منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء السابع عشر – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”

د.فاطمة الزهراء دوقيه

0

﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء السابع عشر – (١٠)

سلسلة “نتغير لنغير”

د.فاطمة الزهراء دوقيه

من محطات الإسلام الكبرى لتزكية المجتمع واستقامة أفراده عبادة “الزكاة”، التي شرعت لمعالجة آفات إنسانية شديدة، وتضع الإنسان على طريق الحق والاستقامة والرشد، تلك هي آفة الشح والبخل لدى صاحب المال، وآفة الحقد والبغض لدى صاحب الحق فيه، والإنسان عامة مجبول على حب المال حبا جما:﴿وَتُحِبُّونَ ٱلۡمَالَ حُبࣰّا جَمࣰّا﴾ الفجر:٢٠.

وعليه فإن تزكية النفس وتنمية الخير فيها من خلال فريضة الزكاة تشمل الطرفين:

١- صاحب المال (الغني): الذي يؤدي الزكاة فتزكو نفسه وتطهر لما يتمثل دلالات ومعاني تشريع الزكاة، ويتشكل عليها، فيتصرف على أساسها، وهي ثلاث كما عند الغزالي:

  • المعنى الأول:”أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد، وشهادة بإفراد المعبود، وشرط تمام الوفاء به أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد، فإن المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى، وإنما يمتحن به درجة الحب بمفارقة المحبوب. والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا، وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت، مع أن فيه لقاء المحبوب، فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب، واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم، ولذلك قال الله تعالى:﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰ⁠لَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَ﴾ التوبة:١١١، وذلك بالجهاد، وهو مسامحة بالمهجة شوقا إلى لقاء الله عز وجل، والمسامحة بالمال أهون”[1]. أي أن صاحب المال بتأديته للزكاة يعبر عن صدق توحيده لله تعالى بإيثار رضا الله عن رضا نفسه وحبها للمال، فيتحرر من عبودية المال إلى عبودية رب المال.

والزكاة كما هو معلوم صدقة، وما سميت الصدقة صدقة إلا “لدلالتها على صدق باذلها، فالإنسان ينبغي له أن ينفق الطيب من ماله، وأن ينفق مما يحب، حتى يصدق في تقديم ما يحبه الله عز وجل على ما تهواه نفسه، والمال كله محبوب، لكن بعضه أشد محبة من بعض، فإذا أنفقت مما تحب، كان ذلك دليلا على أنك صادق، ثم نلت بذلك مرتبة الأبرار”[2].

  • المعنى الثاني: التطهير من صفة البخل فإنه من المهلكات … قال تعالى:﴿وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ الحشر:٩، وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال، فحسب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حين يصير ذلك اعتياداً؛ فالزكاة بهذا المعنى طهرة صاحبها عن خبث البخل المهلك، وإنما طهارته بقدر بذله، وبقدر فرحه بإحراجه واستبشاره بصرفه إلى الله تعالى ..
  • المعنى الثالث: شكر النعمة؛ فإن لله على عبده نعمة في نفسه وفي ماله فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن والمالية شكر لنعمة المال، وما أخس من ينظر إلى الفقير، وقد ضيق عليه الرزق وأُحوج إليه، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال، وإحراج غيره إليه”[3].

ومن المعاني والدلالات كذلك التي يحملها فرض الزكاة التي تستحق الإبراز:

  • معنى الابتلاء: فإن الغني مبتلى من الله تعالى ببسط الرزق له:﴿فَأَمَّا ٱلۡإِنسَـٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ﴾ الفجر:١٥؛ وذلك لينظر كيف يصنع ويتصرف، أيشكر أم يكفر. والابتلاء بنعمة المال هنا “من حيث هي ذريعة ترف وفساد في الأرض، وبالإكرام من حيث هو مظنة غرور وأثرة واستكبار وتعال على الناس وعدوان على حقوقهم بدعوى الأهلية للتشريف والإكرام من الله”[4]، فأن يؤتي صاحب المال الزكاة علامة على فهمه الصحيح، وعلى نجاحه في الابتلاء الذي وضع فيه، وأنه قد أدى الاختبار وعبره، وطهرت نفسه بمعانيه، كما تطهر من الوهم والغرور، وذلك لما قد يتوهمه من أن له كرامة في ذاته، ومنزلة خاصة وامتيازاً عند الله تعالى: ﴿فَیَقُولُ رَبِّیۤ أَكۡرَمَنِ﴾ الفجر:١٥ [5]، وكذلك تطهر من آفة الطغيان بسبب الغنى لقوله تعالى:﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ * أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾ العلق:٦-٧.

يقول ابن القيم:”وأخبر تعالى أن توسعته على من وسع عليه -وإن كان إكراماً له في الدنيا- فليس ذلك إكراماً على الحقيقة، ولا يدل على أنه كريم عنده، ولا هو من أهل كرامته ومحبته”[6]، ولذا أنكر سبحانه وتعالى عليه ووبخه بقوله:﴿كَلَّاۖ﴾ الفجر:١٦،”وذمه عليه؛ لأنه قال على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته، وهو قصده إلى أنّ الله أعطاه ما أعطاه إكراما له مستحقا مستوجبا على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم، كقوله:﴿قَالَ إِنَّمَاۤ أُوتِیتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِیۤ﴾ القصص:٧٨، وإنما أعطاه الله على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ولا سابقة مما لا يعتدّ الله إلا به، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها”[7].

  • معنى الاستخلاف: فإن إخراج الزكاة وإيتاءها إنما هو أداء لوظيفة الاستخلاف في مجال المال والثروات، بما هو اعتراف بحقيقة كبرى من حقائق التوحيد والايمان المتعلقة بملكية المال، وهي أن الله تعالى هو المالك الحقيقي للمال فقد قال عز وجل:﴿وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِیۤ ءَاتَىٰكُمۡ﴾ النور:٣٣، وأن ملكية الإنسان له مجازية؛ إذ هو مستخلف فيه:﴿وَأَنفِقُوا۟ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِینَ فِیهِ﴾ الحديد:٧، وضعه الله سبحانه وسخره له، وملكه إياه جاعله أمينًا عليه، وكيلاً ونائباً لتعمير الأرض به واستثماره في مصالحه، ليؤدي وظيفته الاجتماعية، فيعود عليه بالبركة والخير والنفع. ولذا حرم الشرع كنز الأموال بمعنى إمساكها عن النفقة الواجبة [8]، لما يمثله من تعطيل لوظيفته، وما أراده الله من تمليكه للإنسان من تحقيق المنفعة والاستثمار؛ إذ إن تشغيله هو الوضع الصحيح والزكاة من ذلك.

وهكذا، فإن كل ما تقدم من هذه المعاني التربوية التي تتضمنها عبادة الزكاة حينما يتمثلها الغني وعياً وتطبيقاً، تزكو بها نفسه وتترقى، أضف أنها تبعث فيه الشعور بأهميته وأهمية دوره في المجتمع، لأنه فاعل أمراً فيه نفع له وينمو ويتطور بزكاته، وتنمو الحياة في مختلف المجالات، خاصة في مجال التنمية الاقتصادية بتوظيف المال وتشغيله لا منعه، ولا شك أن ذلك ينشئ حالة نفسية من انشراح الصدر والرضا، تدفع النفس للاستمرار في فعل الخير وتعمير الأرض بما هو استقامة وسير في الطريق الصحيح..


[1]– إحياء علوم الدين، الغزالي، طبعة دار المعرفة، بيروت، ١/٢١٤.

[2]– شرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، ابن عثيمين، مدار الوطن للنشر، الرياض، ط١٤٢٥هـ، ٣/١٦١.

[3]– الاحياء، ١/٢١٥.

[4]– التفسير البياني للقرآن الكريم، ٢/١٥٢.

[5]– يراجع الميداني، معارج التفكر ودقائق التدبر، ، ١/٥١٤.

[6]– ابن القيم، التبيان في أيمان القرآن، ٢مطبوعات مجمع الفقه، جدة، ص ٤٩..

[7]– الكشاف، ٦/٣٧١.

[8]– يراجع تفسير السعدي، ١٠/٣٨٢.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.