منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

بداية دولة بني مرين(2)المغرب الأقصى ودولة بني مرين

الدكتور عبد اللطيف بن رحو

0

بداية دولة بني مرين (2) المغرب الأقصى ودولة بني مرين

الدكتور عبد اللطيف بن رحو

 

يمكنكم تحميل كتاب العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م) من الرابط التالي

كتاب”العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م)

المبحث الأول: نظرات عامة لأوضاع الدولة الموحدية قبيل قيام الدولة المرينية

لما وقعت كارثة العقاب، وفَنِيَ معظم الجيوش الموحدية في شبه الجزيرة الأندلسية، أخذت بوادر التفكك والضعف تبدو على سلطان الموحدين، في معظم العمالات والأطراف. ولم يكن ذلك بخاف على القبائل المتوثبة مثل بني مرين. ولما توفي الخليفة الناصر، وخلفه ولده الصبي يوسف المستنصر، وشغلته نزوات الحداثة والشباب، عن تدبير شؤون الدولة، وغلب التواكل والتراخي، على السادة والأشياخ، في مختلف النواحي.

فالدولة الموحدية دخلت بعد وفاة الخليفة محمد الناصر في العاشر من شعبان سنة 610هـ، في مرحلة جديدة من مراحل حياتها، مرحلة انحلال مضطرد، وصراع داخلي مستمر على انتزاع العرش وتنثُر أسرة بني عبد المومن الشامخة، إلى شيع وأحزاب ضعيفة ومتخاصمة، وينثر شمل القبائل الموحدية، حول تأييد هذا الفريق أو ذاك، وتنهار قوى الدولة الموحدية ومواردها الضخمة تِباعاً، سواء في المغرب أو الأندلس، في معارك انتحارية مستمرة، وتتخذ هذه المرحلة في الأندلس بالأخص، طابعا مشئوماً، لم يسبق للأندلس أن نكبت به، فتغذو من جديد مسرحاً مضطرما للحرب الأهلية، أولا فيما بين الموحدين المتنافسين على العرش، وثانيا فيما بين أبناء الأندلس أنفسهم، وفي خلال هذه الموجة الغامرة من المحنة القومية، تتحفز إسبانيا النصرانية لانتهاز الفرصة السانحة، وتنظم متعاونة متفاهمة، أخطر برنامج لفتوح «الاسترداد» وتهتز مصاير القواد الأندلسية الكبرى، ومصاير الأمة الأندلسية كلها.

ومن هنا يمكن وضع بعض العوامل التي دبت في ضعف كيان الدولة الموحدية في مطلع القرن السابع الهجري الثالث عشر ميلادي ومنها ما يلي:

المطلب الأول: الصراع على العرش

دخلت الدولة الموحدية موجة الصراع العائلي حول تولي العرش والخلافة، وقد تطور الأمر بين بني عبد المومن حتى بلغ درجة الفعل الثوري. فقد اتجهت سياسة عبد المومن نحو الوراثة في السلطة، الذي ساعد على انفجار الوضع لدى القبائل الموحدية وعلى رأسها أخوا المهدي اللذان فرا من فاس إلى مراكش لإحداث انقلاب هناك.

وقبيل وفاة عبد المومن خلع ابنه محمداً عن عهده وَوَلاَّهُ لابنه يوسف بسبب سوء سيرة الأول وشربه للخمر. وفتح هذا الحادث بابين أثارا مشاكل قادت للنزاع الخطير في جهاز الدولة. فما إن توفي عبد المومن سنة 558 هـ وبويع لابنه يوسف حتى توقف أخواه أبو محمد وأبو سعيد ولم يرض أخوه أبو الحسن. ويبدو أن توقف هؤلاء أدى إلى نزاع خشي يوسف أن يتطور إلى صراع دام، فلم يتسم بأمير المؤمنين واكتفى بلقب الأمير، وما تسمى بلقب الخلافة إلا عام 563 هـ/1168 م بعد أن أجمع عليه السادة بنو عبد المومن. ولما خلفه ابنه المنصور عام 580 هـ/ 1174 م كان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلا للإمارة.

ومنذ وفاة المستنصر بن الناصر أخذ الصراع أسلوبا دموياً، فأبناء المنصور وأحفاده يرون أنهم أحق بالأمر من سائر بني عبد المومن وأحفاده، ويريد أبناء الناصر، من بين أبناء المنصور، الاستئثار بالخلافة دون سواهم.

فكان لهذا الصراع آثار وخيمة على الدولة ومصيرها، فمنذ وفاة المستنصر أصبح من المعتاد أن يكون على رأس الدولة أكثر من خليفة فاضطر كل واحد منهم أن يستنجد بعناصر من قبائل الموحدين والعرب والمهاجرين والمنتهزين من حكام الولايات المستبدين، وبل وبأعدائهم من النصارى فوجدت مراكز القوة في النزاع فرصة سانحة نفوذها وتولية من تشاء وعزل من تريد، فسقطت هيبة الخلافة، مما ساعد على اضمحلالها وزوالها.

فكان فعلهم ذلك سببا لخراب دولتهم، وذهاب سلطتهم، وقتل ملوكهم وأشياخهم وهو أول باب فتحه القوم على أنفسهم للفتنة.

المطلب الثاني: حركات التمرد والنزاعات القبائلية

حفل تاريخ الدولة الموحدية بالفتن والتمردات والثورات فلم يَخْل قطر ولا عصر في هذه الدولة من هذه الفتن التي اعتبرت العامل الأساسي في سقوط الدولة، ويرجع هذا الكم الكبير من التمردات إلى السياسة التي اعتمدها بنو عبد المومن الذين أوغلوا في الظلم وسفك الدماء والاعتداء على حرمات الناس والاستئثار بالحكم وتهميش غيرهم، وقد أدى ذلك إلى اتساع نقاط الثورات وتعدد ضرباتها على الدولة. بالإضافة إلى ذلك يلاحظ المتتبع للأحداث التاريخية لهذه الدولة أن هذه الثورات لازمتها منذ نشأتها الأمر الذي شكل عبئا استنزف طاقتها منذ نشأتها، ومن ذلك ثورة محمد بن عبد الله بن هود الماسي سنة 541 هـ / 1147 م وحركت هذه الدولة قبائل دكالة وبرغواطة التي ثارت بتأييد من الجيوب المرابطية، كما انتفض القاضي عياض في سبتة سنة 543 هـ/ 1148 م.

ففي عهد المأمون بن المنصور ثار بجبال غمارة سنة 625 هـ/ 1227م محمد بن أبي الطواجين الكتامي المتنبي، فرحل إلى سبتة ونزل على أبي سعيد بأحوازها، وادعى صناعة الكيمياء فتبعه الغوغاء، ثم ادعى النبوة وشرع الشرائع وأظهر أنواعا من الشعوذة فكثر تابعوه.

ومن أهم وأعنف ثورات هذه المرحلة ثورة بني غانية وهم من بقايا المرابطين: حيث قامت هذه الثورة على أسس فكرية وعقدية ناهضت الأصول العقدية والأسس الفكرية التي قامت عليها دولة الموحدين والتزمت بأصول منهج أهل السنة والجماعة، وأعلنت انتمائها وولائها للخلافة العباسية السنية، ورفعت شعاراتها، حاربت بكل ما تملك نفوذ الموحدين وظلمهم الوخيم واستمرت لمدة خمسة عقود متتالية كانت تلك الحروب الطاحنة من الأسباب المباشرة في ضعف دولة الموحدين ومن ثم سقوطها.

ثم ثورة الأعراب المتتالية حيث إن قبائل بني سليم وبني هلال التي سكنت إفريقية والمغرب الأوسط وبعد ذلك المغرب الأقصى لا تنظر إلا لمصالحها، فأحيانا تتحالف مع بني غانية ومع قراقوش التقوي ضد الموحدين، وأحيانا تخضع لدولة الموحدين، ثم دخلت في الصراع الداخلي بين أعداء الموحدين، فكانت من الأسباب التي فجرت الثورات الداخلية والتي ساهمت في الافساد والدمار لدولة الموحدين.

فبعد وفاة المستنصر سنة 620ه أصبح الأعراب يتدخلون في شؤون الدولة، ويرهقونها بطلباتهم، ويعملون بدورها على عزل وتولية بعض ملوك الموحدين. ومن هؤلاء الأعراب بنو معقل، وبنو جابر ولهؤلاء دور هام في تعريب قسم من سكان المغرب على سواحل الأطلسي، بمصاهرتهم للبربر، والاحتكاك بهم.

كما عرفت الأندلس إحدى أكبر وأعنف الثورات ضد الموحدين والتي ساهمت في تقويض نفوذهم قي هذا القدر، وهي الثورة التي قادها محمد بن مردنيش والتي دامت قرابة ربع قرن لم يتوان فيها في محاربة الموحدين والتحالف حتى مع النصارى من أجل ذلك وقد أدت هذه الحركة الى ضياع عدة مدن شرق الأندلس كألمرية، وافراغة وسرقسطة، هذا وأدت حركة ابن مردنيش إلى زعزعة هيبة الدولة ومكانة الموحدين وسلطانهم في نفوس النصارى كما استنزفت الكثير من جهود الموحدين مالا وجنودا وزمنا ناهيك عما تخلفه الحروب عموما من خسائر بشرية وآثار نفسية وأوضاع اجتماعية واقتصادية مزرية.

كما ظهرت بوادر التمرد الحفصي في المغرب الأدنى على الحكومة المركزية سنة 627ه/1130م حين استبد الأمير أبو زكريا بن الشيخ أبي محمد بن أبي حفص الهنتاني بإفريقية وخلع طاعة الموحدين.

أما بنو عبد الواد بزعامة يغمراسن بن زياد فقد استقلوا بالمغرب الأوسط وجعلوا من تلمسان عاصمة لهم. يقول ابن خلدون: «وبعث في الأعمال ولبس شارة الملك والسلطان واقتعد الكرسي ومحا آثار الدولة المؤمنية، وعطل من الأمر والنهي دستها، ولم يترك من رسوم دولتهم وألقاب ملكهم إلا الدعاء على منابره للخليفة بمراكش.

وفي سنة 635ه/1237م استقل محمد بن يوسف بن الأحمر بمملكة غرناطة، فأخذ كل ما تبقى من الأراضي الإسلامية في الأندلس التي كانت تابعة للدولة الموحدية. يقول صاحب الاستقصا: «ولما ضعف أمر الموحدين بالمغرب استبد السادة منهم بالأندلس وصاروا إلى المنافسة فيما بينهم واستظهار بعضهم على بعض بالطاغية وإسلام حصون المسلمين إليه في سبيل تلك الفتنة فمشت رجالات الأندلس بعضهم إلى بعض وأجمعوا على إخراج الموحدين من أرضهم فثاروا بهم لوقت واحد وأخرجوهم وتولى كبر ذلك محمد بن يوسف بن هود الجذامي ثم من بعده محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر ونازع ابن هود الرياسة بالأندلس.»

المطلب الثالث: التعرض للكوارث والأوبئة

تعرضت الدولة الموحدية لموجبات من الكوارث قبيل سقوطها، ففي سنة 617ه كان الغلاء الشديد بالمغرب والقحط والجراد، وبيع قفيز القمح بخمسة عشر دينار. وفي سنة 626ه كان السيل العظيم بمدينة فاس هدم من سورها القبلي مسافتين، وهدم من جامع الأندلس ثلاث بلاطات وديارا كثيرة وفنادق من عدوة الاندلس.
وفي سنة 635ه اشتد الغلاء والوباء بالعدوة، فأكل الناس بعضهم بعضا وكان يدفن في الحفرة الوحدة المائة من الناس.
وفي سنة 646ه وقع الحريق بأسواق فاس احتقرت أسواق باب السلسلة بأسرها الى حمام الرحبة.
وقد نشأ عن هذا كله انحلال في حياة المملكة الموحدية، فتوقفت حركة الحراثة في البوادي، كما أن عددا من المدن انتابها الخراب: في ديار مدينة مراكش، وفي مكناس دثرت مدائنها القديمة ولم يبق منها سوى الصوامع والأطلال العتيقة، وفي الرباط تهدم جامع حسان الذي نقضه السعيد الموحدي ليصنع بخشبه الأجفان الغزوانية.
وتعرضت العديد من المدن الشاطئية لهجمات بحرية، فقد نزل الجنويون سبتة بأجفان لا تحصى، ونصبوا عليها المنجيقات… فبعد الحصار الشديد والتضييق العظيم ونصب المجانيق وآلات الحرب المعدة فصالحهم أهلها بأربعمائة دينار.

المطلب الرابع: الهزائم المتتالية على يد الممالك النصرانية بالأندلس

أهم هزيمة تلقاها الموحدون سنة 609ه/1212م زمن الخليفة الموحدي محمد الناصر بن يعقوب في معركة العقاب على الأراضي الأندلسية أمام الملك ألفونسو الثامن، وهي المعركة التي عجلت بسقوط الدولة الموحدية من الأندلس.
يقول صاحب الأنيس المطرب: «فذهبت قوة المسلمين بالأندلس من تلك الهزيمة، ولم تنصر لهم راية بها، فستطال العدو عليها فملك معاقلها واستحوذ على أكثر بلادها حتى كاد أن يملك جميعها لولا أن الله عزوجل تداركها بجواز أمير المؤمنين يعقوب بن عبد الحق رحمه الله، فأحيى ذمارها وأقام منازلها وغزا بلاد الكفر فدمرها.»
وفي سنة 614ه هزم المسلمون بقصر أبي دانس من الأندلس، وهي من الهزائم الكبار التي تقرب من هزيمة العقاب، لأن العدو كان قد نزل قصر أبي دانس وحاصره، فخرج إليه جيش إشبيلية، وجيش قرطبة وجيش جيان وحشود بلاد غرب الأندلس لاستنقاد قصر أبي دانس، وكان ذلك بأمر المنتصر، فساروا يؤمون العدو فلم تقع أعينهم على عينه إلا وقد خامر قلوب المسلمين الرعب وولوا الأدبار لما كان قد رسخ في نفوسهم من بأسه يوم العقاب، فتكالب العدو بعدها على المسلمين وتمرس بهم وهان عليهم أمرهم وخشعت نفوسهم له ولما فرغوا منه في هذه الخرجة ركبهم بالسيف وقتلهم عن آخرهم، ورجع ألفنش إلى قصر أبي دانس فحاصره حتى اقتحمه عنوة وقتل جميع من به من المسلمين.
واستولى النصارى على حصن القصر والقنطرة في عهد المستنصر، وماردة وبطليوس سنة 627ه ثم ألمرية في أواخر عهد المأمون وقرطبة سنة 636ه.
كما نشأت مملكة البرتغال التي استعانت بالجيوش الصليبية في الاستيلاء على عدة مدن من غرب الأندلس وإذا كان التعاون بين المسيحيين قد فتر في عهد المنصور داخل إسبانيا، فقد كانت النجدات تتوالى على أمراء المماليك المسيحية من جنوة وبيزة وإنجلترا وفرنسا وفشل الموحدون في استرداد طليطلة وشنترين ولشبونة، ثم اشتد الخطر المسيحي منذ أيام الناصر، فاتخذت الممالك المسيحية في صراعها ضد الموحدين، وشاركت كلها بآلاف عديدة من جيوشها، كما اقتحمت جيوش ليون ماردة وبطليوس واحتلت الأراغون في نفس الوقت الجزر الشرقية، ثم احتلت بلنسية وشاطبة. أما قادس وجيان وقرطبة وإشبيلية ومرسية وبياسة وأبذة فكانت كلها من تصيب قشتالة، وقد استغرق افتتاح هذه المدن من لدن النصارى حوالي ثلث قرن.

المبحث الثاني: قيام دولة بني مرين

بعد سقوط الموحدين على إثر هزيمتهم بالأندلس أمام النصارى انقسمت منطقة المغرب من جديد إلى ثلاث دويلات متصارعة فيما بينها، على السيطرة والنفوذ، وهي على التوالي: الدولة الحفصية وعاصمتها إفريقية-تونس-(625ه-982ه/1227م-1574م) والدولة الزيانية في تلمسان (633ه-962ه/1235م-1554م)، والدولة المرينية أو بنو مرين (668ه-869ه/1267م-1465م) بالمغرب الأقصى وعاصمتهم فاس.
فبنو مرين كانوا من قادة جيوش الموحدين وولاتهم وعمالهم في البلاد التي تخضع لسيادتهم ابتداء من المغرب الأدنى حتى الحافات النهائية الغربية للمغرب الأقصى وبعد أكثر من مائة عام من حكم الموحدين، بدأ بنو مرين يتحينون الفرصة للانقضاض على حكم الخلفاء الضعفاء الأواخر الذين فقدوا السيطرة على مقدّرات دولتهم المترامية الأطراف حيث ظهرت بوادر الانهيار على مؤسساتها الإدارية والسياسية والعسكرية وقد أعلن المرينيون استقلالهم على منطقة طنجة وسبتة واعترف أهلها بأبي زكريا الحفصي بالسيادة عليهم كما أقرت بعض مدن الأندلس التي كانت تحت هيمنتهم بالحكم المريني، وبذلك أصبحت هناك قوتان تتقاسمان إرث الموحدين وهم المرينيون وبني عبد الواد وبخاصة في منطقة المغرب الأقصى. وبمرور الزمن تركز بنو مرين في حدود المغرب الأقصى والأوسط.
ويمكن القول إن قيام دولة بني مرين الحقيقي بدأ منذ أن دخلوا مدينة مراكش حيث تمكن أحد أمرائهم وهو أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق من اجتياحها سنة 668ه وقد اتخذوها فيما بعد مركزا لهم بعد أن كانت عاصمة الموحدين وحاضرتهم، وفي عهد هذا الأمير أطلق لأول مرة على دولتهم اسم «الدولة المرينية» نسبة إلى مرين الذي ينتسب إلى فرع من فروع قبيلة زناتة.

المطلب الأول: نسب بني مرين

اختلف علماء التاريخ في نسب وأصل بني مرين، فمنهم من ذكر أن بني مرين فخذ من زناتة، وهم ولد مرين بن ورتاجن بن ماخوخ بن وجديج بن فاتن بن يدر فهم عرب الأصل يجيئون من ولد قرار بن معد بن عدنان.
وقيل هم فخد من زناتة من أشرافهم، وقد قيل إنهم شرفاء، ورفع بعض أهل التاريخ نسبهم الشريف من جدهم الأمير عبد الحق إلى أمير المؤمنين عَلي بن أبي طالب رضي الله عنه. أي يجتمع نسبهم بنسب النبي ﷺ في مضر، وهم من ولد بر بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، والبربر أخوال بر بن قيس أمه منهم، وهي يرفع بنت مجدل بن عمر بن محرام بن بر بن قسط بن معرايم بن حازم بن يافت بن نوح عليه السلام.
وكانوا يسكنون بأرض فلسطين وما والاها من بلاد الشام ومصر ويجاورون العرب في المساكن والمراعي.
ويتضح من خلال كلام ابن الأحمر وأبي زرع أن زناتة عرب بالأصل، وتغير لسانهم بسبب ابتعادهم عن مواطنهم الأولى ومجاورتهم للبربر في المغرب.
وقد وصف الملزوزي بسبب تغير لسانهم وابتعادهم عن وطنهم الأول ومجاورتهم للبربر فقال:
ولم تزل زناتـــــــــة مع العـــــــــــــــــــــرب
مجاورين في مراعيهم حقب
مذهبهم كمذهـــــب الأعــــــــراب
لقربهم في الأرض والأنساب
سكانهم الصحراء والسباسب
وشكلهم لشكلهم مناسب
فجاورت زنــــــــــــاتة البرابــــــــــــــــــــرة
فصيروا كلامهم كما ترى
ما بدل الدهر سوى أقوالهم
ولم يبدل مقضى أحوالهم
ونجد طبقة ثانية من المؤرخين تشير إلى أن بني مرين فخد من قبيلة زناتة من البتر أحد فرعي البربر.
ذكر صاحب نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب: أن بني مرين: بطن من زناتة، من البربر.
ويؤكد السويدي هذا القول حين عرف بني مرين فقال: هم بطن من زناتة من البربر.
أي أن بني مرين أصلهم من البربر.
فمن خلال هذه الآراء المختلفة عن أصل بني مرين ونسبهم، يكون المؤرخون قد اختلفوا في نسبهم، فجماعة من المؤرخين أرجعوا نسبهم إلى البربر بينما ذهب فريق آخر منهم إلى تأكيد عروبتهم، ولعل سبب هذا الاختلاف يكمن في أن بعض المؤرخين قد اعتمدوا على الرواية دون وجود سند أو حجة قاطعة ومقبولة، ولعل هذا كان بدافع الوصول إلى المراكز الحساسة داخل الدولة.
وعلى أي حال فإن قبائل زناتة كانت تظهر اعتزازها وانتسابها إلى العرب ونجد ذلك عند بعض شعرائهم. يقول أحد الشعراء زناتة الذين سكنوا الأندلس:
أيها السائل عن أحسابنا
قيس عيلان بنو العز الأول
وبنو بر بن قيس من به
تضرب الأمثال في كل أهل
إن نسبنا فبنو بر الندا
طــــــــــــارد الأزمـــــــة نحار الإبل
من تردا سالف المجد علا
وبرودا فاكتســــــــــا منها حلل
إن قيســــــا يعتزى بر لــــــــــه
ولا بــــــــــر يعتــــــــزي كل بطـــــــــل
حسبك البربر قومي إنهم
ملكوا الأرض بأطراف الأسل
وببيض تضرب الهـــــام بها
هام من كان عن الحق نكــــل
ومن الحقائق التي ترد زناتة إلى الأصل العربي وتوثيقه ما ذكره صاحب الذخيرة السنية، أن حسان بن النعمان لما فتح إفريقية والمغرب، كان أكثر جيوشه قبائل قيس فأتى جبل أوراس من بلاد إفريقية فوجد قبائل زناتة قد اجتمعت لقتاله فدعاهم إلى الإسلام، وقال لهم: يا معشر زناتة أنتم إخواننا في النسب، فلم تخالفونا وتعينون علينا أعدائنا أليس أبوكم بر بن قيس بن عيلان؟ قالوا: بلى ولكنهم معشر العرب تنكرون لنا ذلك وتدفعوننا عنه، فإذا أقررتم بالحق ورجعتم إليه فاشهدوا لنا به على أنفسكم، فاجتمعت وجوه قيس وأشرافها وأشراف زناتة وأقيالها وأشهدوا على أنفسهم من حضرهم من وجوه العرب ورؤساء أهل إفريقية من البربر والروم وكتبوا بينهم كتابا فيه: هذا ما شهد به أنجاد قيس عيلان لإخوانهم زناتة بني بر بن قيس عيلان أنا أقررنا لكم وشهدنا على أنفسنا وعلى آبائنا وأجدادنا أنكم معشر زناتة من ولد بر بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، فأنتم والحمد لله إخواننا نسبا وأصلا ترثوننا ونرثكم، نجتمع في جد واحد، وهو قيس بن عيلان.
ومما يدل أيضا على أصولهم العربية، حرصهم الشديد على مصاهرة القبائل العربية تأكيدا على نسبهم العربي. وخير مثال على ذلك ما جاء في روض النسرين حيث ذكر المؤلف أن الأمير عبد الحق تزوج من الشرفاء الحسنيين وكان له منها إدريس وعبد الله ورحو.
وقد حاول بعض المؤرخين أن يضفي على النسب المريني هالة من التكريم فرفع نسبهم إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالوا عن عبد الحق المريني، وهو من تطلع من بني مرين إلى إقامة دولة لهم في بلاد المغرب، وهو عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة بن زيان بن محمد بن محمد بن علي بن تاشفين بن يحيى بن علي بن إبراهيم بن إسماعيل بن عمر بن أمير المؤمنين الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
وهذا الرأي يبدو بعيدا عن الصحة لأن تسلسل النسب المريني -عند من رأى هذا الرأي- ابتداء من والد حمامة المريني وحتى الإمام علي بن أبي طالب لا يتفق مع سلسلة النسب التي اتفق عليها معظم المؤرخين.

المطلب الثاني: موطن بني مرين

كانت رياسة بني مرين في أول أيام الموحدين لبني عسكر، وكانوا يقطنون الزاب إلى تلمسان، وعندما بدأ عبد المومن يكتسح المغرب الأوسط، استعان على بني مرين بإخوانهم بني عبد الواد الذين بددوا جموعهم سنة 540ه، فنزلوا جنوبا إلى الصحراء يعيشون عيشة البداوة والترحل، وينتقلون خلال الربيع والصيف إلى أعالي ملوية حتى ناحية تازة وجرسيف، فيتزودون بالحبوب الزراعية التي يقتاتون بها شتاء في صحرائهم.
وقد تعددت منازل بني مرين -قبل دخولهم إلى بلاد المغرب الأقصى- نتيجة لأسلوب الحياة الذين درجوا على اتباعه في معيشتهم، وهو أسلوب البداوة الذي غلب على كل شيء في حياتهم، فقد نزلوا بأنعامهم التي يمتلكونها في القفار والصحاري في نظام عظيم يمتد من جنوب مدينة القيروان إلى صحراء بلاد السودان. وهم في هذا الامتداد العظيم يتمتعون بما يتمتع به المجتمع البدوي الذي يحيى حياة الصحراء.
وقد وصفهم ابن أبي دينار قائلا: «وبنو مرين كانوا يسكنون بلاد القبلة من زاب إفريقية وينتقلون من مكان إلى مكان وجل أموالهم الإبل والخيل وطعامهم اللحوم والتمر ودخلوا بلاد المغرب سنة ستة عشر وستمائة.»
وكانوا لا يعمرون إلا القفار ولا يؤدون لسلطانهم بدرهم ولا دينار ولا يدخلون تحت حاكم ولا سلطان ولا يرضون بدل ولا هوان لهم همم عالية ونفوس إلى المعالي سامية لا يعرفون الحرث ولا التجارات ولا يشغلون بغير الصيد والغارات جل أموالهم الإبل والخيل ودأبهم الحرب وخوضان الليل وشيمتهم إكرام الضيف وضرب أعدائهم بالسيف.
يقول ابن خلدون: «كان بين بني عبد الواد وبين بني مرين منذ أوليتهم وتقلبهم في القفار فتن وحروب.»
ويذكر ابن مرزوق في مسنده أن بني مرين تملكوا من حد بلاد الجريد إلى ناحية المغرب، فامتد ملكهم من بلاد الزاب إلى تاهرت وأحواز تلمسان، وبقايا من قبائلهم إلى الآن ببلاد الزاب وأوداس، ثم امتد إلى ناحية المغرب.
وذكر صاحب الحلل الموشية أن أصل بني مرين من أحواز تلمسان، قاعدة المغرب الأوسط، ودار مملكة زناتة على قديم الزمان، وكان وطنهم بينها وبين تاهرت من شرقها، يجاورهم في السكنى من زناتة بنو يغمراسن، وبنو تجين، وبنو مغراوة، وبنو راشد، وغيرهم، وكان غالبهم الفرسان.
وفي ضوء هذه الحقائق التي تتعلق بمساكن المرينين فالظاهر أن المؤرخين لم يتفقوا على أماكن محددة لإقامة المرينيين.
ولكن الذي يبدو أن تلمسان هي المركز الذي انتشرت منه قبائل بني مرين شرقا وغربا، فإن المرحلة الأولى من انتشار القبائل المرينية كانت إلى الشرق من تلمسان وفي اتجاه مدينة تاهرت، ثم تقدمت منها بعد ذلك نحو بلاد الزاب، وبلاد الجريد. وقد نزحت قبائل بني مرين بعد ذلك نحو الغرب، من هذه المواطن إلى بلاد المغرب الأقصى، فأصبح المرينيون بذلك يقفون على مداخل المغرب الأقصى يراقبون ما يدور به من أحداث.

المطلب الثالث: عوامل تأسيس الدولة المرينية

تختلف العوامل التي أدت إلى تأسيس دولة بني مرين عنها في تأسيس الدولة المغربية السابقة، فإذا كانت هناك عوامل دينية أو مذهبية حدت بهذه الدول إلى إقامة حكومة ملكية، إلى جوانب عوامل اقتصادية وسياسية، فإن العامل الديني والمذهبي لم يكن له أثر في تكوين دولة بني مرين فلم يكن ثمة من إقامة مذهب جديد أو عقائد مستحدثة، حيث أن مذهب مالك قد تمركز منذ المرابطين وفشلت جهود الموحدين بعدهم في إرغام الناس على اعتناق مبادئ المهدي بن تومرت بصورة نهائية، فعوامل قيام دولة بني مرين كانت مختلفة.

  • الفرع الأول: عوامل اقتصادية

إن المرينيين لاقوا كسائر زناتة الرحل مشاكل المجاعة والجذب في الأرض الصحراوية منذ أوساط القرن السادس الهجري ولم يكن عدد بني مرين قليلا، فقد انتشروا في السباسب وصحاري الشمال الإفريقي من القيروان إلى بلاد السودان منذ أوائل الدولة الموحدية، ولم تكن مواردهم المحدودة مما يساعدهم أداء الأتاوت والضرائب الباهظة التي أثقل بها الموحدون كاهل الشعب المغربي.
فكان بنو مرين يدخلون المغرب في زمان الصيف فيرعون به أنعامهم، ويكتالون منه ميرتهم، فإذا توسط فصل الخريف اجتمعوا ببلدة جرسيف، فإذا استوفى بها جمعهم شدوا رحالهم، وقصدوا بلادهم، كان ذلك دأبهم على مر الزمان.
فلما كانت سنة 610ه أقبل نجعهم على عادته للارتفاق والميرة حتى إذا أطلوا على المغرب من ثناياه ألفوه قد تبدلت أحواله وبادت خيله ورجاله وفنيت حماته وأبطاله وعريت من أهله أوطانه وخف منها سكانه وقطانه، ووجدوا البلاد مع ذلك طيبة المنبت، خصيبة المرعى غزيرة الماء واسعة الأكناف فسيحة المزارع متوفرة العشب لقلة راعيها، مخضرة التلول والرُبى لعدم غاشيها، فأقاموا بمكانهم وبعثوا إلى إخوانهم فأخبروهم بحال البلاد وماهي عليه من الخصب والأمن وعدم المحامي والمدافع، فاغتنموا الفرصة وأقبلوا مسرعين بنجعهم بالغارات والنهب بسيطها ولجأت الرعايا إلى حصونها ومعاقلها، وتم لهم ما أرادوا من الاستيلاء على بسط المغرب وسهله وانتجاع مواقع طله ووبله.
وجاء في كتاب الذخيرة أبيات شعرية تحدد تاريخ دخولهم لأرض المغرب:
قدمت مرين إلى بلاد المغــــــــــــرب
والسعد يصحبها لنيل المطلب
في عام عشر بعد ست قد مضت
مئين فاحفظه وقيد واكتـــــــــــــب
ويقول الملزوزي في وصف دخول بني مرين أرض المغرب:
في عام عشرة وستمــــــــــــــــــــــــــائـــــــــة
أتوا إلى الغرب من البريـــــــــــــــــة
جاؤوا من الصحراء والسباسب
على ظهور الخيل والنجائب

  • الفرع الثاني: عوامل سياسية

من الطبيعي أن يكون ضعف الموحدين السياسي بعد هزيمة العِقاب والصراع حول العرش وظهور حركة التمرد والنزاعات القبائلية، أمرا مشجعا وسهلا لدخول المرينيين للمغرب والسيطرة عليه.
يقول ابن أبي زرع: «فوجدوا ملوك الموحدين قد تهاونوا في الأمر، واعتكفوا في قصورهم على اللهو وركنوا إلى الغيد في القصور، فأذى ذلك بهم إلى الوهن والقصور، فحل بنو مرين بالمغرب، والقدر ييسر لهم ملكه ويقرب، فانتشرت قبائلهم في بلاده كالجراد، وملأت حللهم وعساكرهم النجود والوهاد، فلم يزالوا ينتقلون في أقطاره مرحلة بعد مرحلة، حتى أبادوا الجيش عام المشعلة وهو عام 613ه.»
ويذكر صاحب الاستقصا أنه حينما هلك الناصر سنة 610ه بايع الموحدون ابنه يوسف المنتصر وهو يومئذ صبي حدث لا يحسن التدبير، وشغلته مع ذلك أحوال الصبى ولَذَّات الملك عن القيام بأمر الرعية فتضافرت هذه الأسباب على الدولة الموحدية فأضعفتها لحينها وأمرضتها المرض الذي كان سببا لحينها.
وأنشد صاحب نظم السلوك أبياتا يقول فيها:
تشاغلوا باللهو والخمور
واحتجبوا عن أوكد الأمـــــــــــــــــــــــور
وركنوا للغيد في القصور
حتى دعــــــــــــــــــــــاهم ذاك للقصـــور
فانتشرت مرين كالجراد في
الغرب قد عمت على البلاد
ودخلوا مرحلة فمرحلة حتى
أبادوا الجيش عام المشعلة
وقبل أن يواجه المرينيون الموحدين حاولوا جذب الأنظار إليهم حين عملوا على استتباب الأمن والعمل لصالح المواطنين، فركزوا في سياستهم على استئصال شأفة الأعراب الذين كانوا يعيشون في الأرض فساداً، وقد جذب هذا أنظار المواطنين، وجعلهم ينظرون إلى بني مرين على أنهم المنقذون لهم من قسوة الاضطراب الذي يعانون منه بسبب ضعف قبضة الموحدين عن الإمساك بزمام الأمور في بلاد المغرب.
فاستمر التنافس بينهم بين ملوك الموحدين الذي ما كان أكثر عددهم وأقل مدتهم على العادة في هذه الفترة التي يعقبها السقوط. ثم لما آذنت شمسهم بالزوال، وظلمهم بالانقلاب أوقع بهم بنو مرين في معركة تعرف بالمشعلة، وقعة فاصلة لم يرفعوا بعدها رأسا ولا أبدوا حراكا، وجاءت نوبة يعقوب المنصور بن عبد الحق رابع الإخوة المذكورين فلم يكن من الصعب عليه أن يستأصل شأفتهم ويجتث جذورهم في سنة 674ه، وكذلك خلص له الملك بالمغرب، فأعلن نفسه سلطانا وتلقب بالمنصور.

  • الفرع الثالث: عوامل قبلية

يعتبر المؤرخون عبد الحق بن محيو المريني أول من نقل بني مرين من حالة البداوة قي الصحراء إلى مرحلة التفكير العملي لإقامة دولة المرينيين في المغرب الأقصى، ولذلك فإن بعض المؤرخين يطلقون عليه أبو الأملاك، لأن أبناءه الأربعة الذين تولوا أمر بني مرين من بعده، هم الذين حملوا على عاتقهم أعباء تأسيس الدولة المرينية، وكان عبد الحق يدعو أبناء بني مرين دائما إلى توحيد صفوفهم لتحقيق أملهم في العزة والسلطان بقوله لهم:» يا معشر بني مرين أما ما دمتم في أمركم مجتمعين وفي آرائكم متفقين وكنتم على حرب أعدائكم أعوانا وفي ذات الله إخوانا فلا أخشى أن ألقى بكم جميع المغرب وإن اختلفت أهواؤكم وتشتت آراؤكم ظفر بكم أعداؤكم.»
وقد اتصف هذا الأمير بكثير من الصفات التي أهلته لقيادة القبائل المرينية، ومن ناحية أخرى أثرت هذه الصفات في سلوك القبائل المرينية في المغرب الأقصى مما أعطى انطباعا حسنا عن المرينيين لدى كثير من سكان المغرب الأقصى، فأحبوا المرينيين ووجدوا في الانضمام إليهم الأمن والأمان الذي فقدوه في ظل السلطة الموحدية.
كما نجد أن بني مرين لم يحاربوا الموحدين كدولة بل حاربوهم ككتلة قبلية ضمن المجموعة ولا ينكر مع هذا أن حلفا هاما قد انعقد بين قبيلة رياح العربية وبين مرين سنة 613ه وكان لهذا الحلف الذي امتد مفعوله لأجل طويل أثر في انتصارات بني مرين على الموحدين.
والذي يؤكد لنا ما ذكرناه، قول صاحب المسند الصحيح ابن مرزوق يقول: « فانقادت إليهم قبائل أهل المغرب لما عرفوا من عدلهم وعلموا من حسن سيرتهم، فتعلقوا بأذيالهم ودخلوا تحت ظلالهم، وقد كانوا انفردوا بحفظ قوانين الدين، وقمع البغات والمعتدين وحماية النزيل، وإجارة الدخيل، والوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، سلكوا في التقوى الحق اليقين، فكانوا ممن تناولهم قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَ۬لَأَرْضَ لِلهِ يُورِثُهَا مَنْ يَّشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦۖ وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَۖ﴾. [سورة الأعراف الآية:127]
وما إن حلت سنة 625ه/1228م حتى قوي شأن المرينيين بالمغرب وخضعت لهم جميع قبائل المغرب، وتملكوا جميع بوادي المغرب من وادي ملوية إلى رباط الفتح.

المطلب الرابع: مرحلة تأسيس الدولة المرينية

بدأ المرينيون حياتهم السياسية بصراع طويل ومرير مع الموحدين استمر ثمانية وخمسين عاما، وكان لاشتراك بني مرين مع الموحدين، في ميادين القتال في بلاد المغرب والأندلس الفضل الكبير في تعرف المرينيين واطلاعهم على كثير من الخبرات في مجال الحرب والقتال، وامتص المرينيون رحيق هذه الخبرات من بين صفوف الموحدين وأضافوا إليها قوتهم وخبرتهم وجلدهم، وقد قاد المرينيون مراحل هذا الصراع ببسالة وعزم منذ وطأت أقدامهم أرض المغرب الأقصى.
فأول هزيمة داقها المرينيون على يد الموحدين بالقرب من واد سبو-منطقة بلاد الريف- حينما تحالف الموحدون مع بني عسكر وبني رياح، وحققوا فيه انتصاراً عسكرياً على بني مرين. وفيها قتل الأمير عبد الحق وولده إدريس فغضبت بنو مرين وقامت وقعدت لقتل أميرها وأنفت لمصاب رئيسها وكبيرها، وأقسم بنوه وجماعة من أشياخ مرين، بالأيمان المغلظة أن لا يدفنوهما حتى يأخذوا بثأرهما. فخرج المرينيون فهاجموا بني عسكر وبني رياح فألحقوا بهم الهزيمة، فنصرت بنو مرين وهزمت رياح، وقتل مرين منهم خلقا عديدا، وفر من بقي منهم مهزوما خائفا شريدا، وقام بأمر مرين بعد موت أميرهم عبد الحق ولده عثمان.
فلما بويع وتمت بيعته ببوادي المغرب بأزغار يوم الأحد 23 جمادى الآخر سنة 614ه/1217م، أخضع بني رياح بعد تحالفهم ضده مع بني عسكر، وأجبرهم على دفع ضريبة كل سنة فهم على ذلك يؤدون تلك الضريبة حتى الآن.

وقد اشتهر أبو سعيد عثمان بن عبد الحق باسم إيرغال وهي تعني بلغتهم البربرية الأعور. وبعد انتصارهم على بني رياح، أصبح المرينيون قوة يهابها الموحدون ويحسبون لها حسابها. وقد تركزت جهود أبي سعيد عثمان بن عبد الحق في بسط مزيد من نفوذ المرينيين على البوادي والضواحي والأرياف، وقد ساعد المرينيين على ذلك أنهم كانوا لا يمثلون مذهبا دينيا يدعون الناس إليه مثل المرابطين أو الموحدين، وإنما كانوا يركزون جهودهم على بسط الأمن والاستقرار في المناطق التي يمتد إليها نفوذهم وسلطانهم، وفي نفس الوقت يتركون لرعاياهم الحرية التامة في اتباع المذهب الذي يحبونه، وقد كان جمهور أهل المغرب يتوقون إلى الحرية في ممارسة مذهب أهل السنة وفقه مالك رحمه الله، كما انتظر كثير من خصوم الموحدين الأعداء لبدعة الموحدين هذه الفرصة قد خلوا بدائرة النفوذ المريني.

وسار أبو سعيد في نواحي المغرب يتقرى مسالكه وشعوبه ويتتبع تلاله ودروبه ويدعو الناس إلى طاعته والدخول في عهد وحمايته، فمن أجابه منهم أمنه ووضع عليه قدرا معلوما من الخراج، ومن أبى عليه نابذه وأوقع به، فبايعه من قبائل المغرب هوارة وزكارة ثم تسول ومكناسة ثم بطوية وقشتالة ثم سدراتة وبهلولة ومديونة ففرض عليهم الخراج وفرق فيهم العمال، ثم فرض على أمصار المغرب مثل فاس ومكناسة وتازة وقصر كتامة ضريبة معلومة يؤدونها على رأس كل حول على أن يكف الغارة عنهم ويصلح سابلتهم.
ولم يزل على هذا الحال حتى اغتيل على يد خادمه علج بوادي ردات أوائل محرم من سنة 638ه/1240م، وله من العمر 45 سنة وكانت إمارته 23 سنة وسبعة أشهر.
ثم بايع المرينيون بعده أخاه أبا معرف محمد بن عبد الحق بوادي ردات أول محرم من عام 638ه.
فبايعوه على القيام بأمرهم والسمع والطاعة له على أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم، فقام له الأمر وسار بهم بسيرة أخيه، واهتدى بهديه وفتح كثيرا من جبال المغرب وقلاعه المنيعة.

قتل في المعترك يوم الخميس من جمادى الآخر سنة 642ه وله 42 سنة من العمر وكانت إمارته أربع سنين وستة أشهر.
ولما قتل الأمير محمد بن عبد الحق اجتمعت قبائل مرين وأسيادها إلى أخيه الأمير أبي بكر بن عبد الحق وبايعوه على السمع والطاعة وقتال من خالفه من قبائل العرب، فلما تمت مبايعته واستقرت في الملك طلعته كان أول شيء فعله أنه جمع أشياخ بني مرين ورؤساء قبائلهم وقسم عليهم بلاد المغرب، فأنزل كل قبيلة في ناحية منه، وجعل لها ما نزلت فيه من الأرض… وأمر كل واحد من أشياخ القبائل أن يركب من في قبيلته من الرجال ويستكثر من الفرسان، ثم سار هو وقرابته وإخوته وحشمه وعبيده وأعوانه فنزل بين بلد سلفات وجبل زرهون، وكان يغير أحيانا على مدينة مكناسة. فاتصل خبره بالسعيد فعمل على الحركة للمغرب لينظر في أمر… وصل السعيد إلى مدينة فاس فجاءته قبائل بني عسكر فبايعوه. كما بايعه بنو عبد الواد.
وفي سنة 643ه نزل أبو بكر بن عبد الحق بالقرب من مكناسة، فكان يباكرها بالقتال والغارات ويراوحها حتى ملكها بمحاولة شيخها علي بن أبي العافية فدخلها في شوال من السنة المذكورة. وقيل إن السعيد لما طالت إقامته بفاس اتصل به أن أهل مدينة أزمور أشاعوا عليه أنه قد مات فأحرقوا أجفانه التي كان صنعها من خشب جامع حسان، فحلف أن يدخل أزمور بالسيف فأخذ أهل أزمور بالمغرم الثقيلة حتى لم يبقى لهم شيئا وارتحل على مراكش وساءت أحوال المغرب وانقطعت الطرقات. فلما اشتد الأمر على أهل مكناسة خلعوا طاعة الموحدين وبايعوا بني مرين.
ويمكن القول إن الأمير أبا بكر بن عبد الحق كان ذا بسالة ونجابة وإقدام، وهو الذي رفع ملك بني مرين وفتح الحصون ووازن البلاد، وكان يكنى بالعسكري. توفي بقصره من قصبة مدينة فاس يوم الخميس منسلخ جمادى الآخر سنة 656ه وله من العمر 52 سنة وكانت دولته 14 سنة وهو أول من ضرب الطبول ونشر البنود وملك البلاد من بني مرين.

لما مات الأمير أبو بكر اشتمل العامة من بني مرين على ابنه أبي حفص عمر فبايعوه ونصبوه للأمر وتباروا في خدمته ومالت المشيخة وأهل العقد والحل إلى عمه يعقوب بن عبد الحق وكان غائبا عند مهلك أخيه بتازة فلما بلغه الخبر أسرع اللحاق بفاس وتوجهت إليه وجوه الأكابر، وأحس عمر بميل الناس إلى عمه يعقوب فقلق لذلك وأغراه أتباعه بالفتك بعمه فاعتصم بالقصبة، ثم سعى الناس في الإصلاح بينهما فتفادى يعقوب من الأمر ودفعه إلى ابن أخيه على أن تكون إليه بلاد تازة وبطوية وملوية التي كانت أقطعه إياها أخوه من قبل، فانفصلوا على ذلك وخلص الأمر لعمر واستمر بفاس أشهرا إلى أن غلب عليه عمه المذكور سنة 656ه.
انقلب أمر بني مرين للأمير يعقوب بن عبد الحق، الذي عزز حكم المرينيين بالمغرب. فدخل السلطان يعقوب مدينة فاس فملكها سنة 657ه ونفذت كلمته في بلاد المغرب ما بين ملوية وأم الربيع وما بين سجلماسة وقصر كتامة، واقتصر عمر على إمارة مكناسة فتولاها أياما ثم اغتاله بعض عشيرته فقتلوه لنحو سنة من إمارته فكفى الأمير يعقوب أمره واستقام سلطانه وذهب التنازع والشقاق عن ملكه.
كما حارب يعقوب بن عبد الحق يغمراسن بن زيان، فبعد وفاة أبي بكر بن عبد الحق انتهز يغمراسن الفرصة للتوغل في المغرب واستعان في ذلك بمغراوة وبني توجين، لكن يعقوب المنصور تصدى له في كلدامان، فرجع إلى تلمسان بعد أن أحرق في طريقه المزارع التي صادفها.
وفي سنة 658ه رجعت مكناسة إلى أمير المسلمين يعقوب واجتمع عليه جميع مرين وانتظمت بلاد المغرب في طاعته وجددت له البيعة بعد وفاة عمر، ففتح البلاد من بلاد نول من السوس الأقصى إلى تلمسان وفتح حضرة مراكش دار مملكة المرتضى وقرار سلطانه، وقطع مملكة بني عبد المومن ومحا آثارهم ولم يبق منها رسما على ضخامتها بعد أن كان لها من المغرب مائة سنة واثنتان وخمسون سنة من سنة خمس عشرة وخمسمائة إلى سنة ثمان وستين وستمائة، وفتح طنجة، ومدينة سجلماسة، وبلاد درعة وبلاد سوس الأقصى، وبلاد الريف، وصالح أهل سبتة على أن بايعوه على مال معلوم يؤدونه له في كل سنة.
وفي شوال من سنة 658ه حدثت ثورة إسبانيا بسلا، وتفصيل الحادث أن يعقوب بن عبد الله بن عبد الحق كان قد عينه أبو بكر عاملا عليها وكان ينوي الخروج على عمه يعقوب بن عبد الحق عن طريق تملك الرباط وسلا التي تمكن المرتضى من استرجاعها وتعيين ابن أبي يعلا عليها، وكان في سلا عدد كبير من أبناء الجالية الإسبانية أكثرهم تجار، فتآمر يعقوب بن عبد الله معهم حيث كان أهل سلا يحتفلون بعيد الفطر، فوضعوا السيف في رقاب أهلها، ثم هب المنصور لنجدتها واستمر محاصرا لها أربعة وعشرين يوما، وأخيرا استولى عليها، وبنى بها الصور المقابل للوادي، أما الإسبان فقد غادروها في سفنهم.
وأما يعقوب بن عبد الله الثائر فإنه خشي بادرة السلطان يعقوب بن عبد الحق فخرج من رباط الفتح وأسلمه فضبطه السلطان وثقفه ثم نهض إلى بلاد تامسنا فاستولى عليها وملك مدينة آنفا وهي المسماة الآن بالدار البيضاء، فضبطها ولحق يعقوب بن عبد الله بحصن علودان من جبال غمارة فامتنع به وسرح السلطان ابنه أبا مالك عبد الواحد وعلي بن زيان لمنازلته وسار هو إلى لقاء يغمراسن وعقد معه المهادنة وافترقا على السلم ووضع أوزار الحرب ورجع السلطان إلى المغرب فخرج عليه بنو أخيه إدريس.
لكن أبا يوسف استمالهم وبعث بعضهم إلى الأندلس على رأس جيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فشغلوا بالحرب هناك، وكانوا أول جيش وجه إلى الأندلس في دولة بني مرين سنة 662ه بقيادة محمد وعامر ابني إدريس بن عبد الحق، وقد تمكنا من استرجاع كثير من المعاقل كشريش وغيرها. وبينما كان يعقوب أبو يوسف في خضم هذه الأحداث كان يعمل في نفس الوقت على مهاجمة الموحدين في عقر دارهم بمراكش.
وفي سنة 663ه تحرك أمير المؤمنين أبو يوسف إلى مراكش برسم حصارها على أهلها فوصل إلى أحوازها فبايعه أكثر قبائل العرب والمصامدة الذين بأنحائها، ودخلوا في طاعته فكف عنهم وأمنهم ورجع إلى مدينة فاس.
والظاهر أن غزوته هذه كانت استطلاعية أكثر منها هجومية يقصد بها الاستيلاء على عاصمة الموحدين، وكان يستقر بفاس حتى زاره أبو دبوس يستنصره على المرتضى ويعده بمشاطرته ملك مراكش، وكان أبو دبوس يعجل بذلك بنهاية دولة الموحدين عن قصد أو غير قصد، فأمده يعقوب بخمسة آلاف مقاتل بعددهم ومؤونتهم وتمكن أبو دبوس بذلك من طرد المرتضى الذي إلتجأ إلى صهره ابن عطوش والي أزمور، ولكن هذا غدر به وقتله، وأسلمه إلى أبي دبوس على رواية الذخيرة.
وتذكر المصادر التاريخية أيضا أن سبب رجوع يعقوب بن عبد الحق إلى فاس دون فتح مراكش مقتل ابنه عبد الله، يقول صاحب الإستقصا:» فكان بينهم حرب بعد العهد بمثلها هلك فيها الأمير عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق ففت مهلكه في عضدهم وارتحلوا عنها إلى أعمالهم.»
وجاء في البيان المغرب أنه لما قدر الله بوفاة عبد الله بن أمير المسلمين، فحال ذلك بينهم وبين الحروب، ووجه المرتضى إثر ذلك رسوله يعزيه في ابنه ويعزي في إخوته واستلطفهم واسترضاهم واستعطفهم ثم وافقهم على مال معلوم يصلهم في كل عام، فرحل أبو يوسف ووقع بينهم التراضي والإنعام.
وترى معظم المصادر أن فرار أبي دبوس كان لخوف المرتضى من تطلعه إلى العرش الموحدي، بينما ترى بعض المصادر الأخرى أن فراره كان بسبب علم المرتضى بأن مراسلات سرية تتداول بين بني مرين وأبي دبوس. وفي كلتا الحالتين كانت نظرة المرتضى لأبي دبوس على أنه خائن، هي التي دفعت هذا الأخير إلى الفرار إلى البلاط المريني. وصلت أنباء استيلاء أبي دبوس على مراكش إلى أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، فبعث إليه رسولا يهنئه بالفتح، ويطلب منه الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه.
غير أن أبا دبوس لم يف بما وعده به يعقوب بن عبد الحق.
فقال أبو دبوس للرسول: ما بيني وبينه عهد إلا السيف. وقال له يبعث بيعته وأقره على ما بيده من البلاد، وإلا غزوته بجنود لا قبل له بها، فوصل الرسول إلى أمير المؤمنين فأبلغه الجواب، وأعلمــــــه بنكــــثه وميله عن الصواب، فخرج أمير المسلمين يعقوب بن عبد الحق إلى غزوه من حضرة فاس.
فحشد قوات ضخمة خرج بها إلى مراكش على إثر وصول هذه الرسالة، لمهاجمة أبي دبوس والقضاء عليه، فأحكم حصار المدينة، وأطلق سرايا الجيش المريني في جهات مراكش ونواحيها، تحطم الزرع وتنسف الأقوات.
يقول صاحب الأنيس ابن أبي زرع: «فسار حتى نزل بظاهر مراكش فحاصرها وهتك أحوازها، ورعى زروعها فلما رأى أبو دبوس ما ناله من شدة القتال والحصار، ورعي الزروع ونسف الآثار، وشدة المجاعة في بلاده وغلاء الأسعار، كتب إلى يغمراسن بن زيان يستنصر به ويرغب منه أن يكون على أمير المسلمين يعقوب يدا واحدة فتعاهدا على ذلك، واتفقا عليه.»
ولم يكن يغمراسن يقصد من مساعدة أبي دبوس أكثر من البحث عن فرصة يصير فيها ملك المغرب إليه دون بني عمومته المرينيين.
فلما وقف يعقوب على تطورات الأحداث هذه قرر إرجاع العاصمة الموحدية، ورفع الحصار عنها مؤقتا، وعاد إلى فاس حيث أقام بها أياما استكمل فيها أهبته واستعداده لحرب يغمراسن، وفي منتصف ربيع الأول سنة 666ه/1267م سار أبو يوسف إلى واد ملوية متخذا طريق جرسيف، وكان اللقاء بوادي تلاغ.
يقول صاحب الذخيرة ابن أبي زرع: «فالتقا الجمعان بوادي تلاغ بالقرب من وادي ملوية، فعبأ كل واحد منهما جيوشه وميز كتائبه واصطفت عيالات الفريقين خلف الجيوش في الهوادج والمراكب والقباب المزينات…وزحف الجيش إلى الجيش وقصد القرين إلى القرين، فكانت بينهما حروب عظيمة لم ير مثلها فلا ترى إلا الخيول ترمح، وبفرسانها إلى اللقاء تطمح، والسيوف بالدماء ترعف، والرؤوس عن الأجسام تقطع وتقصف. فدام القتال بين الفريقين من وقت الضحى إلى وقت الظهر، وصبرت مرين لقتال عدوها صبر الكرام إلى أن منحهم الله تعالى النصر على بني عبد الواد، فهزموهم وأذاقوهم الحمام في ذلك الوادي، وفر أميرهم يغمراسن على وجهه مهزوما، وقتل قرة عينه عمر وهو أكبر ولده وولي عهده، وسيوفهم في رقابهم، فدخل يغمراسن حضرة تلمسان مهزوما، وتفرقت جيوش بني عبد الواد فلا ترى منهم إلا قتيلا أو جريحا أو خائفا شديدا، وانتهبت مرين ما كان في معسكرهم من الأموال والخيل والسلاح والأثقال.»
وعاد أبو يوسف إلى فاس ليستأنف منها العمل للاستيلاء على مراكش. فنهض إليها من فاس في شعبان سنة 666ه/1268م ولما عبروا وادي أم الربيع بث السرايا وشن الغارات وأطلق الأعنة والأيدي للنهب والعيث فحطموا زروعها وانتسفوا آثارها وتقرى نواحيها كذلك بقية عامه، ثم غزا عرب الخلط من جشم بتادلا فأثخن فيهم واستباحهم، ثم نزل واد العبيد فأقام هناك أياما ثم غزا بلاد صنهاجة فاستباحهم ولم يزل ينقل ركابه في أحواز مراكش ويجوس خلالها إلى آخر ذي القعدة من سنة 667ه فاجتمع أشياخ القبائل من العرب والمصامدة عند أبي دبوس وقالوا له: يا مولانا كم تقعد عن حرب بني مرين وقد ترى ما نزل بنا في حريمنا وأموالنا منهم فاخرج بنا إليهم لعلل الله يجعل سبب الفتح فإنهم قليلون وجمهورهم وذووا الشوكة منهم قد بقوا برباط تازة لحراسة ذلك الثغر من بني عبد الواد، ولم يزالوا يفتلون له في الذورة والغارب حتى أجابهم إلى رأيهم فاستعد للحرب وبرز من حضرة مراكش في جيوش ضخمة وجموع وافرة.
فتظاهر أبو يوسف بالفرار أمامه، وكان هدفه من ذلك إبعاده عن مراكش حتى لا يعود أبو دبوس إلى التحصن بها إذا ما هزم أمام أبي يوسف، وحتى يبعده أيضا عن أي إمدادات قد تصل من مراكش.
ظل يعقوب بن عبد الحق يتظاهر بالانسحاب وأبو دبوس يتتبع أثره حتى نزل بوادي غفو، وظن رجوعه إنما هو للخوف منه، فجد في اتباعه، فكان أمير المسلمين يعقوب إذا ارتحل من موضع أقبل أبو دبوس فنزل به، فلم يزل للأثر يقفو، حتى أتى لحينه وادي ودغفو، أمير المؤمنين راجعا في وجهه عازما على قتاله وحربه، فالتقى الجمعان، وأقبلت بنو مرين أمثال العقبان، والتحم القتال واشتد النزال، وصبرت مرين صبرها في قتال أعدائها، فرأى أبو دبوس ما لا طاقة له به، فأراد الفرار، لكي ينجو إلى مراكش فيعتصم فيها بالأسوار، فأدركته الضمر السوابق، وأقبلت أبطال مرين نحوه تسابق، فحالوا بينه وبين أمله ومراده، وسارعوا إلى طعنه وقتاله بالرماح في وسط المعترك وسقط تحت جواده صريعا فكم من ذئب مع نسر في أشلائه اشترك.
وأخذ رأسه وجيء به إلى السلطان يعقوب فسجد شكرا لله تعالى وذلك يوم الأحد ثاني محرم سنة 668ه/01شتنبر1269م وتشكل معركة وادي غفو هذه نقطة تحول بارزة في تاريخ دولة بني مرين إذ كانت هذه المعركة نهاية دولة الموحدين، وبداية لقيام دولة جديدة فتية هي الدولة المرينية. حيث لم تقم للموحدين قائمة بعد هذه المعركة.
يقول صاحب تتمة المختصر في أخبار البشر محمد بن مظفر بن الوردي: « وملك يعقوب مراكش من أبي دبوس واستمر حتى ملك سبتة.»
تقدم السلطان يعقوب نحو مراكش وفر من كان بها من الموحدين إلى تينمل وبايعوا إسحاق أخا المرتضى فبقي ذبالة هناك إلى أن قبض عليه سنة 674ه وجيء به في جماعة من قومه إلى السلطان يعقوب فقتلوا جميعا، وانقرض أمر بني عبد المومن.
ولما دخل السلطان يعقوب إلى حضرة مراكش، خرج فقهاؤها وصلحاؤها وقضاتها وعمالها وأشياخها إلى لقائه، فتلقوه وبايعوه وطلبوا منه أمانه فأمنهم وجميع أهل المدينة وأحوازها وتلقاهم بالبر والإكرام وأحسن إلى جميعهم بالخلع والأموال، كل على قدر مرتبته. فاستقر بقصبتها وتم له ملك المغرب، وتهدنت البلاد، وصلح حال جميع من فيها من العباد، وتأمنت الطرقات وكثرت الخيرات، وأذعن أهل تلك البلاد إلى الطاعة ودخلوا في الجماعة، فلا ثائر ولا مفسد ولا قاطع، ولا خارجا يخشى منه ولا منازع.
يقول عبد العزيز الملزوزي:
وانقرضت دولة عبد المومــــــــــــــــــــن
من غربنا وحالهم لم يؤمـــن
كم قد رأوا في الدهر من سعود
ورفعة في الأرض بالتوحيد
وبهذا الانتصار الضخم طوى السلطان يعقوب بن عبد الحق آخر صفحة من صفحات دولة الموحدين بالمغرب، وبدأ يسطر بنفسه أولى الصفات في تاريخ الدولة المرينية الجديدة، وجرت في البلاط المريني مراسم تتفق ومستلزمات الدولة الجديدة حيث تلقب أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق بلقب السلطان بعد أن كان يلقب بالأمير وصدرت الكتب والرسائل من البلاط المريني إلى القبائل وسائر بلاد الغرب تحمل هذا اللقب الجديد، وكان ذلك إعلانا رسميا بقيام الدولة المرينية، التي أصبحت تسيطر، على سائر أنحاء المغرب الأقصى من واد ملوية وجبال الأطلس الوسطى شرقا وحتى المحيط الأطلنتي غربا، ومن رباط تازة وجبال غمارة شمالا حتى مراكش ووادي تنسيفت جنوبا، وغدت هذه الدولة شامخة تقوم بدورها في خدمة الإسلام وبناء الحضارة الإسلامية في بلاد المغرب.

المطلب الخامس: مرحلة توسيع الدولة المرينية

  • الفرع الأول: مرحلة التوسع داخل المغرب

قام أبو يوسف يعقوب -بعد إعلانه الدولة المرينية- بجهود سياسية ضخمة، وكانت أهم أهداف هذه الجهود استكمال تأسيس الدولة الجديدة، وتدعيم أركانها، وإظهار سطوتها، وقوتها. وسيطرتها الكاملة على كافة أقاليمها ومواطنيها. ومما ساعد المرينين على نجاحهم في بسط سلطانهم، أن حركتهم كانت حركة سياسية محضة، لم تتشح بثوب الدين كما فعل الموحدون من قبلهم. فلم يتخذ المرينيون من الدين وسيلة لإثارة مشاعر الجماهير وتوجيههم الوجهة التي يريدونها، وإنما كان شعار المرينيين الذي رفعوه ولاقى كثيرا من مظاهر التأييد، وهو إقامة حكم سياسي يراعي مصلحة البلاد، ويحافظ عليها من مخاطر الانحرافات، ويبعث في المواطنين الشعور بالأمن على أنفسهم وأموالهم.
وفي ضوء هذا الشعار الذي رفعه المرينيون سار السلطان أبو يوسف يعقوب، وتابع جهوده بنفس الدرجة من القوة والكثافة، وقد كانت هناك أجزاء من الدولة الموحدية تقع تحت نفوذ بعض الثائرين مثل منطقة سوس ودرعة. فضلا عن ذلك كانت طنجة وسبتة منطقتين تقعان خارج السيطرة الموحدية، وأصبح لها بعد سقوط دولة الموحدين أهمية استراتيجية-إذا جاز استخدام هذا التعبير- بالنسبة لدولة جديدة ناهضة لها مشارعها الخاصة بها في تأمين نفسها ضد أي خطر خارجي.
1 -السيطرة على بلاد درعة: ثار العرب ببلاد درعة وأبادوا رجالها بالقتل وأموالها بالنهب وكثر أذاهم في تلك النواحي، فخرج السلطان يعقوب لغزوهم من حضرة مراكش، فشق الجبال والأوعار حتى وصلها سنة 669ه/1271م. فنزل بأول بلاد درعة فقتل من العرب خلقا كثيرا وسبا نسائهم وأموالهم بعد أن حاصرهم بمعقل من معقل درعة أياما فنزلوا إليه بِأَمَان ولده الأمير عبد الواحد، فعفا عنهم وأمضى أمان ولده وفتح جميع بلاد درعة وملك حصونها ومعاقلها، ولم يبق ببلاد درعة وأنحائها من أهل النفاق والفساد أحد وأحرزها من العرب، فبعث بهم إلى مراكش وهدّن البلاد وأخرج عليها العمال، وارتحل إلى مراكش. وتقاليد الدولة الجديدة التي ترى الأمن والاستقرار من أهم أهدافها.
وكانت هذه التصرفات التي قام بها ثوار درعة لا تتفق واتجه أمير المسلمين يعقوب بن عبد الحق إلى رباط الفتح قادما من مراكش، فدخلها في أواخر ذي القعدة سنة 669ه/1271م، ثم غادرها إلى سلا وهناك مرض يعقوب بن عبد الحق مما جعله يتخذ إجراءات سريعة لتعيين ولي العهد.
يقول المؤرخ ابن أبي زرع: «وأخذ به البيعة على بني مرين لولده عبد الواحد وجعله وليا للعهد».
ويؤكد الناصري كلام ابن أبي زرع قائلا: «لما طرقه مرض وعك منه وعكا شديدا، فلما أبل من مرضه جمع قومه وعقد العهد لأكبر أولاده أبي مالك عبد الواحد بن يعقوب لما علم من أهليته لذلك وأخذ له البيعة عليهم جميعا».
ويعتبر هذا الأمر أول مرسوم لتعيين ولي العهد في الدولة الجديدة، مما جعل بعض أهل القرابة أن هذه الخطوة جرت على غير المألوف والعادة من طبيعتهم القبلية، فجعلهم هذا الأمر يخرجون معترضين ومعتصمين بجبل علودان، وكان من قيادي هذه المعرضة محمد بن إدريس بن عبد الحق، وموسى بن رحو بن عبد الله.
فخرج السلطان يعقوب في أثرهم وبعث لحربهم ولده الأمير الأجل يوسف في جيش من خمسة آلاف فارس فسار فيها حتى نزل عليهم بجبل أمركو فحاصرهم، ثم لحق به أخوه الأمير عبد الواحد في اليوم الثاني فحاصروهم يومين فأذعنوا وطلبوا الأمان فأمنهم وعفا عنهم على أن يخرجوا من بلاده إلى تلمسان فنزلوا بأمانه، وساروا بأموالهم ورجالهم إلى تلمسان فأقاموا بها مدة ثم جازوا إلى الأندلس.
فهذه الثورة تمثل خطرا كبيرا يهدد وحدة البيت المريني لذا عزم أبو يوسف على مواجهتها بحزم شديد.
2 -فتح تلمسان والقضاء على يغمراسن: كان السلطان يعقوب بن عبد الحق يرى في يغمراسن حجرة عثرة تقف بينه وبين شرق المملكة، وهو بذلك يشكل تهديدا لشرق الدولة الفتية، لذلك فكر يعقوب جديا في توجيه ضربة قاصمة لخصمه العنيد يغمراسن بن زياد. ويرى صاحب الاستقصا أن ذلك كان بدافع الانتقام لأن أبا يوسف يرى أن وقعة تلاغ لم تشف صدره ولا أطفأت نار موجدته فأجمع أمره لغزوه ونشطه لذلك ما صار إليه من الملك وسعة السلطان، فحشد جميع أهل المغرب وعزم على استئصاله وقطع دابره.
ولكن صاحب الذخيرة السنية يضيف إلى ذلك سببا آخر ففي سنة 669ه/1270م أرسل بن الأحمر صاحب غرناطة بالأندلس إلى أبي يوسف، يستنصر به ويدعوه إلى العبور إلى الأندلس للقيام بدوره في مساندة المسلمين هناك ضد النصارى.
يقول صاحب الذخيرة: « وارتحل نحو تلمسان فسار حتى وافاه بها رسل بن الأحمر وكتابه يسأله أن ينصر الدين ويغيث من بالأندلس من المسلمين، ويخبره أن ألفنش لعنه الله قد ضيق ببلاد المسلمين وأباد أهلها بالقتل والأسر والغارات.»
فرأى أبو يوسف أن يتجهز للقتال بالأندلس ويستميل يغمراسن بواسطة صلح طويل الأمد، لكن يغمراسن رفض بكل شدة صارخا بالانتقام لولده عمر.
وأقسم ألا يصالحه أبدا حتى يأخذ من الثأر أو يموت دون ذلك. كان ذلك الرد العنيف يمثل في رأي أبي يوسف قصورا من جانب يغمراسن بن زياد عن فهم طبيعة الأحداث السياسية التي تمر بها المنطقة، ومن ناحية أخرى يمثل تقصيرا في خدمة الإسلام الذي يواجه موقفا حرجا في بلاد الأندلس.
فأعلن يعقوب بن عبد الحق التعبئة التامة في رجوع الدولة، وحشد جيوشا ضخمة لغزو يغمراسن. يقول ابن خلدون: « وحشد كافة أهل المغرب من المصامدة والجموع والقبائل ونهض على بني عبد الواد سنة 670ه فبرز إليه يغمراسن في قومه وأوليائه من مغراوة والعرب وتزاحفوا بإسلي من نواحي وجدة فكانت الدبرة على يغمراسن انكشفت جموعه، وقتل ابنه فارس، ونجا بأهله بعد أن أضرم معسكره ناراً تفاديا من معرّة اكتساحه، ونجا إلى تلمسان فانحجر بها، وهدم يعقوب بن عبد الحق وجدة، ثم نازله بتلمسان، واجتمعت إليه هنالك بنو ترجين مع أميرهم محمد بن عبد القوي، وصل يده بيده السلطان على يغمراسن وقومه، وحاصروا تلمسان أياما فمتنعت عليهم، وأفرجوا عنها. وولى كل إلى عمله ومكان ملكه.»
فرجع أبو يوسف إلى فاس بعد أن انسحبت قوات بني ترجين إلى ونشريس في مطلع سنة 671ه وأعطاهم ألف ناقة ومائة فرس وخلعا وسيوفا ودرقا ومضارب، وقعد السلطان بظاهر تلمسان حتى تعرف أنهم وصلوا إلى ونشريس.
وفي نفس السنة 671ه/1278م ورغم حزنه الشديد على وفاة ابنه أبا مالك، فقد خرج من فاس في أواخر صفر من نفس السنة لمتابعة جهوده لتدعيم الدولة المرينية.
يقول المؤرخ علي بن أبي زرع صاحب الذخيرة: « فلما انقضى شهر صفر الذي توفي فيه ولده أبو مالك ارتحل السلطان إلى حضرة مراكش، فوصل إلى رباط الفتح في يوم الثاني عشر من ربيع الأول، فأخذ به البيعة من بني مرين بولاية العهد لولده الأمير أبي يعقوب يوسف، ثم سار إلى حضرة مراكش فدخلها في نصف ربيع الآخر منها، فقعد بها أياما ثم ارتحل إلى بلاد سوس.»
3 -فتح بلاد سوس: رحل السلطان يعقوب إلى بلاد سوس فهدنها، وبعث وزيره فتح الله بن عمر السدراتي في جيش من ثلاثة آلاف فارس إلى عرب المعقل فغزاهم وقتل منهم خلقا كثيرا بتيدس، وذلك في شوال من سنة 671ه، ثم خرج السلطان من بلاد سوس فدخل مراكش وأقام بها حتى أهل هلال رمضان، فارتحل عنها إلى رباط الفتح فعيد عيد الفطر، وارتحل إلى طنجة لأجل فتحها.
وكان لهذه الجولة التي قام بها السلطان أبو يوسف أثرها في تهدئة الأحوال في هذه المناطق حديثة الانضمام إلى الدولة الجديدة.
وقد ذكر الملزوزي شعرا واصفا به سير الأمير يوسف بن يعقوب إلى سوس حيث قال:
فوجه المنصور يوسف ابنه
للسوس مع نول يريد أمنـــــه
فيســــــــــــر الله له مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــراده
فيه وأبدا للورا اسعـــــــــــــــــــــــــــاده
ففرت العرب وجاءت البعض
وعهدهم ما زال فيه النقض
ولم يزل حتى أتى الجميـــــــــــــــــــــع
كلهـــــــم لأمــــــــره مطيـــــــــــــــــــــع.

4 -فتح طنجة وسبتة: لما ضعف أمر بني عبد المومن بالمغرب استقل الفقيه أبو القاسم بن أبي العباس العزفي برياستها وضبطها وانتظم في طاعته سائر أعمالها، ولما كانت سنة 663ه بعث الفقيه المذكور أجفانه إلى مدينة أصيلا فهدموا أسوارها ونقضوا قصبتها، لأنه خاف عليها من خلائها أن يملكها العدو ويمتنع بها، واستمرت أموره بستة ونواحيها على الشداد وكانت طنجة تالية لسبتة في سائر أحوالها وكانتا معا من أحصن بلاد المغرب.
فاتجهت أنظار أبي يوسف بعد ذلك إلى الاستيلاء على طنجة وسبتة، لما لهما من أهمية كبرى، فقد كانتا من أعظم عمالات الموحدين، فهما ثغرا العدوة المغربية ومرفأ الأساطيل، وبها دور صناعة السفن والآلات الحربية، كما أنهما المعبران الرئيسان إلى بلاد الأندلس حيث ميادين الجهاد الواسعة التي تنتظر المرينيين.
فجهز السلطان يعقوب حملة لفتح طنجة باعتبارها قاعدة الجهاد بالمغرب.
يقول علي بن أبي زرع: «فلما نزلها أمير المسلمين وطال عليها الحصار شرع في البناء عليها فبنى جزء من البنية المنصورة فضاق ذرع أهلها لأجل ذلك، ثم إن أمير المسلمين عزم أن يرتحل عنها ويترك عليها جيشا مع ولده الأمير يوسف.»
فبينما هو يقاتل في عشي اليوم الذي عزم على النهوض في غده إذا بجماعة من رماتها قاموا على برج ورفعوا لواء أبيض ونادوا بشعار بني مرين، وذلك لخلاف وقع بينهم داخل البلد فتسارع الجند إليهم فملكوهم البرج… ثم تكاثرت جيوش بني مرين واقتحموا البلد عنوة ونادى منادي السلطان يعقوب بالأمان وكان ذلك في ربيع الأول سنة 672ه، ولما فرغ السلطان يعقوب من طنجة بعث ولده الأمير يوسف إلى سبتة فحاصر بها العزفي أياما ثم لاذ بالطاعة على أن يبقى ممتنعا بحصنه ويؤدي للسلطان خراجا معلوما كل سنة فقبل السلطان منه ذلك وأفرجت عنه عساكره.
وذكر صاحب الذخيرة أن هذا المال كان في صورة كميات من السلاح والثياب والأخبية. يقول: «فصالحه صاحبها الفقيه أبو القاسم العزفي على هدية يبعثها له في كل سنة من الأخبية والسلاح والثياب وكتب بيعته إليه، فقبل منه الأمير يوسف وارتحل عنه».
وأيما كان المدفوع أموالا أو سلاحا أو غير ذلك فقد كان فتح طنجة وسبتة تتويجا للانتصارات المرينية في الميدان المغربي، ونقطة تحول خطيرة في تاريخ هذه الدولة، إذ أصبح الطريق مفتوحا أمام المرينيين ليعبروا بسلام إلى الأندلس ليقوموا بدورهم في خدمة الإسلام والمسلمين هناك.
5 -فتح سجلماسة: بعد بضعة أشهر من نفس السنة 672ه توجه السلطان يعقوب للاستيلاء على سجلماسة، التي كانت تحت حكم بني عبد الواد بعد أن خضعت زمنا لأبي بكر بن عبد الحق على يد أبي يحيى القطاني. وكان دخولها في طاعة يغمراسن بمساعدة عرب المنيات من ذوي عبيد الله إحدى فرق بني معقل، وقد استعمل المرينيون هذه المرة في هذا الحصار البارود، الذي يبدو أنه استعمل قبلهم أو في أيامهم على أقل تقدير، وكان اقتحام سجلماسة في صفر سنة 673ه/1274م.
فحاصر السلطان سجلماسة وأدار بها قبائل بني مرين والعرب والأعزاز والروم والرماة، وشرع في قتالها ونصب عليها المجانيق والرعادات وآلات الحرب، وضيق عليها وقطع عنها جميع المرافق فضاق أهلـــــــــها ذرعا من شدة القتال والحصار… فدخلها السلطان فأمن سائر أهلها وعفا عنهم، ونظر في مصالحهم ورفع مظالمهم وأصلح أحوالهم وبلادهم، وأقام بها حتى هدنها وسكن أحوازها وأوديتها وقدم عماله وارتحل عنها راجعا على طريقه إلى مراكش.
وبسقوط سجلماسة كمل المرينيون السيادة التامة على أراضي المغرب الأقصى كله.
ويشير ابن خلدون إلى مضمون السيادة بقوله: «وكمل فتح بلاد المغرب للسلطان أبي يوسف، وتمشت طاعته في أقطاره، فلم يبق فيه معقل يدين بغير دعوته، ولا جماعة تتحيز إلى غير فئته ولا أمل ينصرف إلى سواه. ولما كملت له نعم الله في استيساق ملكه وتمهيد أمره، انصرف أمله إلى الغزو وإيثار طاعة الله بجهاد أعدائه، واستنقاذ المستضعفين من وراء البحر من عباده.»

  • الفرع الثاني: مرحلة التوسع خارج المغرب (بلاد الأندلس)

حرص المرينيون على الجهاد في إسبانيا، ومساعدة غرناطة الإسلامية، واقتضت منهم هذه السياسة العمل على الاحتفاظ بقواعد عسكرية في جنوب الأندلس مثل رندة. وجبل طارق، والجزيرة الخضراء، وطريف. ومربلة، لتكون بمثابة رأس جسر لهم هناك عند القيام بهذا الواجب المقدس، إلا أنه يلاحظ في الوقت نفسه، أن اهتمام المرينيين بهذه القواعد الأندلسية، لا يرجع فقط إلى الرغبة في مساعدة إخوانهم في الدين سكان غرناطة، بل يرجع أيضا إلى الدفاع عن نفوذهم في مضيق جبل طارق، ومنع أي خطر يهدد المغرب من هذه الناحية الشمالية.
فور عودة السلطان يعقوب من فتح سجلماسة، صادف وصول وفد من شيوخ الأندلس يحمل رسالة من السلطان محمد الفقيه سلطان غرناطة، وتشرح هذه الرسالة تدهور أوضاع المسلمين في بلاد الأندلس، وتكالب العدو عليهم، وتطلب النجدة والعون من بني مرين.
خرج السلطان يعقوب من مدينة فاس في أول يوم من شوال سنة 673ه/30 مارس 1275م، حتى وصل إلى طنجة فبعث إلى الفقيه العزفي، وأمره بتعمير الأساطيل لجهاد المشركين، وإصلاح الأجفان واعدادها لجواز المجاهدين، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وعقد لولده الأمير أبو زيان على جيش من خمسة آلاف فارس من أنجاد بني مرين وفرسان العرب، ودفع له رايته المنصورة، وأوصاه بتقوى الله في السر والعلانية، فركب الأمير أبو زيان البحر في جميع جيوشه من قصر المجاز، فنزل بطريف من بلاد الأندلس، وذلك في السادس عشر من ذي القعدة سنة 673ه، فأقام بطريف ثلاثة أيام حتى استراح الناس والخيل من هول البحر، فخرج إلى البحيرة فغنمها وبعث المغانم إلى الجزيرة وولى السير في بلاد العدو يقتل ويسبي ويخرب القرى والحصون، ويحرق الزرع ويقطع الثمار وينسف الآثار حتى وصل إلى شريس، ولم يقد أحد من الروم أن يخرج إليه.
وقد شجعت هذه النتائج الأولية لهذه الحملة أبا يوسف على العبور بنفسه إلى الميدان الأندلسي.
وبعث السلطان يعقوب حفيده تاشفين بن الأمير عبد الواحد إلى يغمراسن بن زياد أمير تلمسان يطلبه في الصلح والألفة واجتماع الكلمة لكي يجوز إلى الأندلس آمن الروعة من بلاده، فأسعفه يغمراسن بمطلبه، فتم الصلح بفضل الله بينهما على المراد وجمع الله تعالى كلمة الإسلام، وألف بين المسلمين ونفى عنهم التحاسد والتنافس والاظلام، فلما وصل الأمير تاشفين من تلمسان وقد تم الصلح مع يغمراسن وسر السلطان يعقوب بذلك سرورا عظيما وأخرج الصدقات، فتصدق بمال جزيل في جميع بلاده شكرا لله تعالى على ذلك. ثم كتب الكتاب وأخرج به للرد إلى أشياخ بني مرين وأمراء العرب ورؤساء قبائل أهل المغرب من المصامدة وجزولة وصنهاجة وغمارة وجاناتة يستنفرهم إلى الجهاد ثم ارتحل إلى قصر المجاز.
فقد أضاف أبو يوسف إلى هذه السياسة الحكيمة ألوانا أخرى من السياسة الناجحة، إذ عمد هذا السياسي البارع إلى توجيه طاقة القبائل العربية -التي كانت من قبل في أيام الموحدين تنهج سياسة الإفساد في البلاد، وقطع الطرق، ونسف الأخضر واليابس- إلى الجهاد المقدس دفاعا عن الإسلام والمسلمين في الميدان الأندلسي. فقد حشد أبو يوسف قواته في قصر المجاز، وكان ضمن هذه القـــــوات معظم هذه القبائل العربية من سفيان والخلط والعاصم وبني جابر والأثبج وبني حسان ورياح والشبانات.
وفي أول محرم من سنة 674ه ارتحل السلطان يعقوب إلى قصر المجاز فنزل به وأخذ في تجويز أجناده وأهل دواره، فكان الناس يجوزون فوجا بعد فوج، وقبيلة بعد قبيلة، وطائفة بعد طائفة، فكانت المراكب والسفن غاديات ورائحات آناء الليل وأطراف النهار، من قصر المجاز إلى طريف يزدحمون في ذلك المعبر.
فالمرسلات تسوق العاديــــــــات إلى
غزو العداة وتجويز صباحا مساء
كأنما البحر أضحى للجياد مدى
وكل شعبة مــــــــاء حولت فرســـــــــــــا
كأنما اقترب البــــــــــــــــــــــــــــــران واتصلا
فصار ذلك طريـــــقا للورى يبســــــا
فلما تكامل الناس بالجواز واستقروا ببلاد الأندلس وانتشرت عساكر المسلمين بها من مدينة طريف إلى جزيرة الخضراء جاز السلطان يعقوب في آخرهم في خاصته ووزرائه وخدام دولته ومع جماعة من صلحاء المغرب وكان جوازه في ضحى يوم الخميس الحادي والعشرين من شهر صفر سنة 674ه من قصر المجاز على حين غفلة من الناس ولم يشعر بجوازه أحد حتى طلع في الجفن، فسهل الله عليه الجواز وهون عليه ركوب البحر.
فنزل بساحل طريف، وكان أبو يوسف قد اشترط على السلطان محمد الفقيه ابن الأحمر حينما استنجد به أن يتنازل للمرينيين عن بعض الثغور والقواعد الساحلية، لتنزل بها القوات المرينية، فنزل له ابن الأحمر عن رندة وطريف والجزيرة الخضراء، وكان والده قد أوصاه عند وفاته أن يستدعي أمير المسلمين أبا يوسف للجهاد، ويعطيه ما يريد من البلاد.
ولما أحس أبو محمد بن أشقيلولة بإجازة السلطان يعقوب قدم إليه الوفد من أهل مالقة بيعتهم وصريخهم وكان أبو محمد بن أشقيلولة وأخوه أبو إسحاق من أصهار ابن الأحمر وكانا مستوليان على مالقة ووادي آش وقمارس ووقعت بينهما وبين ابن الأحمر منافسة فخرجا عن طاعته، ولما عبر السلطان يعقوب إلى الأندلس بادر أبو محمد بن أشقيلولة إليه واتصل به وأمحضه الود والنصح وسابق ابن الأحمر في ذلك ونازعه في برور مقدمه والإذعان له وربما صدرت من ابن أشقيلولة في حق ابن الأحمر جفوة بمحضر السلطان يعقوب أدت إلى بعض الفساد وانصرف ابن الأحمر مغاضبا للسلطان من أجل ذلك.
غير أن المؤرخ ابن أبي زرع يرى أن يعقوب بن عبد الحق نجح في إنهاء الصراع والخلاف الذي كان بين ابن الأحمر وبين ابن أشقيلولة. يقول: «وكان بين ابن الأحمر وبين ابن أشقيلولة ضِد ومنافسة وشحناء، فأزالها وأصلح بينهما، واجتمعت بحول الله تعالى كلمة الإسلام.»
لم يعبأ أبو يوسف بهذه الخلافات الشخصية وانطلق يؤدي مهمته في تحرير الأراضي الإسلامية فنفذ بجيوشه الجرارة إلى الوادي الكبير قبل أن يشعر به العدو، وكون مقدمة استطلاعية قوامها خمسة آلاف جندي جعل على قيادتها ولده الأمير يوسف وسار هو خلفه في القوات الرئيسية، وانتشرت الجيوش في أرض الوادي الكبير تقتل وتأسر وتنسف الزروع وتخرب الضياع، حتى وصلت هذه القوات إلى الحصن المدور وبياسة وأبدة بالقرب من قرطبة، واستولى على حصن بلمة بالقوة.
فجمعت الغنائم للسلطان. فسار أمير المسلمين والغنائم تساق أمامه وقد ملأت الأرض طولا وعرضا، وفاضت الغنائم فيض النيل.
وجاء النذير باتباع العدو وآثارهم لاستنقاذ أسراهم وارتجاع أموالهم، وأن زعيم الروم وعظيمهم ذننه، خرج في طلبهم بأمم بلاد النصرانية من المحتلم فما فوق.
لكن السلطان أبا يوسف استطاع أن يبدد هذا الجيش بين قتيل وأسير وفار في يوم السبت 15 ربيع الأول 674ه/1275م.
ويذكر ابن خلدون أن عدد القتلى وصل إلى ستة آلاف قتيل واستشهد من المسلمين ما يناهز الثلاثين أكرمهم الله بالشهادة وآثارهم بما عنده.
وقتل زعيم الكفرة دون نونيو وولده وهزم جيشه وقطعت رأس ذننه وأرسلت إلى ابن الأحمر الذي عطرها بالمسك وأرسلها بدوره إلى ملك قشتالة.
ثم زحف يعقوب إلى أحواز إشبيلية حيث قام بغارة عابرة وقام ببناء مدينة البنية بجانب الجزيرة، أما قوات بني الأحمر فقد كانت بدورها تهدد قرطبة وإشبيلية، وأثناء هذه الغارات السريعة قتل أسقف طليطلة، وانهزمت النجدات القشتالية أمام المسلمين ولكن هؤلاء وقفوا عند هذه المعارك الشبيهة بالمناوشات، من غير أن يضربوا على المدن الكبرى حصارا طويل الأمد وأن يحاولوا زحزحة العدو عن مراكزه.
وقد أسفر هذا العبور الأول عن تثبيت أقدام المرينيين في ثلاث قواعد رئيسية من قواعد بلاد الأندلس، وهي رندة، وطريف والجزيرة الخضراء، وتأسيس قاعدة أخرى جديدة وهي البنية. كما أطاح هذا العبور بأحلام النصارى في القضاء على ما تبقى للمسلمين من أراضي في بلاد الأندلس إذ رأوا قوة جديدة تقتحم عليهم ميادين للقتال، كانوا يظنون أنهم متفوقون فيها على المسلمين لا محالة.
وكان للسلطان يعقوب عبور ثاني للأندلس وأعانه بن شقيلولة وصاحب قمارش وانتصر فيها على الفرنجة.
أما العبور الثالث للسلطان يعقوب، فكان بسبب تحالف ابن الأحمر مع القشتاليين ضده، يقول ابن خلدون:» واتصلت يد ابن الأحمر بيد الطاغية على منع أمير المسلمين من الإجازة، وراسلوا يغمراسن بن زياد من وراء البحر وراسلهم في مشاقة السلطان وإفساد ثغوره وإنزال العوائق به المانعة من حركته، والأخذ بأذياله عن النهوض إلى الجهاد. وأسنوا فيما بينهما الاتحاد والمهادنات.»
وكان جوازه الرابع إلى الأندلس سنة 684ه/1285م حينما استفسر السلطان يعقوب سانشو ملك قشتالة الجديد عن سياسته تجاه المسلمين فرد عليه سانشو ردا قاسيا، وقام السلطان يعقوب يعبئ جيشا لمحاربته وشارك في هذا الجيش متطوعة ومرتزقة ثم عبر إلى طريق فالتحقت به امدادات من سبتة وغيرها، وقام بغارات على ناحية شريش وقرمونة ووزع الجيوش بين عدة مناطق لتشغل العدو في واجهات مختلفة.
وكان لهذه الانتصارات الجديدة للمرينيين في الأندلس صداها في بلاد المغرب، إذ اتجه السلطان يعقوب بعدها إلى يغمراسن بن زياد حليف بن الأحمر والقشتاليين فقاد السلطان حملة تأديبية ضده ومكنت هذه الحملة من هزيمة يغمراسن ولاحقته وقضت على مقاومته عند موضع يعرف بالملعب قرب تلمسان.
والواقع أن عهد السلطان أبي يوسف يمثل في آن واحد الدور الأخير من نشأة الدولة المرينية ثم بداية عهد الازدهار والعظمة في عهد هذه الدولة.

  • الفرع الثالث: مرحلة التوسع بعد يعقوب بن عبد الحق

بعد وفاة السلطان يعقوب بن عبد الحق بالجزيرة الخضراء سنة 685ه/1286م بويع لابنه يوسف، الذي بسط نفوذه على نواحي كثيرة من الجزائر، وفي بعض أيام أبي الحسن توحد المغرب العربي تحت قيادته من السوس الأقصى إلى مسراته قرب الحدود المصرية، وزيادة على انفساح هذه المملكة إلى رندة بالأندلس وفي أيام أبي عنان بن أبي الحسن برقت بارقة لاستعادة وحدة المغرب العربي ثم سرعان ما خبث. أما الفترة الواقعة بعد عهد أبي عنان إلى نهاية الدولة فلم يحدث فيها امتداد منظم نحو شرق المغرب، ولا يستثنى من هذا سوى غارات عابرة ارتجلها ملوك وحكام مرينيون.
وقد امتدت قوة الدولة المرينية حتى أيام أبي الحسن، ثم أخذت في التراجع تأثرا بعدة عوامل: فهناك الضعف الذي نزل بالجيش بعد موقعتي طريف والقيروان، حيث انقطع العبور المريني للأندلس، وفشلت محاولة استعادة الإمبراطورية الموحدية في شمال إفريقيا.
فمنذ تولي السلطان أبي الحسن المريني مقاليد الأمور في الدولة المرينية سنة 731ه/1331م عَمِل على التوسع في بلاد المغرب الأوسط، وإفريقية، وكان ذلك التوسع رغبة منه في تحقيق الوحدة المغربية التي كانت قائمة أيام المرابطين والموحدين، ويبدو أن أمر الوحدة كان حلما يراود القوى الثلاث التي كانت موجودة في بلاد المغرب في ذلك الوقت وهي قوة المرينيين، وبني عبد الواد، والحفصيين، ومن تم بدأت كل قوة تعمل لهذا الهدف بالتوسع عل حساب القوى الأخرى، ولكن المرينيين من ناحيتهم كانوا يشعرون بهذه الرغبة أكثر من غيرهم باعتبارهم ورثة الموحدين، ومن منطلق أنهم هم الوحيدون من بين سائر القوى في بلاد المغرب الذين حملوا العبء الأكبر في سبيل القضاء على دولة الموحدين.
وانتقل المرينيون إلى مرحلة التوسع هذه بفضل ما وصلت إليه دولتهم من القوة والاستقرار، وما حققته من ألوان الازدهار والعظمة في تلك الآونة حتى إن المؤرخ السلاوي يصف السلطان أبا الحسن الذي بدأ عهد التوسع.
قائلا: «هذا السلطان هو أفخم ملوك بني مرين دولة وأضخمهم ملكا وأبعدهم صيتا وأعظمهم أبهة وأكثرهم آثارا بالمغربين والأندلس.»
وقد أمضى المرينيون قرابة الثلاثين عاما في تنفيذ هذه السياسة التي استغرقت عهد اثنين من عظماء سلاطين بني مرين وهما السلطانين أبي الحسن، وأبي عنان.
أما جهود المرينيين التي شهدها مسرح السياسة العسكرية في المغرب الأوسط-قبل هذه الفترة- فلم تكن أكثر من عمليات تأديبية لبني عبد الواد، وكان أكثرها لتأمين الأراضي المرينية في أثناء العمليــــــات العسكرية التي قام بها المرينيون في الميدان الأندلسي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.