بتفاصيلها، التي عرفها المغرب أثناء الحجر الصحي الشامل بسبب جائحة كورونا، وما عاناه المواطن المغربي البسيط، و الأسر التي تعيش تحت عتبة الفقر، وضمن هؤلاء اومحند ..
من هو اومحند؟!.
اومحند مغربي امازيغي جاء إلى الدارالبيضاء هاربا من قريته، نواحي تارودانت، بعد زواج والدته وإحساسه باليتم والتهميش، وقد أنجبت إخوة آخرين غيره من زوج آخر .. لم يكن يتقن أي حرفة ، فامتهن مهنة نادل باحد المقاهي، و لتحسين وضعه المادي كان يشتغل مع ممول حفلات يومي السبت و الأحد، وهناك سيتعرف على زوجته التي هي الأخرى تشتغل مع ممول الحفلات في غسل أواني الأعراس بالمطبخ .. تزوجا و أنجبا خمسة أطفال، و اشتريا شقة بالقرض في السكن الاقتصادي، و كل الأمور عادية ومستورة ، فجأة تحل الجائحة، وتغلق المقاهي و المدارس و..وتغلق الدول كل الحدود ويغلق معها باب رزقهم .. ليجدوا أنفسهم معرضين للتسول والاستنجاد بالآخرين، مع تراكم الديون، و قروض البنك، وفاتورات الماء و الكهرباء، دون الدخول في التفاصيل اليومية التي عاشها اومحند و زوجته و أطفالهم، خصوصا وان أصغر أطفاله يعاني من مرض التوحد ..
الرواية لم تنته بعد، لا زالت هناك عشر حلقات لم تكتب و لم تنشر.. في انتظار نهاية سنة 2022 لتوثيق بعض الأحداث فيها، مع العلم ان أحداث الرواية تبدأ مع منتصف شهر مارس 2020.

اومحند ظاهرة اجتماعية فريدة من نوعها لم يعش مراهقته، وليست له فتاة أحلام، و لا يعرف شيئا عن الحب و الرومانسية، أو السفر أو الاستجمام ، لا يعرف إلا العمل.. ايمانا منه بأنه خلق للعمل ولا شيء غير العمل، ورسالته في الحياة هي الإنجاب عن طريق الزواج .
الغاية من الرواية أن لا تثق في الزمان، وان تدخر القرش الأبيض لليوم الأسود، وان تستثمر اموالك في تعليم أبنائك تعليما جيدا. هذا هو الاستثمار الحقيقي الذي يضمن لهم المستقبل الزاهر .. ان لا تقف مكتوف الأيدي امام الظروف، بل ان تتحرك في كل الاتجاهات لأن الحركة بركة و العمل رزق يعفيك عن مد يدك .

8) ما رايكم استاذ في الأدب الرسالي، وكيف نجعل من أدبنا رساليا يروم الإصلاح والتغيير والدعوة للمكارم ومحاربة الرذائل والتفاهات؟

طبعا لابد من رسالة، و لا قيمة لأي منتوج أدبي لا يحمل أي رسالة ذات حمولة إنسانية وقيم اخلاقية و تجارب بشرية،  وكلما كانت الرسالة قوية ضمنت للمنتوج الأدبي النجاح والانتشار ، و تمكنت من تحدي الزمان و المكان ، و الوصول إلى العالمية بفضل الأساليب الدقيقة في التعبير عن المعاناة الإنسانية، و الرسائل التربوية، الزاخرة بالقيم الكونية و الأخلاق النبيلة..

9) ما رأيكم في الأدب الإلكتروني، وهل استطاع خدمة رسالة الأدب وتعويض الأدب الورقي في ظل عزوف الشباب عن القراءة؟

في الحقيقة، الأدب الورقي لا يمكن تعويضه، فللكتاب مكانة خاصة عند القراء لأنه الصديق المفيد، و أنا من الأشخاص الذين لا تحلو لهم القراءة بشكل ممتع إلا بين دفتي الكتاب .. وفي نفس الوقت لا يمكن ان ننكر خدمات الأدب الإلكتروني الذي يسر الأمور و شجع العديد على القراءة ، و متابعة المنتوجات الادبية المغربية بصفة خاصة و الأدب العربي و العالمي بشكل عام، مثلا حين كنت أنشر قصصا قصيرة جدا، كان لي أصدقاء لا تستهويهم القراءة ، لكنهم كانوا يتابعون تلك القصص و يعلقون عليها، ولما رفعت من إيقاع القصص، و ضاعفت من مساحة القصة و حجمها، توقفوا عن المتابعة، لأن الشباب لا يستحمل قراءة قصة او مقالة كبيرة الحجم و تحتوي على عشرات الفقرات، يعني ان عزوف الشباب عن القراءة حقيقة ثابتة خصوصا للمجلدات و المؤلفات ذات الأجزاء و الروايات .. مثلا حين تقاعدت وعدت إلى مسقط رأسي .. زرت مكتبة دار الشباب بوشنتوف للمطالعة بعد غياب استغرق أكثر من أربعين سنة، لكني فوجئت باختفائها، وقيل لي لقد تم الاستغناء عنها لعزوف الشباب عن القراءة، و عدم وجود منخرطين بالمكتبة، و أصبحت تلك القاعة خاصة بالتداريب الموسيقية.

بل إن الكثير من الكتبيين نظرا للكساد السائد حولوا مكتباتهم إلى مشاريع تجارية مربحة كالمحلبات و مطاعم الاكل الجاهز ..
لكن في اعتقادي، إذا تكاثفت الجهود وانصبت في الأدب الالكتروني، سيرتفع منسوب القراءة، و الاهتمام بالادب وباقي المعارف الدينية والعلمية، حتى يكون هناك تقارب بين الاهتمام بغذاء البطن و غذاء الروح .

10) علاقة الأديب النبهاني بالنقد، هل هي علاقة تلاق او تنافر، تقارب او تباعد؟

والله علاقتي بالنقد فيها مد و جزر، و فيها تلاق و تنافر حسب نوعية الإبداع، و حسب تفاعل القراء و نوعية التفاعل الذي ينبني عليه النقد .. هناك نقد يرفعك إلى السماء وآخر يجعلك تعيد حساباتك و اهتماماتك و كتاباتك .

11) بحكم تجربتكم التعليمية الكبيرة، كيف تقيمون واقع التعليم بالمغرب، وهل من سبل للإصلاح؟

لكل داء دواء، و لا يمكن إيجاد الدواء المناسب والفعال دون معرفة أصل الداء ، أكثر من اربعين سنة و نحن في عملية الإصلاح دون جدوى بل إن الأمور تزداد سوءا ، و التعلمات في تقهقر مستمر .. كفانا من الترميم و الترقيع ، اسرة التعليم يجب ان تكون في قلب الإصلاح .. مشاركة و فاعلة .
إن الحدود الدنيا التي وصل إليها التلميذ في المكتسبات المعرفية تعود بالدرجة الاولى إلى السيطرة المطلقة للخريطة المدرسية التي تتحكم في نسبة النجاح ، و تجرد الاستاذ من أحقيته في هذه النسبة وهو أدرى بمستوى قسمه و مكتسبات تلاميذته.
إصلاح التعليم في اعتقادي مسؤولية الدولة قبل الوزارة ..لأن الإصلاح هنا يجب ان يبدأ من الإعلام و القنوات الرسمية ..لأن منتوجها موجه للأب و الأم اللذين سيربيان ذلك الطفل قبل ذهابه الى المدرسة، و إلى الأسرة التي يعيش فيها ذلك الطفل ..فانت تعطيني إعلاما رديئا ينعكس إنتاجه السيئ على الأسرة ، و تنتظر طفلا مؤدبا و مهذبا و منضبطا .

إن إصلاح منظومة التعليم يجب ان يكون في شموليتها، و لإزالة هذه الصورة المشوهة التي يراها و يعيشها المجتمع المغربي .
صورة يعرفها الجميع وهي :

الوضع الاجتماعي و الاعتباري للمدرس غير مشرف بل بالتعاقد ازداد هشاشة .. وضعية المؤسسات في كثير من المناطق البعيدة و النائية مزرية لا تشجع على التدريس .. كثرة المواد واغلبها لا محل له من الإعراب زاد الطين بلة .. الاكتظاظ الذي يجعل الاقسام اشبه بالأسواق ويصبح التدريس التفاعلي مستحيلا، و بالتالي تصبح الجودة في خبر كان .. غياب الادوات و الوسائل التعليمية المساهمة في العملية التعليمية التعلمية منعدمة او قليلة جدا تجعل الدروس جافة و مملة و و و الخ ..

إصلاح التعليم مرهون بفتح حوارات جادة مع مجالس التدبير بكافة المؤسسات التعليمية ، وليس مع مؤثري اليوتيوب و مؤثرات الانستغرام كما فعل وزير التعليم في السنة الماضية .. مضيعة للوقت ان نُشرك في اصلاح التعليم النقابات و الأحزاب و المؤثرين، و نهمل مجالس الأقسام التعليمية و نسقط من حساباتنا مجالس التدبير و مديري المؤسسات التعليمية..عند هؤلاء يكمن الداء و الدواء .. العلة و المعلول .. الصلاح و الإصلاح ..بحكم خبرتهم و تجربتهم و احتكاكهم اليومي ، و اطلاعهم على واقع التعليم وأسباب انتكاساته..

وطالما الرياضة اصبحت تابعة لوزارة التعليم فيجب ان يستفيد رجل التعليم بنفس التحفيزات ، و الامتيازات ، و الآفاق المفتوحة في المسار ، و التكوين المستمر كما تستفيد الفرق الرياضية و اللاعبون في كرة القدم .. وألاّ نكيل بمكيالين ..كل السخاء للرياضة و كل الجفاف في ميدان التعليم .

12) باعتباركم استاذا متقاعدا، بم تنصحون المتقاعدين، وهل يمكن الحديث عن ادب التقاعد؟

بحكم تجربتي الصغيرة التي تشكلت لدي خلال ثلاث سنوات في عالم المتقاعدين ، و إن كان يحق لي ان أدلي بنصيحة للمتقاعدين.. ان يشغل المتقاعد نفسه بممارسة هواياته التي حرم منها لسبب ما . المهم ان تكون هذه الهواية تعود عليه بالنفع صحيا او ماديا او نفسيا ..وان لا يستسلم للفراغ و الخمول ..اما فيما يتعلق بالادب فلست مع الأشخاص الذين يصنفون الادب .. بين ادب المهجر و ادب النساء و ادب المتقاعدين وغيرهم .. الادب واحد ..الجيد فيه ينتشر . و الرديء منه ينحصر بين الرفوف .. الادب مثل الحب لا يعرف الفوارق سواء في العمر او في المكانة الاجتماعية او المركز الثقافي ..حين ياتي جارفا يجر صاحبه حيث يريد .. بغض النظر عن سنه ..مثل رواية شيفرة بلال كتبها شاب هو احمد خيري العمري ، جعلتني أصاب بالتخمة لمدة اسبوع لم اقرأ اي كتاب ..من كثرة تدفق المشاعر الانسانية التي كانت تتدفق بين سطور الرواية وهي تحكي عن طاقم امريكي ينجز فيلما عن بلال بن رباح مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم في امريكا ، وهناك طفل اسمه بلال من ام مسيحية و اب عربي لا يعرف شيئا عن اسمه ، ومصاب بسرطان الدماغ كل ما يعرفه ان والده كان مارا في الشارع فاتصلوا به من المستشفى يبلغونه أن زوجته انجبت ولدا ، رفع رأسه، فصادف وجوده قبالة مسجد بلال بن رباح فقرر تسميته بلال ، هذا الطفل كانت ايامه معدودة في الحياة حسب تقارير الأطباء، فحاول استغلال تلك الايام المتبقية له، وخرج في رحلة بحث عن طاقم الفيلم لمعرفة معنى الاسم ولمن هو ؟..و عن والده المعتقل باحد السجون الامريكية، و عن الله و الموت، لان عقيدته كانت مضطربة بين مسيحية والدته التي تقوم بتربيته، و العناية بمرضه، و بين إسلام والده الذي لم يره منذ سنوات، في رحلته سيزور والده في السجن و سيؤمن بان الدين عند الله الاسلام، و ان الموت هي بداية لحياة اخرى و سيعرف قصة بلال وسيموت و هو مطمئن بدينه و متشبع بايمانه .
وفي المقابل ستجد رواية عزازيل كتبها شيخ من جيلي هو يوسف زيدان يتنقل بك بين مناطق الشرق الأوسط و بين المعتقدات في فترة دقيقة عند المسيحيين وهي فترة مابين 200 و 400 ميلادية، و يجعلك تلهث خلفه لتلحق به و باحداث الرواية .
إذن الادب يشبه العشق الصادق الجارف الذي لا يعترف في العطاء و الإبداع بالسن ولا بالفوارق، و لا يقف عند جنس الكاتب ذكرا كان أو أنثى ، ولا عند جنسيته هل هو من العالم الأول او العالم الثالث، ولا بلون البشرة، في السنة الماضية فاز بجائزة نوبل للآداب مواطن من أصول افريقية .
وهو الروائي التنزاني عبد الرزاق جورنا (يبلغ من العمر 72 سنة ) بجائزة نوبل للأدب لعام 2021 عن روايته “باراديس ” التي تسرد بإحساس مرهف عن آثار الاستعمار ومصير اللاجئين.

13) ما رايكم في التيمات التالية: الأمل- الألم- التأمل- العمل- الخاطر؟

الأمل هو ذلك الشعاع الذي يتسرب بين شقوق الباب المغلق وانت تنظر للعالم الخارجي من خلال تلك الشقوق ، فتتحمس لفتح الباب بكل قوتك .

الألم إما ان تصمد و تحوله إلى إبداع او تضعف وتتخلص منه في المستشفى .

التأمل وقفة تجمع بين الراحة و المراجعة، وينتهي بالمصالحة مع الذات، وهو علاج للتوتر .

العمل إحساس بالذات ونعمة من الله خصوصا إذا كان صالحا.

الخاطر ..لا أعرف ماذا تقصد بهذه الكلمة ..هل الخاطر مايخطر بالقلب أم الخاطر ما يجول بالعقل، ولكني أفضل الحديث عن جبر الخواطر .. لأن جبر الخواطر إحساس إنساني .. وفعل انساني لا يقوم به إلا أصحاب القلوب المرهفة و النفوس السامية و العقول الراقية .

14) هل للأديب النبهاني ميول أخرى غير القصة والرواية؟

مع الأسف ليست لي ميولات و هوايات أخرى غير القراءة و الكتابة، والتسلية بالهاتف ، فانا بطبعي بيتوتي لا أقضي خارج البيت إلا ساعة او ساعتين ثم أعود مسرعا، ماعدا عند بعض الضرورات القصوى فقد أمضي النهار بطوله خارج المنزل .

15) ما مشاريعكم المستقبلية أستاذ نور الدين؟

رواية.. مشروع رواية ، وقد شرعت في كتابتها .. ساخرج لأول مرة من الكتابة المحلية إلى الاقليمية .. الرواية عن أسرة إفريقية فقيرة من قبيلة هوسا بدولة النيجر ، عند سقوط النظام الليبي ستفكر في الهجرة إلى أوربا عبر أراضي ليبيا لكنهم سيقعون في الأسر من طرف إحدى المليشيات ، و يتم بيعهم ، وتنطلق قصة ابنتهم ميمادا عنبر رحلة النخاسة، وسانشرها في حلقات بإذن الله في شهر رمضان المبارك القادم .. إذا تمكنت من إنجازها قبل بداية رمضان .. نسال الله التوفيق لي و لكم.

16) أخيرا نرجو منكم كلمة ختامية وهدية ادبية لقراء المنار الأعزاء.

اهنئ قراء ومتابعي هذا الموقع .. فموقع منار الإسلام يذكرني بمكتبة دار الشباب بوشنتوف، تفتح الآفاق، وتضع بين أيدي القارئ محتوى كل المجالات .. وانت تطالع الموقع وكأنك في مدرج لإحدى الكليات تدرس و تتعلم ..فقه .. دين .. علوم .. ادب روائي وشعري ..محاضرات دينية .. مناظرات علمية ..لا اخفيك سرا إذا قلت لك إني واحد من متابعيه و من تلامذته ..
تهانينا للمشرفين عليه و للمتابعين له ..مع متمنياتنا له بالاستمرارية في العطاء.

وأهدي للقراء الأعزاء هذه الهدية:
………المخزني جلّول ……..

اشتهر المخزني جلول بعدة اسماء منها جلال و الجيلالي و جيلالة بين الباعة المتجولين بأنه أشرس رجال القوات المساعدة بمنطقة نفوذه و الأحياء المجاورة لها ..كانوا إذا رأوه فروا هاربين تاركين بضاعتهم التي كان يصادرها ..

كان طويل القامة مفتول العضلات صارما ..لا يتفاوض و لا يتسامح ولا يرْتشى .محبوبا من طرف رؤسائه بل كان يُرَشّح لكل المهمات الصعبة و يكلف بكل العمليات الخاصة المتعلقة بالضبط و التمشيط …

في قمة جبروته ..عاد إلى بيته على غير عادته ذات يوم ..صرخ صرخة مدوية وهو يرى زوجته مع جاره في وضع مُريب ..أرعد و أبرق ثم أمطرهما سَبًّا و شتْما و ضَرْبا إلى أن سقط مُغْماً عليه.. أُصيب على إثرها بشلل نصفي ..شمل نصف الوجه و اليد و الرجل من نفس الجهة من الجسم ..
بعد إجراءات مِسطرية مُعقدة ..أُحيل على المعاش ..كان معاشا هزيلا ..لا يُغطي مصاريف عشرة أيام فمابالك بشهر ..حتى العاشق الذي كان يتردد على بيتهم ..لم يستطع تحمل مصاريفهم ..ففر هاربا ..

تراكمت عليهم الديون وهي تطوف به بين المستشفيات العمومية بلا فائدة ..وتتنقل به بين الفقهاء و الأولياء بلا معنى ..إلى ان صدر في حقهم حكم بالإفراغ من السكن الذي يقيمون فيه ..فحملته بعد تنفيذ حكم الإفراغ إلى مسقط رأسه بنواحي ورزازات ..حيث تقيم أمه العجوز ..

لم تستحمل العيش معه في منطقة نائية، مهجورة و معزولة، لا حركة فيها و لا رواج،ةوهي التي اعتادت على صخب الدار البيضاء حيث تعرفت عليه بأحد الأحياء الشعبية و تزوج بها ..لم تكن تعلم ان له اسرة ..و لم تر أحدا منهم قام بزيارتهما طيلة فترة زواجها به ..حتى لما انجبت ابنتهما الوحيدة رجاء لم يحضر أحد منهم ..ولم يخبرها يوما عنهم ..

بعد رحيل الزوجة البيضاوية دون طلاق مع ابنتهما الوحيدة رجاء ذات الخمس سنوات ..بقي جلول في بيته القديم تخدمه أم عجوز ..بمعاش زهيد..يجتر ماضيه كمن يعيش في إقامة جبرية ..حتى زائروه من سكان القرية وهم أكثر فقرا منه يتأسفون لحال رجل تخلّت عنه الزوجة و عاكسه الحظ وخانته الصحة، وهي أصعب أنواع الخيانة على الإطلاق ..وكانوا كلما سألوه بماذا تشعر ؟ قال.. بالجوع في بطني و بالاشتياق لابنتي و بالإشفاق في عيونكم، و بالمهانة في وضعي..كلمات ممزوجة بحركات لإيصال المعنى المطلوب..

حين زاره علال صديق الطفولة الذي اعتاد على زيارته بين الفينة و الأخرى للترفيه عنه..واسترجاع ذكريات الطفولة معا..وجد الرائحة و الذباب يسيطران على المكان بعد أن قضى جلول حاجته بعين المكان ..و أمه غائبة لاستحضار معاشه الزهيد من مركز البريد ..احتار علال في أمره فخرج مسرعا و جلس قرب البئر يبكي كطفل صغير ضاعت منه لعبته ..في انتظار عودة العجوز لمساعدتها على تنظيف المكان ..

نادرا ما كان يُسْمَعُ صوته أو نَحيبه في أجواء البيت إلا همهمات من أمه وهي تدعو له بالشفاء، وهو قابع بلا حراك في مكانه الذي أصبح كل عالمه ودنياه ..نَهَارُهُ كَلَيْلِهِ يمر بطيئا و رتيبا و كئيبا ..لا جديد فيه ..و لا أمل في الأفق ..يموت في كل يوم ألف مرّة، و يأكل وجبة واحدة ليعيش..من يد امرأة عجوز بطيئة بحكم السن في كل شيء حتى في تهييء الطعام ..ولا تسمع في دنياه إلا طنين الذباب نهارا و صرير الصراصير ليلا و بعض الآهات و التأوهات تارة من جلول حين تُقَلِّبُ أمُّه جسدَه ذات اليمين أو ذات الشمال و تارة اخرى تصدر من أمه وهي تبذل مجهودا في ذلك.. مجهودا يفوق طاقة امرأة عجوز..

ظل على حاله.. و طالتِ المدّة .. قلّت فيها الزيارات بل انعدمت في الفصول الشتوية ..إلى ان استيقظت القرية ذات صباح على صراخ لم يسبق لهم سماعه بهذه القوة ..صراخ من شدته حرّك أوراق الاشجار و أفزغ الطيور فَوَلَّتْ هاربةً مِنْ أعشاشها ..الكل هرول مسرعا إلى مصدر الصراخ ..إلى بيت المخزني جلول ..وجدوا امه العجوز مستلقية على كتفه و قد فارقت الحياة ..أما هو فلم ينقطع عن الصراخ ..آه يا أمي آه ..لمَنْ ترَكْتِني ..حتى أنت تتخلين عني و تتركيني ..وحيدا عاجزا ..آه يا أمي آه ..التفت إلى الحاضرين يحكي لهم ..بعض الحكاية بكلمات متقطعة مستعينا بحركة يده غير المشلولة لإيصال معنى كلماته متمما حكايته قائلا :

حين أحسَّت المسكينة بِدُنُوِ أجلها اقتربتْ مني و قالت لي ..أشعر بدوار ..سأضع رأسي على كتفك حتى أرتاح قليلا يا ولدي .. لما طال صَمْتُها و سُكونُها ..حركتُها عِدة مرات ..كانت بلا حراك ..ثم يلتفت إليها ..آه يا أمي حتى أنتِ ..حتى أنتِ ترحلين ..وضع رأسَه في حُضْنِها صارخا ..ماذا فعلت يا أمي في حياتي حتى أعاقب هذا العقاب ؟؟…

كان من شدة الصدمة يهتز بحركات و يستعين بيده السليمة و ملامح وجهه لإتمام معنى ما يحكيه وهو الصامت على الدوام ..

اجتمعت نساء القرية و حملنها الى غرفة آخرى للقيام بإجراءات الغسل.. و تأهب الرجال لإحضار الكفن قبل عملية الدفن..ولم يتوقف جلول عن البكاء و الصراخ والولولة ..احضروا النعش ..أطالوا النظر فيما بينهم ..لم تكن لهم طاقة على حمل جلول معهم إلى المقبرة ..فحملوها وانطلقوا ..وتركوه وحيدا مع قليل من النسوة اللائي تبكين لبُكائه ..توقف عن الصراخ و بدأ يزحف في اتجاه المقبرة ..كل محاولات النساء باءَتْ بالفشل لمنعه من الزحف على بطنه ..أما الصبية فقد التفوا حوله يحاولون مساعدته .. و أغلبهم حُفاة.. ما تعودوا على مشاهدة رجل يبكي و يزحف في آن واحد ..تقدمتْ أصغرهن سِنا منه ووضعتْ يدَها على كتفِه ..تُهدئ من روعه لعله يتوقف عن البكاء ..ويتوقف عن الزحف …فخرّ مُسْتسلما ..

في المساء اجتمع سكان القرية ..كل من تربطه قرابة بجلّول ..لدراسة و ضعه وحل معضلته. اختلطت عليهم الأمور ..فقد وجدوا حلا لأكله و شربه. لكن احتاروا في مسألة تغيير الملابس و قضاء الحاجة …أما هو فقد امتنع عن الأكل و الشرب رغبة منه في وضع حد لحياته ..ظل على حاله ثلاثة أيام إلى أن أبلغوه أن طامو ارتضته زوجا و ستهتم بحاله و حالته..وظلوا يتحايلون عليه ليوافق..وهو يعلم ان طامو امرأة خمسينية قوية البنية تزوجت عدة مرات و لم تنجب ..تحب المغامرات و ليس لديها ما تخسره ..لعلها ستخوض هذه التجربة من باب الفضول أو الشفقة..
بمجرد موافقته قرأ الحاضرون الفاتحة على الفور .. ثم تركوها معه و انصرفوا تباعا و كأنّهم على عجل من أمرهم ..

كان جلول يرى و لا يرى ظلالا وأشباحا تظهر و تختفي ..بِمُجرد ما يزحف الظلام على القرية.. يسمع و لا يسمع وشوشة و همسات ..برى ويسمع ..ويتجاهل الأمر ..ثم يغمض عينيه مُكْرها ويجر اللحاف على وجهه وينكمش بأطرافه القابلة منها للتحرك متمنيا الموت ..الموت الذي ظل يتمناه كل ليلة سبع سنوات إلى أن تحققت أمنيته..

بعد مرور خمس سنوات على وفاته جاءت طبيبة عن طريق المركز الصحي تسأل عنه ..كانتْ صدمتُها كبيرة حين علمت بوفاته ..وكانت صدمة الساكنة أكبر حين علموا أنها ابنة جلول الوحيدة رجاء ..الطبيبة رجاء ابنة جلول .. تردد صداها بين أرجاء القرية ..من أقصاها إلى أقصاها ..تأثّرت الطبيبة رجاء لوفاة والدها ..و وقفت تتأمل بِحسرةٍ البيتَ الذي كان يسكنه ..ثم زارتْ قبرَه الذي يقع بأحد زوايا المقبرة ..قبر متهالك لا شاهد فيه يحمل اسمه و تاريخ وفاته ..قرأت عليه الفاتحة بدموع صامتة .. ما آلمها أكثر ..أنها لم تُبَلَّغْ بخبر وفاته ..ولم تحضر جنازته ..ولم تتلقَّ التعازي فيه ..ولم تعلم بوفاته و ببعض معاناته إلا لما زارت مسقط رأسه ..قادمة من مدينة الدارالبيضاء في رحلة بحث عنه بعد وفاة والدتها ..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.