النظام الاقتصادي والاجتماعي والفكري في دولة بني مرين(3) المغرب الأقصى ودولة بني مرين
د. عبد اللطيف بن رحو
النظام الاقتصادي والاجتماعي والفكري في دولة بني مرين(3)
المغرب الأقصى ودولة بني مرين
بقلم: الدكتور عبد اللطيف بن رحو
يمكنكم تحميل كتاب العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م) من الرابط التالي
المبحث الأول: النظام الاقتصادي
المطلب الأول: النظام المالي
إن التنظيم الدقيق الذي سارت عليه الدولة المرينية في الجانب الاقتصادي، جعلتهم يعيشون فترات كبيرة في ظل الرخاء والازدهار، وذلك بفضل الموارد الاقتصادية الهائلة التي كانت تدعم الدولة والمتمثلة في الإنتاج الزراعي الواسع والمتنوع. وكذلك الأنشطة التجارية الحرة، والأنشطة الصناعية، فوضعت الدولة يدها على هذه الأنشطة وسيست ماليتها بتنظيم دقيق وممنهج.
فقد أقام المرينيون نظامهم المالي في الجباية والإنفاق على أساس كل إقليم من أقاليم الدولة مسؤول مسؤولية كاملة عن الجباية والإنفاق في ولايته أمام الوزير المختص بالإشراف على خطة الجباية أو المتولى لها. وفقا للتقسيم الإداري للدولة المرينية، كانت هناك تسع ولايات تخضع من ناحية الإشراف المالي لإشراف دقيق، وبعض الأحيان أسند الإشراف على ديوان الخراج إلى شخص دون الوزير، وفي أحيان أخرى أسندت إلى الوزير، وهذا الشخص هو الذي يتولى بنفسه التدقيق والتوقيع بصحة الحسابات سواء في الخراج او العطاء.
وقد تحدث ابن خلدون عما في قضية مداخيل الدولة فقال:» اعلم أن هذه الوظيفة من الوظائف الضرورية للملك وهي القيام على أعمال الجبايات وحفظ حقوق الدولة في الدخل والخرج وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إباناتها والرجوع في ذلك إلى القوانين التي يرتبها قومة تلك الأعمال وَقَهارِمَة الدولة وكلها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدخل والخرج مبني على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلا المهرة من أهل تلك الأعمال ويسمى ذلك الكتاب بالديوان.»
ويظهر من هذا النص أنه كانت هناك لائحة لديوان الخراج تتضمن القوانين المختلفة التي تضبط الدخل والمصرف من الخزانة المرينية.
وكانت الجبايات تدفع نقودا أو أسلحة وثيابا وغيرها. وكان العمال يضمنون مبالغ الجبايات مقدما ليستخلصوها لأنفسهم، وكان هذا النظام الجائر له سوابق كثيرة بالشرق، غير أن أبا الحسن ألغى هذا النظام وعين جباة خاصين كما منع أهل الذمة بأداء غير الجزية والأعشار المشروعة. وكان يعفى أحيانا من الضرائب بعض الأشخاص والهيئات، وتخصص بعض الموارد لنفقات معينة كالجزية التي كان يصرف منها في فاس على الطلبة والخطبة بجامع القرويين وحدها تغل أحيانا عشرة آلاف دينار فضية سنويا.
واشتمل ديوان الخراج في الدولة المرينية على عدد كبير من هؤلاء المهرة الذين تحدث عنهم ابن خلدون والذين كانوا يباشرون صرف العطاء وجمع الجبايات وكانوا يسمون بالكتاب. وفي بعض الأحيان كان السلطان المريني يسند إلى شخصية من الشخصيات الهامة في الدولة، مهنة توزيع العــطاء والمرتبات، في بعض الأماكن الحســـــاسة من الدولة، فأبو الحسن المريني وجــــه الخطــــيب ابن مـــــرزوق ليقوم بتــوزيـــع العطاء، والرواتب على أهل رندة وجبل الفتح وقام بهذه المهمة لمدة سنة كاملة.
ويبدو أن المرينيين استحدثوا وظيفة جديدة في ديوان الخراج لم يسبق أن كانت عند من سبقوهم في حكم المغرب كالمرابطين والموحدين، وهي وظيفة شهداء البيت كما يذكر ابن مرزوق في كتابه.
يقول ابن مرزوق: « شهداء البيت، وهي أشرف خطط العدالة، يشهدون على الحاصل في بيوت الأموال، الداخل والخارج ويرجع إليهم سائر الأعمال وترفع لهم الجرائد.»
وكان يختار له أقدر الكتاب، وأضبطهم لشؤون الحسابات وكان بعض ملوك بني مرين ينحون أهل الذمة عن هذا الديوان محافظة على أسرار الدولة المالية وصيانة لمواردها، وكان رئيس هذا الديوان يجمع إليه اختصاصات ديوان العطاء وله تفويض التوقيع باسم الوزير أو السلطان، ولكنه يرجع إلى قرارتهما.
وهذا ما يؤكده ابن مرزوق فيقول: «من فضائل مولانا رحمه الله، أنه لم يستعمل أحدا من أهل الذمة في هذه الخطة، كما استعمله غيره، وهذا معروف بالمشرق الآن، وقديما عهد بالمغرب والأندلس، ولم يتخذهم أطباء كما فعله غيرهم ولا خزنة أموال، كما تقدم لغيره.»
فمن خلال هذا النظام المالي المحكم والدقيق أمكن لبعض المؤرخين أن يحصلوا على بعض الإحصائيات الدقيقة عن الرواتب في بعض قطاعات العمل في الدولة المرينية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أنه خلال حصار الجزيرة الخضراء في عهد السلطان أبي الحسن ولمدة عامين بلغت رواتب الجند الأندلسي والمريني التي تتحملها الخزانة المرينية خمسين ألف دينار من الذهب في كل شهر.
وهذا ما يؤكده ابن مرزوق فيقول: « لما نزل سبتة لمواجهة العدو المحاصر للجزيرة، كان الخارج عنه بطول حولين كاملين لأهل المراتب خاصة من جيش الأندلس وجيش إمامنا المؤيد بجبل فتح، وداخل الجزيرة خمسين ألف دينار من الذهب في هلال كل شهر، لا يفتر عن ذلك عدا ما يمد به من في داخل الجزيرة.»
ويذكر القلقشندي معلومات مفصلة عن رواتب الأشياخ وقادة الجيش المريني وكذلك الجند حسب درجاتهم، فيقول: «للأشياخ الكبار الاقطاعات الجارية عليهم: لكل واحد منهم في كل سنة عشرون ألف مثقال من الذهب، يأخذها من قبائل وقرى، وضياع، وقلاع، ويتحصل له من القمح والشعير والحبوب من تلك البلاد نحو عشرين ألف وَسْق. ولكل واحد مع الاقطاع الإحسان في رأس كل سنة وهو حصان بسرجه ولجامه، وسيف ورمح، محليان، وسَبَنِيَّة… وللأشياخ الصغار من الاقطاع والإحسان نصف ما للأشياخ الكبار مع الحصان المسرج الملجم والسيف والرمح والكسوة، ومنهم من لا يلحق هذه الرتبة فيكون أنقص. ومن عدا الأشياخ من الجند على طبقات: فالمقربون إلى السلطان يكون لكل واحد منهم ستون مثقالا من الذهب في كل شهر، وقليل ما هم، ومن دون ذلك يكون له في الشهر ثلاثون مثقالا ثم ما دونها، إلى أن يتناهى إلى أقل الطبقات وهي ستة مثاقيل في كل شهر.»
وكانت الشخصية التي يوكل إليها رياسة ديوان الخراج تعطي حق مراقبة تصرفات العمال والولاة فيما يخص استخلاص وصرف أموال الجباية، كما يمكن أن تعطي حق معاقبتهم إذا اقتضى الحال، وممن استعمل على الجباية عبد الله بن أبي مدين وعبد السلام الأوربي وموسى بن علي الهنتاتي، وكان يجمع أحيانا بين ولاية الجباية والعمال بالرغم من عدم صلاحية هذا النظام، حيث يؤدي إلى استبداد العامل. وكان لجباية المصامدة أهمية كبيرة في موارد الدولة، إذ كانت مناطقهم من أخصب الأراضي كناحية مراكش وسوس لذلك كان لها وال خاص يولى في عين المكان.
ونظرا لعيوب هذا النظام المتجلية في ظلم الولاة للشعب وارغامهم دفع مبالغ كبيرة من المال، قرر السلطان أبو الحسن إلغاء هذا النظام الجائر، واتبع نظاما جديدا عرف بنظام الأمانة، حتى لا يتعسف الولاة بمطالبة الناس بدفع المال.
ويشير ابن مرزوق في كتابه المسند إلى هذا الأمر فيقول: «وكان سبب هذا تمالئهم على الخيانة في ولايتهم على سبيل الأمانة فإذا تولوها إلتزاما امتدت أيديهم وكثرت عاديتهم وظلمهم. فإذا زجروا، اعتدلوا بالالتزام. فأسقط رضي الله عنه هذا اللقب ولم يبق له أثر في المغرب. فصار يوليهم إياها أمانة وترك في ذلك أموالا طائلة ابتغاء وجه الله فرأى أثر ذلك دنيا وآخر.»
فنظام الجبايات تعرض لعدة تعديلات وإصلاحات من طرف عدد من السلاطين المرينيين، فإن يوسف بن يعقوب أسقط المكوس، وأزال أكثر الرتب «الألقاب» كانت تؤخذ من المسافرين في الطرقات. إلا ما كان فيها بالمفازات العافية، ورفع أيضا الإنزال عن ديار الرعية، كما أسقط عن الناس المطالبة بزكاة الفطر ووكلهم فيها إلى أمانتهم.
كما رفع أبو سعيد الأول عن أهل فاس مان يلزم رباعهم -كل سنة- من المغارم، ثم تتابع رفعها عن سائر بلاد المغرب.
كما امتاز عهد أبي الحسن بإصلاحات جبائية هامة، فإنه لم يدع إلا الخراج والزكاة والعشر وما يقرره التشريع الإسلامي، وعين لاستخلاص هذه الجبايات موظفين يعرف منهم أبو العباس أحمد بن الحسن بن سعيد المديوني التلمساني النشأة، الذي استعمله هذا السلطان في الزكوات وسماع الشكايات.
كما ألغى أبو عنان ضريبة الرتب، وأمر برفع التضييق الذي كان عمال الزكاة وولاة البلاد يأخذونه من الرعية.
والظاهر أن هذه الضرائب الملغاة كانت تعود للظهور كلا أو بعضا بعد فترة من إلغائها، ولا يفوتني أن أشير إلى أنه كانت تقع استثناءات جبائية لفائدة بعض المناطق أو الأفراد.
ويشير ابن الخطيب في حديثه عن الرباط وشالة، أن مغارمها كانت لاحترام الملوك لها.
المطلب الثاني: مداخيل الدولة المرينية
تعددت مصادر الدخل للخزانة المرينية، وتكاد هذه المصادر تنحصر في: الزكاة، الخراج، الجزية، الضرائب، الغنائم، المصادرات… ولم تكن هذه المصادر ثابتة، في كافة عهود سلاطين بني مرين، حيث مال بعض السلاطين المرينيين إلى قصر هذه المصادر على ما أمر به الشرع، والاستغناء عن المصادر الأخرى التي لم يقرها الشرع، ومال آخرون إلى التخفيف بإلغاء بعض الضرائب فقط، فالسلطان يوسف والسلطان أبو سعيد عثمان، وضعا في عهدهما نظاما جديدا للجباية اقتصرا فيه على الزكاة والأعشار الدينية فيما يخص رعايا الدولة من المسلمين، والجزية فيما يخص الذميين.
- الفرع الأول: الزكاة
اعتبرت الزكاة من أهم مداخيل الدولة المرينية، نظرا لخصوصيتها الشرعية، وكانت تخضع بكل أنواعها لسلطة الدولة، وفقا لمقادير الشرع.
غير أن عصر أبي الحسن عرف بعض التغييرات خوصا في زكاة الفطر، حيث ترك السلطان للناس حرية التصرف في زكاة الفطر فقط.
وهذا ما ذكره صاحب الأنيس المطرب فقال:» وتصدق بترك الفطرة على الناس، وقال من وجب عليه أداؤها يتصدق بها لنفسه حيث شاء.»
وحرص كثير من سلاطين بني مرين على استعمال الفقهاء في جمعها مراعاة للدقة والتزاما لجانب العدل في ذلك، إذ الفقهاء أقدر الناس على تقديرها وضبطها.
وقد استعمل أبو الحسن المريني الفقيه أبو عبد الله القشتالي وهو نخبة المغرب ونادرة فقهاء فاس علماً وأدباً وسراوة وحسن مشاركة، استعمله في سماع الشكايات وفي الزكوات.
- الفرع الثاني: الجزية
كانت ضريبة الجزية تؤخذ من أهل الذمة، وكانوا يدفعونها في مقابل ما يتمتعون به من الحماية والأمن والسلام تحت راية الإسلام.
وكانت تؤخذ من الرجال الأحرار العقلاء ولا تجب على المرأة ولا صبي ولا مجنون ولا عبد لأنهم أتباع وزرارى. ولا تؤخذ الجزية أيضا من المسكين الذي يتصدق عليه، ولا من مقعد، ولا من أعمى لا حرفة له ولا عمل، ولا من المرتهبين ولا أهل الصوامع عن لم يكونوا ذوي يسار، ولا تأخذ من الشيخ الكبير الذي لا يستطيع العمل ولا شيء له. وفي بعض الأحيان استخدم المرينيون حصيلة أموال الجزية في إصلاح المساجد وترميمها. أو أنفق منها على المارستانات وعلاج المرضى ومساعدة الفقراء بمرتبات شهرية تعطيها لهم الدولة.
ويتحدث صاحب الذخيرة إلى جزية اليهود التي تؤخذ منهم وتعطى للخدام والفقراء وغير ذلك فيقول:» وأجرى على الكل كالإنفاق من جزية اليهود لعنهم الله وأجرى للخدماء والفقراء مالا معلوما يأخذونه في كل شهر من جزية اليهود وبنى المدارس بفاس ومراكش ورتب فيها الطلبة لقراءة القرآن والعلم وأجرى لهم المرتبات في كل شهر وأقام الدين وأمر بتطهير الأيتام وكسوتهم والإحسان إليهم بالدراهم والطعام في كل عاشوراء.»
- الفرع الثالث: الخراج
لم ينظر المرينيون إلى أرض المغرب نظرة الموحدين باعتبارها أرض خراج، وإنما اعتبروا أرض المغرب أرض عشر لأنها أرض أسلم أهلها عليها. لذلك لم أجد في المصادر التي تعرضت للعصر المريني ذكر لكلمة خراج، ولكن ذكرت كلمة عشر، وذكرت كلمة أعشار الروم.
ويرجع نظام العشر إلى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان تجار المسلمين الذين يَغْدون إلى دار الحرب (أي بلاد الكفر الذين ليس بينهم وبين المسلمين عهد) يدفعون العشر عن سلعهم، فأمر عمر بن الخطاب بأن يأخذ المسلمون العشر من تجار غير المسلمين الذين يغدون ببضائعهم إلى دار الإسلام، فأمر بأن يأخذ من أهل الذمة نصف العشر ومن المسلمين ربع العشر إذا بلغ ثمن السلعة مائتي درهم فأكثر.
كذلك الخراج الذي وظفه عمر رضي الله عنه على السواد وأرض الفيء، فإن معناه الغلة أيضا: لأنه أمر بمساحة السواد، ودفعها إلى الفلاحين الذين كانوا فيه، على غلة يؤدونها كل سنة، ولذلك سمي خراجا. ثم قيل للبلاد التي افتتحت صلحا، ووظف ما صولحوا عليه على أراضيهم، خراجية، لأن تلك الوظيفية أشبهت الخراج الذي ألزم الفلاحون وهو الغلة، لأن جملة معنى الخراج غلة.
وكان السلطان أبو الحسن المريني قد رفع عن رعيته المال الجسيم واقتصر على الزكاة، والعشر هنا هو الخراج.
وتحدث ابن مرزوق في مسنده عن رفع الخراج فقال: «فحييت بذلك نفوسهم وذهبت بذهاب هذا اللقب قلوبهم واقتصروا بعد هذا الأمر النكر على الزكاة والعشر، وفاز في ذلك بعظيم الأجر وجزيل الذخر وجميل الشكر. وقلد هذه الأعمال للعدول والقضاة والأمناء الثقات.»
وكان بعض سلاطين بني مرين يأمرون أحيانا باستخدام أموال هذه الأعشار في إجراء بعض الإصلاحات في المساجد، وهذا يعني أن المرينيين كانوا ينظرون إلى هذه الأعشار على أنها ضمن خراج الدولة.
وجاء في كتاب الخراج لأبي يوسف قوله: «فما يؤخذ من المسلمين من العشور فسبيله سبيل الصدقة، وما يؤخذ من أهل الذمة جميعا وأهل الحرب فسبيله سبيل الخراج.»
- الفرع الرابع: الأوقـاف
وهي تكون بابا خاصا في الميزانية دخلا وخرجا، ويعني بها الموقوفات على المصالح العامة من طرف الأفراد والملوك. ومن المؤكد أن نتذكر أن أوقاف الأفراد قديمة بالمغرب، والجديد في هذا العصر هو أوقاف السلاطين الكثيرة، مع اتجاه هذا المشروع وجهة اجتماعية إلى جانب الاتجاه الديني.
ويذكر ابن الخطيب أن مدينة فاس كانت أكثر المدن أحباسا وأوقافا، فقال:» إن أوقافها جارية.»
وقد تنوعت الأوقاف في العصر المريني، وتفرعت إلى عدة شعب في كثير من جهات المغرب، وأبرز هذه الشعب في فاس -مثلا- تسعة فروع:
1 -أوقاف جامع القرويين الذي يسجل عنه أبو القاسم محمد التازغدري أن غلة أحباسه متسعة، وقد كان مبلغها في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري عشرة آلاف دينار فضية في بعض الأعوام.
2و3 -أوقاف المدارس والمستشفيات، وكانت لها مداخيل وافرة، إلى أن فوت أكثر أملاكها أبو سعيد الثاني ليسدد بها نفقات حروبه فقلت مداخيل هذه المؤسسات.
4 -أوقاف جامع الأندلس.
5 -أوقاف مكة المكرمة.
6 -أوقاف الزوايا المرينية.
7 -أوقاف تازة ونواحي مدينة فاس.
8 -أوقاف بقية مساجد فاس.
9 -أوقاف الوصايا.
وقد كانت الأوقاف تحتفظ بإدارتها الخاصة تحت رقابة القاضي، مع الخطيب في بعض الأحيان، وبين الفترة والفترة كان القاضي يعقد مع النظار محاسبات حدد شكلها المفتي عبد الله العبدوسي في جواب له.
ويذكر الوزان الفاسي مداخيل الجوامع بمدينة فاس فيقول:» أما قابض مداخيل الجامع فله إدارة خاصة وأجرته دكة في اليوم ومعه ثمانية عدول، وأجرة كل واحد منهم ست دكات شهرية، ولهم خمسة بالمائة أجرة على ما يقبضون ومعهم عشرون ليس لهم شغل سوى تفقد الحراثين وخدمة العنب والبساتين والنظر في لوازمهم ولهم على ذلك ثلاث دكات شهرية لكل واحد.»
وكان من المؤكد على المسؤولين عن الأحباس أن يتفقدوها، وهو أمر ضروري لابد منه وهو واجب على الناظر فيها، لا يحل له تركه إذ لا يتبين مقدار غلاتها ولا عامرها ولا غامرها إلا بذلك، وما ضاع كثير من الأحباس إلا بإهمال ذلك.
هذا ومن التشريعات التي وضعت للأحباس في هذا العصر، ما أفتى به أبو محمد عبد الله العبدوسي في مسألة جمع أحباس فاس في نقطة موحدة، فقد قرر إباحة جمعها كلها في نقطة واحدة وباب واحد لا تعدد فيه، بأن تجمع مستفادات مختلف المساجد كلها، ويقام منها ضروري كل مسجد، ولو كانت أوقاف بعض المساجد قليلة فيوسع عليها من غنيها، ويقدم الجامع الأعظم قبل جميعها، ثم الأعمر فالأعمر. أما الجهات التي تتفق فيها مداخيل الأحباس فقد كانت كثيرة، فإلى جانب لوازم المساجد صارت الأحباس -في هذا العصر- تنفق على المدارس والمستشفيات والملاجئ، وعلى كثير من أبواب البر والإحسان.
- الفرع الخامس: الضرائب
فرض عدد من سلاطين بني مرين ألوانا مختلفة من الضرائب، غير تلك التي أقرها الشرع، وقد زادت هذه الضرائب في بعض الأحيان عن الحد، الأمر الذي دعا بعض سلاطين بني مرين إلى تخفيفها أو إلغائها، وجاءت أول إشارة إلى وجود ضرائب زائدة على ما أمر به الشرع في الدولة المرينية، في مطلع عهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق، إذ رفع هذا السلطان ما كان مفروضا على الديار من ضرائب تعرف باسم الإنزال ونوع آخر من المكوس.
وتوالت بعد ذلك إشارات بعض المؤرخين إلى رفع أنواع أخرى من الضرائب عن كاهن الشعب المريني، كما حدث في عهد السلطان أبي سعيد المريني، والسلطان أبي الحسن المريني.
وقد تحدث ابن مرزوق في مسنده عن الضرائب التي رفعها السلطان أبو الحسن عن رعيته وهي:
1 -الخرص وهي ضريبة تفرض على الحدائق، وفي كثير من الأحيان كان أصحابها يسقطونها هروبا من تلك الضرائب التي أثقلت كاهلهم.
يقول ابن مرزوق: « ومما رفع عنهم الخرص في الجنات، وكان عظيم المضرة، يوظف على الناس وظائف في جناتهم ربما تعجز الجنــــات عن التوفيــــة فأدى ذلك إلى أن قطـــع كثـــــير من الناس جنته ليسقط عنـــــهوظيفة الخرص.»
2 -النزول وهي ضريبة كانت مفروضة على بلاد الأندلس وغيرها من العدوتين.
يقول ابن مرزوق: « ومما رفعه رضي الله عنه مما عظم به المصاب النزول المعهود في بلاد الأندلس وغيرها من العدوتين.»
3 -الجمون وهي ضريبة فرضت على أهل سجلماسة وسائر بلاد القبلة، على النخل والزرع، وكان المتحصل من هذه الضريبة الكثير من الذهب.
يقول ابن مرزوق:» ومما رفعه رضي الله عنه، وهو مال جسيم، له قدر عظيم، المغرم الذي تعوده أهل سجلماسة وسائر بلاد القبلة، فإنهم كانوا يغرمون مغرما يسمونه الجمون في النخل والزرع، يجتمع فيه كل سنة أحمال من الذهب مغرما ألفوه، وفي بلاد النخل والزرع عرفوه، فرفعه بجملته ورده إلى الخرص الشرعي وسبيله السري.»
4 -ضريبة المغارم وهي ضريبة كانت مفروضة على كل شخص وكانت شبيهة الجزيات المضروبة على أهل الذمة بل أشد، وكان يجمع فيها من المال ما لا يحصى قدره.
يقول ابن مرزوق: « كانوا يوظفون فيها المغارم على الرؤوس فيجعلون على كل شخص، صغيرا أو كبيرا قويا أو ضعيفا حتى الرضيع، مغرما يخصه، وكانت مظلمة لا نظير لها في المظالم المحدثات، وصارت أخت الجزيات المضروبة على أهل الذمة، بل أشد، فأسقط ذلك.»
وكانت المدن تؤدي ضرائب غير مباشرة تعرف بالمستفاد كما نص على ذلك الحسن بن محمد الوزان ولكن أبا سعيد المريني استعاض عن جميعها بالمكس والقبالة، ففيما يخص الأولى كانت تبلغ بفاس مثلا اثنين في المائة وتؤخذ عن كل شيء عدا الأبقار والدجاج والخشب (الجمال والغنم تعفی كذلك في بعض الأحيان) وكانت النسبة تصل أحيانا خمسة وعشرون في المائة وكان المخزن يتقاضى عن كل مقطوعة من الثوب المستورد من أوروبا والمبيع في القيسارية قدراً معلوماً من المال.
وكانت هناك ضرائب أخرى كالضريبة المفروضة على بائع اللحوم المشوية في الشارع أو على الخضر وكالتي كانت تؤدي عن المكاييل في أسواق الحبوب وهي أشبه بالضريبة التي تؤدي اليوم في رحبة الزرع.
كما كانت الموانئ مصدرا هاما من مصادر الجباية، أمدت المرينيين بكثير من الأموال فكان إيراد ميناء سبتة من الضرائب في اليوم يتراوح بين خمسمائة دينار إلى سبعمائة وفي بعض الأحيان كان يصل إلى ألفي دينار في اليوم.
- الفرع السادس: المصادرات
كانت المصادرات من المصادر التي أمدت الخزينة المرينية بمبالغ كثيرة من الأموال، فكان الولاة يوقعون على التجار عقوبة المصادرة، فيصادرون السلع التي يحاول التجار إخفاءها لترفع أسعارها وقد لا يكتفي الولاة بمصادرة السلعة، فيوقعون غرامة تصل إلى خمسة أضعاف سعر السلعة المصادرة. وقد ألغي هذا النوع من المصادرات في عهد السلطان أبي الحسن المريني الذي رآه عبئا ثقيلا على كاهل التجار الذين تعرضوا لكثير من أذى الولاة.
يقول ابن مرزوق في هذا الأمر: « ومن جملة ما رفع عنهم وظائف استغراق السلع إذا ظهر الولاة على أن التجار تحملوا في سرقتها المخزن فكانوا يجعلون عقوبة ذلك أخذ السلعة كلها أو تغريم خمسة مخازن، وهو تضعيف المغرم المعهود خمس مرات فكان الولاة يجمعون في ذلك أموالا جمة، يلتزمون بسببها ما يلتزمونه، فأسقط ذلك رضي الله عنه.»
فالمصادرات كانت تعد أيضا عقوبات لوقف انحرافات المسؤولين وموظفي الدولة، فنجد في المصادر التاريخية أن السلطان أبا سعيد عثمان المريني أمر بمصادرة أموال منديل بن محمد الكناني نتيجة بعض الأخطاء الجسيمة التي أخذت عليه.
وأبو الحسن المريني أمر بمصادرة الأملاك التي اشتراها الخطيب أبو الفضل محمد بن المزوغني من أموال الأحباس والأوقاف، التي كان يشرف عليها، بعد أن ثبت تورطه في إنفاق هذه الأموال بطريق غير سليم.
- الفرع السابع: الغنيمة
الغنيمة في اللغة هي الفوز بالشيء بلا مشقة، أو هذا الغنم والفيء: الغنيمة. ونقول غنم تغنيما أي نفله إياه. واغتنمه وتغنمه: عده غنيمة.
وفي الاصطلاح: ما وصلت من المشروعية أو كانوا سبب وصولها.
والغنيمة بهذا المعنى كانت مصدرا هاما من مصادر الدخل في الدولة المرينية، لأن المرينيين اضطلعوا بأعباء الجهاد في الميدان الأندلسي -بعد سقوط الدولة الموحدية- ضد نصارى إسبانيا، الذين كانوا يلحون لالتهام ما تبقى للمسلمين من ممتلكات في بلاد الأندلس، وحصل المرينيين نتيجة للمعارك التي خاضوها في هذا الميدان على كثير من الغنائم، التي دعمت دخل الدولة المرينية، وعززت موقفها المالي.
ويذكر المؤرخ ابن أبي زرع صاحب الذخيرة أن الأمير أبا يوسف قسم بالجزيرة ما أفاء الله عليه من الغنائم على المجاهدين بالسوية والاعتدال للفارس سهمان والراجل سهم واحد بعد أن نزع الخمس لبيت المال، وكان ما غنم المسلمون في هذه الغزاة مائة ألف رأس من البقر وسبعة وعشرين ألفا، وأما الغنم فلا تحصی حتی بِیعَت الشاة منها بالجزيرة بدرهم.
والظاهر من النص التاريخي الأثر الاقتصادي الذي أحدثته تلك الغنائم والرخاء الذي عم على المواطنين في عهد الدولة المرينية. ولا يفوتنا أن نذكر في هذا المقام أن سبب الرخاء هو العدل الذي ساد بين السلطان والرعية، وكذا تطبيق القواعد الشرعية المرعية في توزيع الغنائم.
- الفرع الثامن: المكـس
المكس في اللغة كلمة تدل على جبي مال وانتقاص من الشيء. ومكس إذا جبي. والمكس الجباية.
والمكس في البيع يمکس: إذا جبی مالا. والمكس: النقص والظلم، ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق الجاهلية، أو درهم كان يأخذه المصدق بعد فراغه من الصدقة.
أما المكس في الاصطلاح وحسب ما اطلعت عليه فلا يختلف معناه اللغوي عن المعنى الاصطلاحي فالمكس يطلق على الضريبة والجباية والعشور والمغارم والخراج ونحو ذلك.
عرفه الدكتور عبد الله العروي فقال: «المكوس وهي الرسوم على المعاملات التجارية، وكانت تحمل أسماء أخرى كالقبالات، اتقاء معارضة الفقهاء لما جاء في الحديث من تحريمها.»
والمكوس إذن هي رسوم مفروضة على أهل البوادي والحواضر التي تدخل ضمن المعاملات التجارية، وكان يجمع منها مال كثير ينفق به على الجيش المريني. وهذا الأمر يؤكده لنا الدكتور المنوني فيقول: «الأمكاس التي رصدت لبعض النفقات، فقد كانت أمكاس مدينة فاس – قبل عهد أبي الحسن – تصرف في مرتبات إحدى فرق الجيش المريني، وهي فرقة الروم القشتاليين، ثم صار أبو عنان يتصدق بمجابي أبواب المملكة يوم سبعة وعشرين من رمضان، وكان ابن الخطيب يتقاضى مرتبا شهريا بمبلغ 500 دينار فضية عشرية من مجبي مدينة سلا.»
ويشير ابن مرزوق أن المكس كان جباية ثقيلة على الرعية من جهة ومن جهة أخرى هو من البدع الذي عارضه الفقهاء ونادوا بإزالته ومحوه عن الرعية، حتى جاءت فترة حكم السلطان الورع أبي الحسن المريني، فأزال أثره عن الشعب.
يقول ابن مرزوق في مسنده متحدثا عن المكس: «فقامت السنن في مدته على ساق، وذهبت آثار البدع ولم يبق لها انتظام ولا اتساق، فلنذكر في هذا الفصل ما محاه من المناكر ورفعه من المكوس من البوادي والحواضر، أما ما أحفظ له مما رفعه بمدينة فاس المحروسة فأولها ما كان يرفع من فوائد المروس، كان يؤخذ عن ذلك مال جسيم يصرف في مرتبات النصارى الملازمین للخدمة، وهو مال طائل ينتهي عدد النصارى إلى ثلاثة ألاف فارس وإن قلوا فإلى ألفين، ورواتبهم كبيرة من الخمسين دينارا من الذهب إلى خمسة دنانير ذهبا في كل شهر غالبا، فينفذ ذلك كله مما ذكرناه، فرفعه رضي الله عنه ومحا أثره.»
فمن خلال هذه النصوص التاريخية يتبين أن ضريبة المكس كانت جد ثقيلة على أهل المغرب زمن الدولة المرينية، فعمال السلاطين كانوا يفرضونها على التجار والحرفيين والضياع وأصحاب المواشي والفلاحون، وحتى أصحاب الشواء كما تذكر المصادر التاريخية، مما أثقل كاهل أصحاب هذه الفئة وربما هذا أمر طبيعي لملأ خزانة الدولة.
غير أن هذه الضرائب تفاوتت حسب زمن كل سلطان فهمنهم من كان حريصا على فرض الجبايات والضرائب لأنه كان قويا مهابا، ومن السلاطين من كان رحيما برعيته فأزال ومحا عنهم بعض الضرائب التي تشوبها بدعة أو منكرا أو دعا العلماء إلى إزالتها ومحوها عن الشعب.
ويمكن القول جملة وتفصيلا أن مداخيل الدولة المرينية كانت متعددة ومتنوعة، غير أن نسبها كانت متفاوتة حسب فترة حكم كل سلطان.
المبحث الثاني: النظام الاجتماعي
المطلب الأول: شاكلة السكان في عهد بني مرين
استقرت عناصر سكان المغرب على ما كانت عليه من الأصول في عهد الموحدين.
وشكل البربر السواد الأعظم في البناء الاجتماعي للمجتمع المريني، فمن هؤلاء البربر كانت الطبقة الحاكمة التي انتمت إلى إحدى هذه القبائل البربرية، وهي قبيلة بني مرين، وبطبيعة الحال كان انتماء بني مرين إلى زناتة سبيلا إلى علو كعب القبائل الزناتية في الدولة المرينية، حيث كانت قبائل زناتة دوما أكبر عون للمرينيين سواء في مراحل تأسيس الدولة، أم في المراحل الأخرى إذ كانت قبائل زناتة تشكل عنصرا كبيرا من عناصر الجيش المريني.
كما ضم المجتمع المريني عددا من الأندلسيين الوافدين من الأندلس، وتميزت من هؤلاء الأندلسيين مجموعتان: الأولى مجموعة الأندلسيين المشتركين في الجيش المريني، وكانوا من الجند النشابة حملت الأقواس بصفة خاصة. ولمهارتهم في الرماية تولوا قيادة المركب السلطاني. أما المجموعة الثانية فهي طبقة العلماء الذين انتقلوا من الأندلس إلى المغرب الأقصى بعد ضياع بلادهم باحتلال النصارى الإسبان لها، وهؤلاء كان لهم دور في الحياة الدينية والثقافية في الدولة المرينية.
أما العرب فقد انضمت معظم قبائلهم إلى السلطان يعقوب بن عبد الحق، فأصبح العرب ضلع في أضلاع كتلة الدولة المرينية وانصهروا في مجتمعهم، كما أصبحوا عماد جهاز المخزن.
فالعنصر العربي بالمغرب الأقصى في عهد المرينيين، من بقايا العرب الفاتحين، يضاف إليهم القبائل العربية التي جاءت إلى المغرب في منتصف القرن الخامس الهجري على شكل الموجبات التي عرفت في التاريخ المغربي باسم الغزوة الهلالية.
لكن المرينيين لم يعتمدوا كثيرا على القبائل العربية، خاصة في مرحلة تأسيس دولتهم، إذ كانت القبائل العربية مدبدبة بين ولائها للموحدين وطاعتها لبني مرين. وهذا ما دعا السلطان يعقوب بن عبد الحق إلى نقل بعضهم من درعة إلى مراكش ليكونوا هناك تحت رقابة عماله.
ويؤكد وجهة النظر هذه أن القبائل العربية في إفريقية هي التي حملت لواء المعارضة ضد الوجود المريني هناك، وساهمت في إعادة إفريقية للحفصيين ثانية.
وقد تمركزت معظم هذه القبائل العربية في عدة مواضع من ناحية المغرب الأقصى، فأقامت قبائل جشم وهي: قبائل خلط والعاصم وبنو جابر في تامسنا، وأقامت قبائل معقل في السوس الأقصى وتشتمل هذه القبائل: الأثبج، وذوي حسان والشبانات. أما قبائل رياح فقد أقامت في أزغار وبلاد الهبط.
ولم تشر لنا الأحداث والوقائع التاريخية أن حربا قامت بين العرب والبربر من أجل هذا الاستقرار الذي لم يشجعه ويركب به مقدما سوى ملوك البربر أنفسهم.
ونجد إلى جانب هذا النمط السكاني من البربر والعرب في المجتمع المريني، كانت هناك عناصر سكانية أخرى غير أنها مثلت فئة قليلة داخل هذا المجتمع وهي: الأتراك الغز والروم واليهود والنصارى.
1 -الغز: هم جنس من الترك تعود أصولهم إلى أقصى بلاد الشرق، على تخوم الصين، دخلوا بلاد المسلمين أسارى أو ممالك، ثم علا شأنهم في الحياة المدنية والعسكرية، فكان منهم القواد والوزراء والولاة. ومن هؤلاء الغز كان أحمد بن طولون سلطان مصر في القرن الثالث.
وقيل عنهم أنهم من القبائل التركية المسلمة التي تسكن في إقليم ما وراء النهر.
وهؤلاء الغز ظهروا في المجتمع المغربي منذ عهد المرابطين الذين استعانوا بهم في جيوشهم.
وفي العهد الموحدي، فقد أحسن الموحدون نزلهم، وبالغوا في تكريمهم، وجعل لهم مزية ظاهرة على الموحدين، وذلك أن الموحدين يأخذون الجامكية ثلاث مرات في كل سنة، في كل أربعة أشهر مرة، وجامكية الغز مستمرة في كل شهر لا تختل، والفرق بين هؤلاء وبين الموحدين أن هؤلاء غرباء لا شيء لهم في البلاد يرجعون إليه سوى هذه الجامكية، والموحدون لهم الأقطاع والأموال المتأصلة.
ولكن الغز في ظل الدولة المرينية، لم تكن لهم تلك المكانة التي كانت لهم في الدولة الموحدية، وكانت هيئتهم تميزهم عن غيرهم من سكان البلاد إذ كانوا يضفرون شعورهم كالنساء.
2 – الروم: ويطلق عليهم الفرنج وكان معظمهم يمثلون فرقة ضمن الجيش المريني وقد أشار صاحب كتاب صبح الأعشى لذلك فقال:» ثم بعد الأشياخ عامة الجند من الأندلسيين وغيرهم، والعلوج من الفرنج.»
وكان عددهم أيام أبي الحسن مقدار أربعة ألاف فارس أو يزيد، وقد كانت طائفة منهم تقوم بالحراسة الليلية في ظاهر القصر المريني بفاس الجديد، كما كانوا يركبون خاصة خلف ظهر الملك في الحروب.
وحرص سلاطين بني مرين على جمعهم في مكان واحد عرف بحي الملاح بالقرب من البلد الجديد. وكان لهم دورهم في الحياة السياسية وخاصة خلال عصر نفوذ الوزراء.
3 – النصارى: عاش النصارى في كنف الدولة المرينية وكان عددهم في عهد المنصور المريني يبلغ بمراكش حوالي خمسمائة، وقد ظلوا يؤدون طقوسهم إلى جاب أولادهم ونسائهم حتى استقدمهم جان الأول ملك قشتالة. وقد استفاد المرينيون من خبرتهم الحربية رغم تدخلهم المتوالي في شؤون الدولة، فقد سمح لهم الموحدون من قبل ببناء كنيسة بمراكش، وكانت الكنيسة تحمل اسم نوتردام، ولما كان عهد أنوصان الرابع أرسل إلى ملك المغرب سنتي 1246م و1251م، رسالتين يطلب منه فيهما أن يمنح المسيحيين أماكن يحتمون بها عند الخطر الذي يتهددهم من الأهالي، إذا أساؤوا استعمال الحقوق المخولة لهم، ومن الملاحظ أن الملوك الموحدين بعد المأمون قد تركوا المسيحيين في خدمتهم حتى أن البابا جرجير التاسع شكر الرشيد سنة 1233م على العناية التي يبديها نحو النصاری.
وفي مطلع سنة 1308م علم أبو ثابت المريني قائد حامية مراكش أن يوسف بن محمد بن أبي عباد قد أتى قتلا على النصارى بمراكش واستولى على أموالهم وفر إلى أغمات، وقد تمكن أبو ثابت من قتله ومئات من أتباعه الذين علقت رؤوسهم على أبواب مراكش، انتقاما من قتلهم النصاری.
وكلما تفاقم خطر النصارى على المسلمين بسبب تدخلهم السافر في شؤون السياسة عمد هؤلاء إلى الانتقام منهم فيضطر القادة الملوك المرينيون إلى حمايتهم. وإذا كان المرينيون قد صحبوا معهم معظم القوة النصرانية من مراكش الموحدية إلى فاس، فقد تركوا عددا منها بمراكش حتى إذا كانت سنة 1390م طلبت الحامية النصرانية المؤلفة من 50 فارسا الدخول إلى إسبانيا. وكانت الكنيسة المسيحية بمراكش توجد جنوب مسجد المنصور بالقصبة والتي كان بها أيضا السجن المخصص للمسيحيين.
وكان النصارى يسكنون الربض الذي كان يسمى ربض النصارى بالمدينة الجديدة.
4 -اليهود: سكن اليهود بالملاح حول مدينة فاس الجديدة، وكان عددهم كبير عند دخولهم المغرب الأقصى.
وكان لليهود دور كبير في الحياة السياسة في الدولة المرينية، حيث وصل بعضهم إلى أرفع المناصب داخل الدولة، فكان خليفة بن حیون بن زمامة حاجبا للسلطان يعقوب بن عبد الحق.
وتولت أسرة بني وقاصة اليهودية قهرمة القصر السلطاني في عهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق، وفي عهد آخر سلاطين بني مرين السلطان عبد الحق بن أبي سعيد المريني، تولى منصب الوزارة اثنان من اليهود هما هارون وشاويل، وقد أدى تحكم اليهود في الدولة عن طريق هذين الوزيرين إلى مقتل السلطان عبد الحق المريني وسقوط الدولة المرينية.
كما أن السلطان أبا سعيد المريني الأول جعل من مدينة حمص التي أسسها إزاء البلد الجديد مسكنا لليهود وقد كان موضعها يعرف بالملاح. وعلى هذا فلا يبعد أن يكون بناء هذه المدينة وقع مكان الحي اليهودي الأول، وبهذا يكون موقع مدينة حمص هو نفس موقع الملاح القديم، وحسب مصدر يهودي فإن الملاح القديم كان موضعه في الجهة التي تسمى اليوم ساحة التجارة، بينما كان الملاح الحالي مقبرة يهودية قبل أن يصير حيا يهوديا بعد عام1724م.
ويذكر أن اليهود انتقلوا للملاح القديم عام 5198 بالتاريخ العبري، وهذا يوافق من الميلادي سنة 1438م ومن الهجري عام 808ه، وهو في هذا يخالف ما أثبته ابن أبي زرع، الذي كان قريبا من عصر الحادثة، حيث وصل في تأليف روض القرطاس إلى عام 726ه، أي بعد 49 عاما فقط من تاريخ عام 677ه، حيث وقع نقل اليهود إلى السكنى حول فاس الجديد.
ويبدو أن تقربهم من ملوك بني مرين، جعل بعض السلاطين تلغي الجزية عن اليهود لحسن سلوكهم، كما تمتع اليهود بحماية الدولة لهم، فصدرت الكثير من الظهائر تأمن حقهم بين المسلمين، وكانت تصدر أوامر لكف الأذى عن اليهود. كما انفرد اليهود بصناعة الصياغة واختلفوا فيها، وأقاموا لها سوقا لأنفسهم بعد أن كانوا في الحرف الممتهنة كالصباغة والدباغة والصّيارة والميارة، وأكثرهم حمالين وخياطين وكيالين. ولما استولوا على الصياغة احتاجوا لشراء الذهب والفضة، فأدخلوا أنفسهم في الصرف والتردد لدار الضرب، وقدمهم مع ذلك الولاة والعمال لقبض المجابي والأموال في سائر الأشغال، فعظم بلاؤهم في الدين وضررهم بالمسلمين، حتى أن أحبارهم يبيحون لهم الغش، ويكذبون لهم على أنبيائهم في وجوه إباحته.
ولما كان سنة 736ه تشكى الناس بضررهم في ذلك لمولانا أمير المسلمين، كرم الله وجهه وبرد ضريحه، وثبت عنده غشهم أمر بضرب أبشارهم والشدة في نكالهم، ونفذ أمره الكريم بأن يعتمد من يقف عليه من المشتغلين والخدام وولاة القصبة وسائر الحكام بكل بلد تحت إيالته على أن يرفعوا أيدي اليهود عن الاشتغال بالصياغة والصرف والقبض وكل ما فيه غش للمسلمين رفعا كليا.
المطلب الثاني: مظاهر الحياة الاجتماعية في عهد الدولة المرينية
حين تتبع مظاهر الحياة الاجتماعية من خلال المصادر والمراجع فإنها متعلقة بالحياة الخاصة لسلاطين الدولة المرينية، كما أنها تتعلق أيضا بمواطني الدولة على اختلاف طبقاتهم ونمط عيشهم.
- الفرع الأول: الحياة المعتادة للسلاطين
كان من عادة معظم سلاطين بني مرين أن يجلس الواحد منهم في بكرة كل يوم، ويدخل عليه الأشياخ الكبار فيسلموا عليه، فيمد لهم السماط ثرائد في جفان ولها طوافير: وهي المخاني، فيها أطعمة ملونة منوعة، ومع ذلك الحلوى: بعضها مصنوع بالسكر ومعظمها مصنوع بالعسل والزيت، فيأكلون ثم يتفرقون إلى أماكنهم. وربما ركب السلطان بعد ذلك والعسكر معه وقد لا يركب.
ثم يخرج إما إلى ركوب وذلك يوم الإثنين والخميس غالبا، ويوم الأربعاء لزيارة مقام الصلحاء في الغالب، وفي يوم الاثنين والخميس للمواضع المعدة للجلوس خارج البلد كبرج الذهب بفاس أو الميدان بتلمسان، فيعرض أمامه الجيش وينظر فيه ويلعب بين يديه الفرسان ليميز الفارس من غيره، ويتعرض له المشتكون، وتعرض عليه هناك الهدايا وما يحمل من الأموال، وهناك يجلس لكبراء إرسال الملوك وأبناء الملوك إذا وفدوا عليه، ثم يعود إلى منزله، فيجلس ليقضي ما عرض له في أثناء ركوبه، ثم يدخل.
وفي غير يوم الركوب يخرج للجلوس، فيحضر كاتبه وصاحب سره ووزراءه، فتعرض عليه القضايا ومهمات الشكايات، ثم يؤذن للناس في الدخول، فيدخل أشياخ القبائل من بني مرين والعرب الواردين والكبراء من القبائل، فيأخذون مجالسهم بين يديه، ثم يأمر بالطعام فيؤتى بما يكفي جميع الحاضرين، وكان يعجبه الأكل بين يديه، ويأمر بإسقاط الحشمة في الأكل، ويأمر بالمجالس وترتيب الناس، ويحرضهم على الأكل. ثم إذا قضى ذلك أذن لهم في رفع مسائلهم يوما بعد يوم مناوبة على ترتيب ونظام معروف.
ثم يحضر العلماء وفضلاء الناس وأعيانهم إلى محاضرته حينئذ، فيمد لهم سماط بين يديه فيأكلون ويؤاكلهم. ثم يأخذ كاتب السر في قراءة القصص والرقاع والكلام في المهمات، ويبيت عنده من يسامره من الفضلاء في بعض الليالي، وربما اقتضت الحال مبیت كاتب السر فيبيت عنده.
وكان السلطان أبو الحسن غالبا ما يجلس للقراءة فيما بين صلاة الظهر وصلاة العصر، فكان يقرأ الأخبار والسير، كالسير لأبي ربيع، وسراج الملوك، وفتوح الشام، وغيرها من كتب الحديث، كصحيح البخاري ومسلم، وكان الخطيب ابن مرزوق أحد الذين تولوا القراءة بين يدي أبي الحسن. وغالبا ما كان السلطان يواصل ذلك المجلس العلمي بعد صلاة المغرب، ومما كان يحرص على قراءته في ذلك الوقت الموطأ، ومن العلماء الذين كانوا يحضرون ذلك المجلس أبو عبد الله الرندي، وأبو زيد بن الإمام وشقيقه أبو موسى، وأبو عبد الله السطي، وأبو عبد الله بن عبد الرزاق، وأبو عبد الله الأبلي، وأبو عبد الله بن الصباغ المكناسي، وأبو عبد الله بن الحفيد السلوي، وبعد صلاة العشاء، تقرأ على السلطان بعض الشكاوى والرسائل التي تتعلق بالدولة ويتولى التوقيع عليها بنفسه.
ويتحدث ابن بطوطة عن الأمور التي شاهدها بنفسه في بلاط السلطان، وربما هي صورة تختلف بعض الشيء عما أسلفنا ذكره. إذ يقول: «أما عدله فأشهر من أن يسطر في كتاب. فمن جلوسه للمشتكين من رعیته وتخصيصه يوم الجمعة للمساكين منهم، وتقسيمه ذلك بين الرجال والنساء، وتقديمه النساء لضعفهن، فتقرأ قصصهن بعد صلاة الجمعة إلى العصر، ومن وصلت نوبتها نودي باسمها، ووقفت بين يديه الكريمتين يكلمها دون واسطة. فإن كانت متظلمة عجل إنصافها، أو طالبة إحسان وقع إسعافها، ثم إذا صليت العصر قرئت قصص الرجال وفعل مثل ذلك فيها. ويحضر المجلس الفقهاء والقضاة فيرد إليهم ما تعلق بالأحكام الشرعية. وهذا شيء لم أر في الملوك من يفعله على هذا التمام، ويظهر فيه مثل هذا العدل.»
- الفرع الثاني: البلاط الملكي
إن المعلومات التي جمعناها عن البلاط أوفى، إذ أن عددا من المؤرخين خلقوا وصفا دقيقا له. فقد كانت الحياة فيه تختلف عنها في المدينة القديمة. كان البلاط أيام الفتح المريني، بلاطا يدويا أصلا، حيث كانت المناصب الرفيعة من نصيب الزعماء المرينيين والعرب، وهم الذين كانوا قد ألفوا حياة الغزو والبداوة. ثم استقر البلاط من حيث المكان، مع أنه ظل بدويا خالصا، إذ أن سلاطين بني مرین جابهوا الحاجة إلى إرسال عدد من الحملات العسكرية، وحتى في أيام السلم كان عليهم أن يتجولوا في مملكتهم إثباتا لوجودهم ولفرض الضرائب وتثبيت سلطانهم.
ويذكر ابن مرزوق أن البلاط المريني كان لديه خداما يختصون بالسلطان في خطط متعددة، على مراتب معروفة، وكان له هو رضي الله عنه – أي أبو الحسن حين كان لا يزال وليا للعهد- خداما يتولون عنده تلك الخطط، ولهم عنده رئاسة، فكانوا ينتظرونها إذا صار الأمر له من حاجبه وكاتبه وأمينه إلى متولي مراكيبه، فلما صار الأمر إليه تأخر خدام أبيه وتقهقروا وانبسط خدامه لتولي تلك الخطط.
وفي بعض الحالات كان السلطان الجديد يحتفظ بخدام أبيه مبرة لوالده، ووفاء له وهذا ما حدث حين احتفظ السلطان أبو الحسن بكثير من رجال البلاط الذين كانوا في عهد والده السلطان أبي سعيد المريني.
ولم تكن الحياة في البلاط تشبه حياة أهل الطبقة الوسطى في مدينة فاس، وكان رأس الهرم السلطان الذي كان يعتمد عليه في كل شيء، في كل كبيرة وصغيرة. ويأتي بعده الوزراء الذين كانوا في الواقع خدمه، لكنهم كانوا خدما على مستوى رفيع، بحيث إن الآخرين جميعهم كانوا يقدمون لهم الاحترام مثل قادة الجند وكبار الموظفين، الذين كانوا عادة من قبيلة بني مرين ومن القبائل العربية الرئيسية التي كانت تعتمد على الأسرة المالكة.
ولم يكن للنساء دور رسمي في البلاط إذ أن قاعدة الفصل بين الجنسين حرمتهن من الظهور أمام الجمهور. لكن هذا لا يعني أنهن لم يقمن بدور أو أنهن كن بلا نفوذ، بل إنهن كن يلعبن دورهن سرا. وقد كانت هؤلاء النسوة كثيرات، فقد يدخل في عدادهن أم السلطان، وأحيانا جدته، وزوجاته وسراياه اللواتي كن في غالب الأمر أسيرات مسيحيات، خاصة من نساء إسبانيا والبرتغال، أو من الزنجيات.
ومما جاد به ابن مرزوق في كتابه المسند ذكره طلب والدة السلطان أبي الحسن إلى ولدها في الشفعة والعفو لأحد الأشخاص، غير أن السلطان تباطأ في تحقيق رغبتها في العفو.
يقول ابن مرزوق: « وسمعت منه رضي الله عنه مرارا أنها كلمته في العفو عن شخص قال: فلم يسعني ردها وصعب بي إجابتها. قال: فقالت لي: يا علي لعلك غرتك سلطنتك وأشغلتك عن حقي. قال: فوجدت من هذا الكلام ما يعلمه الله، وأقبلت على تقبيل قدميها واسترخائها وبقيت أياما وأنا في غاية الخجل منها والخوف من تغير باطنها.»
وأخيرا فإن آخر درجة من البلاط كانت تشمل الخدام، وغالبهم رقيق أو معتقون، وقد قامت فيها بينهم تنظیمات هرمية وغيرة وتنافس. وكثيرا ما كان يقع اختيار السلطان على واحد من خدمه ليعينه موظفا كبيرا، وكان القائمون على خدمته الشخصية هم الذين يسعدهم الحظ في مثل هذا الاختيار. ومن السهل تصور جو الدسائس والمؤامرات، الذي كان قائما في مثل هذا البلاط، كما يمكن أن يقوم حول عظماء العالم جميعا.
ومن الذين اتخذهم لهذا المنصب مولاه عتيق وعنبر.
- الفرع الثالث: اللباس
إن الزي السلطاني كان خاصا، إذ كان يعمم بعمامة طويلة قليلة العرض من كتان فوقها أحرامات يلفها على أكتافه.
ويختص السلطان بلبس البرنس الأبيض الرفيع، لا يلبسه ذو سيف غيره. أما العلماء وأهل الصلاح فلا حرج عليهم في ذلك، ولا حرج في غير الملون البيض من البرانس على أحد.
وكانوا يتقلدون السيوف تقليدا يدويا، ويلبسون الخفاف في أرجلهم (وتسمى عندهم الأنمقة) كما في إفريقية، ويشددون المهاميز فوقها ويتخذون المناطق وهي (الحوائص) ويعبرون عنها بالمضمَّات من فضة أو ذهب. وربما بلغت كل مضمَّة منها ألف مثقال، ولكنهم لا يشدونها إلا يوم الحرب أو يوم التمييز وهو يوم عرض السلطان.
وكان لباس الفقهاء كسوة تشتمل على برنوس وبرد كلاهما أبيض من صوف، ثم أحرام للتردية ومنديل يتعمم به ودراعتين، وقبطية سداسية. أما اتخاذ البياض في اللباس فمقتبس عن أهل الأندلس منذ أن اقترح استعماله زرياب المغني على بني أمية ولو أن الأندلسيين لم يلتزموا به دائما.
وكان القادة والمشايخ عربا أو زناتيين يلبسون زيا متشابها، وهو عمامة طويلة خفيفة يغطيها لثام إلى الكتف وكانوا يحملون سيفا ويتمنطقون بأحزمة للزينة أو أيام الحرب وتسمى مضمَّات.
وكان القضاة والكتاب يتعممون بعمامة خضراء ولا يحملون سيفا. وعلى العموم فقد ساد البياض لباس الرسميات والأخبية فضلا عن العلم.
أما الفقراء كالأيتام، فإنهم كانوا يلبسون قمصانا ويربطون على هذه القمصان الأحزمة، وفي كثير من الأحيان كانت الدولة توفر لهم هذا الكساء كل عام.
يقول ابن مرزوق: «يجمع الأيتام الذين يفتقرون إلى الختان فيختن كل واحد ويكسوه قميصا واحراما، ويعطي عشرة دارهم وما يكتفي به من اللحم.» (سيأتي الحديث عنه).
- الفرع الرابع: الاحتفالات
اعتاد المرينيون الاحتفال بالمناسبات مع سلطانهم، الذي كان يشاركهم فيها إما بمشاركته الفعلية، أو الجلوس لرؤيتها والتمتع بها، ومن بين هذه الاحتفالات:
1 – الاحتفال بالمولد النبوي الشريف: كان أول من أمر بالاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني.
يقول المؤرخ الناصري: « وفي سنة إحدى وتسعين وستمائة أمر السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بعمل المولد النبوي وتعظيمه والاحتفال به،( يعني بالمغرب وأما بالمشرق فأول من أحدثه الملك المظفر صاحب إربل في أواخر المائة السادسة) وصيره عيدا من الأعياد في جميع بلاده وذلك في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة وكان الأمر به قد صدر عنه وهو بصبرة من بلاد الريف في أخر صفر من السنة فوصل برسم إقامته بحضرة فاس الفقيه أبو يحيى بن أبي الصبر وأعلم أنه قد كان سبق السلطان يوسف إلى هذه المنقبة المولدية بنو العزفي أصحاب سبتة فهم أول من أحدث عمل المولد الكريم بالمغرب.
وسار سلاطين بني مرين على نفس المنهج ورسموا الاحتفال بعيد المولد النبوي.
ويذكر ابن مرزوق أن من العادة أن يستعد للعيد النبوي الشريف، بأنواع الطعام والحلويات وأنواع الطيب والبخور وإظهار الزينة والتأنق في إبداء المجالس.
وتبدأ الاحتفالات مباشرة بعد صلاة المغرب فيحضر الشرفاء والقضاة والخطباء من أهل البلاد لشهودها. فيستدعي حينئذ الناس على ترتبهم، ويأمر بأخذهم المجالس على طبقاتهم على أحسن وأجمل شارة، فإذا فرغ الترتيب وأخذ الناس مجالسهم، دعي بالطعام فاشتغل به على ترتيب ونظام… فإذا قضي الطعام أحضر من الفواكه الحاضرة في الوقت ما يوجد في إبانه، ثم يؤتى باليابس بعدها، ثم يؤتى بالكعك والحلويات، ثم يؤتى بملاح السكر… ثم يقدم زعيم المسمعين بصفه فيقضي بعض نوبته، ويشرع في قصائد المدح والتهاني فتقرأ على نظام محفوظ وترتيب محوط على قدر المنازل والرتب والمناصب فتطير القلوب فرحا، وتسرد المعجزات وتكثر الصلوات على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد احتفل سلاطين بني مرين بعد أبي الحسن وتتابعوا على نمطه، وقد زاد السلطان أبو عنان في هذه الاحتفالات، حتى أن ابن أبي دينار اعتبر السلطان أبا عنان أول من اعتنى بتعظيم المولد النبوي في البلاد الغربية.
يقول ابن أبي دينار القيرواني: « وأول من اعتنى بتعظيمه في البلاد الغربية وأظهر فيه شعائر الولادة المحمدية السلطان أبو عنان المريني.»
2 – الاحتفال باستقبال الوفود: تميز الشعب المغربي بحفاوة الاستقبال منذ القديم، فكان من عادة الشعب في عهد الدولة المرينية أن يخرج لاستقبال الوفود والضيوف التي تأتي لزيارة السلطان المريني، تعبيرا عن صدق مشاعرهم وحبهم لسلطانهم. ومن هذه الاحتفالات، الاستقبال الشعبي الذي أقيم بمناسبة قدوم وفد من دولة مالي يحمل هدية عظيمة للسلطان أبي سالم المريني وقد تضمنت هذه الهدية زرافة، كانت غريبة الشكل لأن أحدا من الناس في العصر المريني لم يشاهدها من قبل.
يقول ابن خلدون:» وكان يوم وفادتهم يوما مشهودا حسب لهم السلطان ببرج الذهب بمجلسه المعد لعرض الجنود، ونودي في الناس بالبروز إلى الصحراء، فبرزوا ينسلون من كل حدب حتى غص بهم الفضاء وركب بعضهم بعضا في الازدحام على الزرافة إعجابا بخلقتها، وحضر الوفد بين يدي السلطان وأدوا رسالتهم بتأكيد الود والمخالصة.»
وأنشد بعض الشعراء في معرض المدح والتهنئة ووصف الحال.
قدحت يد الأشواق من زند
وهفت بقلبي زفرة الوجد
إلى أن قال في وصف الزرافة:
ورقيمة الأعطاف حاليـــــــــــــــــــــــة
موشـــــية بوشــــــــــائع البـــــــــــرد
وحشية الأنساب ما أنســت
في موحش البيــــــــــــداء بالقــرد
تسمو بجيد بالغ صعــــــــــــــــــــــــدا
شرف الصروح بغير ما جهد
طالت رؤوس الشامخات بــــه
ولربما قصـــــــرت عن الوهـــــــــــــد
3 – الاحتفال بسفر السلطان: من عادة السلطان إذا سافر أن يخرج من قصره وينزل بظاهر بلده، ثم يرتحل من هناك فيضرب له طبل كبير قبيل الصبح إشعارا بالسفر، فيتأهب الناس ويشتغل كل واحد بالاستعداد للرحيل، فإذا صلى صلاة الصبح ركب الناس على قبائلهم في منازلهم المعلومة، ووقفوا في طريق السلطان صفا إلى صف، ولكل قَبِيلِ رَجُلٍ علم معروف به ومكان في الترتيب لا يتعداه، فإذا صلى السلطان الصبح قعد أمام الناس، ودارت عليه عبيده ووصفائه ونقباؤه، ويجلس ناس حوله يعرفون بالطلبة يجري عليهم دیوانه، يقرؤون حزبا من القرآن، ويذكرون شيئا من الحديث النبوي، على قائله أفضل الصلاة والسلام. فإذا أسفر الصبح ركب وتقدم أمامه العلم الأبيض المعروف بالعلم المنصور… وإذا وضع السلطان رجله في الركاب، ضرب على طبل كبير يقال له تریال ثلاث ضربات إشعارا بركوبه، ثم يسير السلطان بين صفي الخيل ويسلم كل صف عليه بأعلى صوته «السلام عليكم» ويكتنفانه يمينا وشمالا. وتضرب جميع الطبول التي تحت البنود الكبار الملونة خلف الوزير على بعد من السلطان، ولا يتقدم أمام العلم الأبيض إلا من يكون من خواص علوج السلطان وربما أمرهم بالجولان بعضهم على بعض ثم ينقطع ضرب الطبل إلى أن يقرب من المنزل.
4 – الاحتفال بالعيدين: في ليلة العيدين ينادي والي البلد في أهلها بالمسير، ويخرج أهل كل سوق ناحية، ومع كل واحد منهم قوس أو آلة سلاح، مُتَجملين بأحسن الثياب، وببيت الناس تلك الليلة أهل كل سوق بذاتها خارج البلد، ومع أهل كل سوق علم يختص بهم، فإذا ركب السلطان بكرة اصطفوا صفوفا يمشون قدامه، ويركب السلطان ويركب العسكر معه ميمنة ومسيرة والعلوج خلفه ملتفون به، والأعلام منشورة وراءه، والطبول خلفها حتى يصلي ثم يعود، فينصرف أرباب الأسواق إلى بيوتهم. ويحضر طعام السلطان خواصه وأشياخه.
5 – الأفراح: لم تختلف الأفراح في المجتمع المريني كثيرا عما هو معروف لدى سائر المجتمعات الأخرى في بلاد المغرب.
وقد أشار ابن خلدون إشارات خفيفة عن بعض الأفراح السلطانية، فقال: «ولم يزل حاجبه ابن تافراكين يخفض عليه الشأن ويعظم عليه حق السلطان أبي الحسن في رد خطبته مع الأذمة السابقة بينهما من الصهر والمخالصة إلى أن أجاب وأسعف. وجعل ذلك إليه فانعقد الصهر بينهما وأخذ الحاجب في شوار العروس، وتأنق فيه واحتفل واستكثر وطال ثواء الرسل إلى أن استكمل وارتحلوا من تونس لربيع من سنة 749ه وأوعز مولانا السلطان أبو يحيى إلى ابنه الفضل صاحب بونة وشقيق هذا العروس أن يزفها على السلطان أبي الحسن قياما بحقه.
ولما انعقد الصهر للمولى أبي الحسن بالحرة فاطمة زفها إليهم في أساطيله مع مشيخة الموحدين فوصلوا بها من ساغاسة بين يدي مهلك السلطان أبي سعيد وبعد وفاته بويع لولده أبي الحسن وزفت إليه فأعرس بها.
والزواج كان من المناسبات والأفراح الهامة في حياة الأسرة، فهو قبل كل شيء أمر خاص بالأسرة، لم يكن المقصود بالزواج ارتباط رجل بامرأة برباطه، بل كان ارتباط أسرتين معا.
وكانت الاحتفالات المتعلقة بالزفاف تتم بالعرصات وكن مهيأة للطقس البارد الماطر. وتبدأ الاحتفالات التي تستمر عادة أسبوعا، والتي تجري في بيت كل من العروسين. وكانت خاتمة المطاف الليلة التي تحمل فيها العروس من بيتها إلى منزل الزوجية. فإذا بلغت باب الغرفة استقبلها زوجها، وغالبا ما كان هذا أول مقابلة لهما. أما إذا كانت العروس ثيبا أو مطلقة، كان الاحتفاء أقل فخامة. كما أن الاحتفال بالزواج كان أبسط بين أهل الفئات الفقيرة.
كانت أيضا الاحتفالات بالعقيقة تعتبر حدثا سعيدا للأسرة، وتفرح العائلة بالمولود الجديد. ومتی بلغ المولود أسبوعا من عمره أطلق عليه اسمه وكان الفرح يعم الأسرة بهذه المناسبة.
ومن المناسبات الأخرى التي كانت مجلبة للفرح والسرور الطهارة، فبعد تمام الطهارة، يلبس الطفل رفيع الثياب، ويحمل على بغل عبر المدينة، تعبيرا عن فرحة أهله.
- الفرع الخامس: الجنائز
يتحدث روجيه لوتورنو عن الجنائز ويصف لنا بدقة تفاصيل حالة الجنازة. فيقول: « في حالة الوفاة كان الحزن يغمر البيت وكان الحزن بين أهل الطبقة الوسطى يتخذ شكلا رزينا معتدلا، ولكنه بين الفئات الدنيا كان يتم بنتف الشعور ولطم الخدود، وكان وجود الندابين المأجورين، من الرجال والنساء على السواء، مما يزيد في مظاهر النواح والندب. كانت الجثة تغسل جيدا ثم تلف في الكفن وتحمل إلى المقبرة على الآلة الحدباء (النعش)، وكان الرجال فقط يسيرون في الجنازة، مرددين أدعية دينية. وفي الغالب كان الموكب يتوقف في الطريق في مسجد للصلاة على الميت والدعاء إلى الله بأن يتغمد روحه برحمته.»
ويشير ابن مرزوق أنه لما توفيت والدة السلطان أبي الحسن أمر الشرفاء والعلماء والصلحاء لمرافقتها إلى موضع مدفنها وأمر ببناء مسجد في كل موضع كان المبيت به من تلمسان إلى شالة، وعمارة وزاوية. ويذكر صاحب نفح الطيب أنه لما توفي الشيخ ابن عباد رضي الله عنه حضر جنازته السلطان أمير المسلمين أبو العباس أحمد بن السلطان أبي سالم وأهل البلدتين يعني فاس الجديد التي هي مسكن السلطان وخواص أتباعه، وفاس العتيق التي هي محل الأعلام، والخاص والعام من الناس في ذلك القطر.
- الفرع السابع: الألعاب والغناء
كانت هناك ألعاب خاصة تجرى بالقصر الملكي، فقد روي أن أبا عنان أشرف ذات يوم من أحد الأبراج على مصارعة بين الثور والأسد، فوصف ابن جزي ذلك فقال:
الله يوم بدار الملك مــــر بـــــــــــــــــــه
من العجائب لم يجر في خلـــــدي
لاح الخليفة في برج العلا قمرا
يشاهد الحرب بين الثور والأسد.
ومن الألعاب التي تميز بها المرينيون المرامي، حيث كانت توجد بسبتة أماكن للرماية والسباق. يقول صاحب اختصار الأخبار: «وعدد المرامي المعبر عنها بالجلسات وأماكن السبق المعلومات للرمات أربعة وأربعون مرمی، بالميناء تسع جلسات، جلسة الحفير بإزاء باب الحلويين المخصوصة بالقاضي وصدور الفقهاء من العدول وغيرهم، إذ الرمي طبع لأهل سبتة طبعوا عليه، فلا تلفي منهم شريفا ولا مشروفا ولا كبيرا ولا صغيرا إلا وله بصر بالرمي وتقدم فيه، ومعظم رميهم بالقوس العقارة، هو من جملة الأشياء التي تميزوا بها.
أما الغناء فقد انتشرت الموشحات الأندلسية بالمغرب في عهد بني مرين، كما انتشر الزجل كغناء شعبي وبما أن الموشحات لها وضع موسيقي خاص مع سمو لغتها بالنسبة للزجل. والأزجال من وضع أندلسي هو أبو بكر بن قزمان الذي عاصر المرابطين، ولو أن المحاولات بدأت قبله ولكنها اتخذت طابعها المتميز في عهده. وفي عصر بني مرين اشتهر فيها كثيرين بينهم كبار الكتاب، ومن المجيدين لسان الدين بن الخطيب وأبو عبد الله الألوسي وعلي بن المؤذن وابن شجاع وهو من تازة والكفيف من أهل زرهون.
ومن الطبيعي أن تنتقل الأزجال الأندلسية إلى المغرب ما دام الاتصال بين العدوتين مستمرا. ولم تكن لغة الأزجال نفسها بعيدة من الفصحى كما يدل على ذلك قول ابن شجاع:
تعب من تبع ملاح ذا لزمـــــــان
أهمل یا فلان لا يلعب الحسن فيك
ما منهم ليح عاهد إلا وخان قليل
من عليه تحبس ويحبس عليك
ومن أجود ما قيل في الأزجال قصيدة الكفيف في تعزية بني مرين عن انهزامهم في إفريقية أيام أبي الحسن. ومن أبياتها:
لو كان ما بين تونس الغرب
وبلاد الغرب سد السكنــــــدر
مبني من شرقها إلى غربهـــــــــــــا
طبقا بحديدا وثانيــــــــا بصفـــــــــــر
لابد الطيران تجيــــــــــــــــــــــــب نبا
أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
المبحث الثالث: الحياة الفكرية
إن تأثير الانقلاب المريني على الحالة الفكرية، لم يكن ذلك التأثير القوي الذي تتبدل معه معالم الأمور وتغيير مجاري الأحوال، لذلك فإن الحركية العلمية قد بقيت في نشاطها وتقدمها، كما كانت على عهد الموحدين. وإن كان قد اعتراها في فترة الانقلاب بطبيعة الحال شبه انقطاع أو فتور، فإنها بعد أن انتصبت الدولة المرينية وتشيدت أركانها قد عادت فاسترجعت ما كان لها قبل من القوة والظهور.
نعم لقد استأنفت الحركة العلمية سيرها إلى الأمام في ظل الدولة المرينية التي ما فتئت ترعاها وتشجعها بمد يد الإعانة إلى رجالها وتنشيطهم حتى ينصرفوا لخدمتها، بل إن رجال الدولة أنفسهم كانوا يقدمون لها أجل الخدمات مما لا يقوم به إلا أجل العلماء.
وللإشارة هناك بعض النصوص التي تقلل من المنتوج الثقافي، فابن خلدون (ت808ه) يتحدث عن الكساد الثقافي والعلمي ويقول: «وقد كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب لتناقص العمران فيه، وانقطاع سند العلم والتعليم… وما أدري ما فعل الله بالمشرق، والظن به نفاق العلم فيه واتصال التعليم في العلوم وفي سائر الصنائع الضرورية والكمالية، لكثرة عمران والحضارة ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم.»
ويذهب العبدوي المذهب الذي نهجه ابن خلدون في التقليل من النهضة العلمية بالمغرب من خلال منهج مقارن فيقول العبدوي: «سمعت سيدي الفقيه الجليل الفاضل أبا بكر بن عبد العزيز رحمه الله يحكي عن والده الشيخ الصالح القدوة أبي محمد وكان دخل بلاد القبلة أنه كان يقول: الغرب دنيا بلا رجال والقبلة رجال بلا دنيا.»
ويمكن القول مما سبق أن نظرية ابن خلدون تتمركز على رأيه في العمران وظنونه، أما العبدوي فكلامه يتمركز على الحكايات، وهذه أدلة لا تستند إلى واقع ملموس بقدر ما هي آراء انبهار بعالم الآخر.
غير أن الكثير من الباحثين المحدثين أسالوا مداد القلم على ثقافة وفكر العصر المريني وأرجعوا له حقه المتميز والنابع من قطر كان له حقه الواسع.
يقول عبد الله العروي: « يجمع الدارسون على أن العهد المريني- الحفصي- الزياني يمثل ذروة الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب، لأنها لم تعد كما كانت من قبل محصورة في منطقة معربة دون سواها، بل شاركت في المناطق بنصيبها في حفظها ونشرها.»
ويضيف قائلا: « وتبدوا لنا ثقافة القرن الثامن الهجري في بلاد المغرب غنية متنوعة، فننسى أنها لا تعبر عن تجربة المغرب التاريخية، بل تمثل، شكلا ومحتوى آخر. بريق سطعت به الأندلس قبل أن تغيب من الأفق وإن بقيت مائلة في الوجدان.»
وإن ما يميز الثقافة في مغرب بني مرين، فوق كل ما ذكرنا، هو ازدواجيتها، حيث كانت تعكس ثنائية الدولة القائمة آنذاك.
ويمكن أن نقول إن العهد المريني شهد حصاد قرنين من المجهودات العلمية، بفضل جهود المرابطين والموحدين في مجالات الثقافة والعلم والأدب، وما أن جاء المرينيون حتى انطلقت الحياة الفكرية في عهدهم إلى أفاق أرحب وأوسع، أتاحت للعقلية المغربية مزيدا من النضوج. وقد دعم سلاطين بني مرين انطلاق الحياة الفكرية في عهدهم.
بلغت الحياة الفكرية العلمية ازدهارا واضحا في عهد المرينيين، فقد تنوعت أماكن التعليم في البلاد، ولم تكن حصرا على فئة دون الأخرى، بفضل الرعاية التي حظيت بها أماكن التعليم، وإغداق الأموال على العاملين بها طلابها كانوا أم أساتذة.
وعدت مدنهم مراكز ثقافية مهمة ليس على صعيد المغرب العربي فحسب بل والأقطار الإسلامية المجاورة، حيث تنوعت العلوم فيها بحكم عوامل سنأتي للحديث عنها في بحثنا هذا.
كما أن سلاطين بني مرين لم يقيموا دولتهم على أساس أفكار دينية. وعلى هذا الأساس لم يفرضوا على العلماء في دولتهم أن يتقيدوا بوجهة نظر معينة.
وكانت مجالس العلماء على اختلاف مستوياتهم وأراءهم وأفكارهم، بل لقد سمح المرينيون في كثير من الأحيان بتدريس آراء الموحدين في مدارسهم، احتراما منهم لحرية الفكر.
وفي المغرب الأقصى أوجد المرينيون أكبر قاعدة فكرية وثقافية قامت في بلاد المغرب منذ الفتح الإسلامي، وتمثلت هذه القاعدة في ذلك العدد الضخم من المدارس العالية المتخصصة التي انتشرت في أنحاء المغرب الأقصى على نحو لم يسبق له مثيل، تميز بين المدن الصغرى، والمدن الكبرى، بل امتدت المدارس إلى مناطق أخرى من بلاد المغرب.
وبهذا استطاع بنو مرین تنمية الحركة الفكرية، وتعميق جذورها في المغرب الأقصى، حيث أصبحت فاس عاصمة للفكر في بلاد المغرب، إلى جانب كونها العاصمة السياسية للدولة.
المطلب الأول: العودة للمذهب المالكي
كان هناك عمل منظم للدولة المرينية لإحياء المذهب السني على الطريقة المالكية لتحقيق تكوين مناعة ذاتية لمقاومة التفسخ الاجتماعي إلى إحياء مذهب مالك رضي الله عنه بجانب الحركة الصوفية، ولذلك أسسوا لتحقيق هذه الدعوة عدة مدارس علمية، وأشرفوا على سير التعليم بها حسب توجيههم الفقهي.
وبهذا استعاد المذهب المالكي مكانته التي كان عليها قبل ظهور دولة الموحدين، الذين صادروا معظم كتب ومؤلفات هذا المذهب وأحرقوها. وكان سلاطين بني مرين أنفسهم يهتمون بفهم هذا المذهب. يقول الدكتور إبراهيم حركات:» والواقع أن بني مرين يعود إليهم الفضل مرة أخرى في بقاء مذهب مالك وانتشاره العلمي بالمغرب. وذلك بعد المجهود الذي بذله أسلافهم المرابطون.»
ويقول العلامة محمد المنوني: « كانت المذاهب الغالبة على المغرب في الفترة المرينية هي: المذهب الأشعري في المعتقدات والمذهب المالكي في الفقهيات والصوفية السنية حسب طريقتي أبي مدين ثم أبي الحسن الشاذلي.»
ومما لا شك فيه، والمعلومة التي لا مرية فيها، أن العودة للمذهب المالكي هو رفض لتعدد المذاهب، ورفض فكرة التأويل والأخذ بالرأي.
يقول صاحب كتاب النبوغ المغربي الدكتور عبد الله كنون: « وفي الفقه ساد المذهب المالكي نهائيا لكفاح إتباعه المستميت في العصر السابق، ولمناصرة الدولة الجديدة له.»
وقد نشطت حركة التأليف نشاطا عظيما في ميدان الفروع.
وكان سلاطين بني مرين أنفسهم يهتمون بفهم هذا المذهب، فأبو الحسن المريني كان يحرص على أن تقرأ بين يديه المؤلفات العديدة في المذهب المالكي، وكان يصغي جيدا لما يلقى عليه من أدلة أهل السنة، وبيان مذهبهم، فإذا ما عرضت أدلة المعتزلة أو غيرهم من المذهب الأخرى أعرض عنها، ونهى عن الخوض فيها، وزجر من تمادى في ذلك.
فالدولة المرينية منذ سطوع نجمها عرف شعبها بولعه الشديد بالمذهب المالكي، حيث عكف علماء الدولة على دراسة مؤلفات المذهب المالكي الأساسية.
ومن علماء المذهب المالكي زمن المرينيين، والذي برز اسمه في تلك الفترة، الفقيه سيدي عبد الرحمن بن عفان الجزولي. قال عنه صاحب كتاب سلوة الأنفاس: «كان أعلم الناس بمذهب مالك بن أنس، وأصلح الناس وأورعهم، وكان يحضر مجلسه أكثر من ألف فقيه، معظمهم يستظهر المدونة.»
ومن العلماء أيضا الذين عرفوا بتضلعهم من المذهب المالكي، والذين قاموا بتدريس المذهب، الشيخ محمد بن وارياش فقيه مكناسة، ومحدثها وإمامها، كان يدرس الموطأ بمكناسة، وكانت طريقته: يبدأ بذكر الله تعالى أولا، ثم يأمر خاصة طلبته فيعرضون عليه الدرس، ثم يتكلم على الكتاب كلاما حسنا يعتمد على كلام أبي عمر بن عبد البر، وأبي الوليد الباجي، ويضيف إليهما شيئا من تعاليق المحدثين.
هذا إلى جانب العديد من علماء المذهب المالكي الأخرين الذين قاموا بتدريس المذهب المالكي في المدارس المرينية والمساجد، حيث كان هذا المذهب محورا لنظام التعليم في العصر المريني.
ومن بين هؤلاء العلماء نجد في طليعتهم، العالم المحنك سيدي أبو محمد عبد الله القشتالي الفقيه الصالح المدرس بمدرسة الحلفاويين والذي كان يدرس من مختصر المدونة للبراذعي.
وكذلك الشيخ العلامة سيدي مصباح بن عبد الله اليالصوتي (ت 750ه) المدرس النبيه النوازلي المفتي البركة الصالح، الذي تضاف إليه المدرسة المصباحية بفاس لكونه أول من درس بها حين بناها السلطان أبو الحسن المريني. وهو فقيه مالكي، بمدينة فاس.
وأيضا الشيخ العلامة محمد بن علي بن عبد الرزاق الجزولي كان قاضيا بحضرة أبي سعيد المريني وخطيبه. ولما توفي أخذه ولده أبو الحسن المريني، كان له التقدم في علم الأصول بفاس، وكان يعقد لذلك مجلسا في جامع القرويين، وكان يطاوعه القلم في الكتابة، وكان معظما عند أبي الحسن المريني توفي في حدود (755ه).
والشيخ العلامة علي بن محمد بن عبد الحق الزرويلي أبو الحسن الصغير، الفقيه المالكي كان قيما على تهذيب البراذعي حفظا وفهما. قيدت عنه التقاييد الحسنة على المدونة، وكان يشارك في شيء من أصول الفقه، يطرز بذلك مجالسة، وكان يدرس بجامع الأزدع من داخل مدينة فاس، وقيدت عنه أيضا تقاييد على رسالة أبي زيد القيرواني توفي سنة (719ه).
والشيخ العلامة أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن الجذامي، يعرف بالقباب من صدور أهل فاس، إمام فقيه نبيه جيد النظر سدید الفهم، ولي الفتيا بمدينة فاس، وله نوازل مشهورة، وولي القضاء بجبل الفتح فوصف فيه بالجزالة. له شرح على قواعد عیاض وشرح على بيوع ابن جماعة. اشتغل بتدریس مختصر البراذعي بالمدرسة البيضاء، وبقراءة كتاب الموطأ بالجامع الأعظم من مدينة فاس، وكان يطالع على كتاب الموطأ خمسين ديوانا توفي سنة (779ه).
والظاهر أن المذهب المالكي تعمم في سائر بلاد المغرب. يقول العلامة محمد المنوني: «ويظهر أن يعقوب بن عبد الحق حاول أن يعمم تطبيق المذهب المالكي على سائر المحاكم المغربية.»
وقد جاء في ترجمة مفضل بن محمد بن محمد بن إبراهيم العذري المري المالكي المعروف بابن الدلاي، أن الخليفة يعقوب بن عبد الحق المريني ولاه قضاء الجماعة بحضرة فاس، وجعل له النظر على صاحب الشرطة وصاحب الحسبة، فكانا لا يقطعان أمراً دونه.
ويؤيد هذا بالجملة، أن السلطان يعقوب كان صادرا في أكثر أموره وأحواله وأحكامه عن رأي العلماء (يعني المالكية).
ويمكن أن نقرر أن أسباب انتشار المذهب المالكي وسرعة العودة إليه، ناتج عن حب السلاطين لهذا المذهب وتعلق العلماء الشديد به وبالإمام مالك وتلاميذه، كذلك اختص أهل البلد بمذهبه وكانت له مكانة في قلوبهم ونهجهم، خصوصا قراءة الموطأ وكتاب المدونة التي تستظهر في المساجد.
وبذلك أصبح المذهب المالكي في هذا العهد كامل السيادة ولم يعد ينافسه أي مذهب ديني أخر. واتجه العلماء إلى تأويل أقوال مالك وأصحابه والتبسيط في شرح المتون تدريسا وتأليفا، وقد اكتسب الفقهاء اعتبارا فائقا في هذا العهد بسبب الإقبال العظيم الذي حصل على العلوم الدينية بوجه عام، والذي كان ردة فعل للحجر الطويل على المذهب المالكي أيام الموحدين. وقد زاد اتصال المغاربة بأهل المدينة أيام الحج إقبالا على الفقه المالكي الذي فقد بصفة نهائية كل منافس له بالمغرب منذ هذا العصر.
المطلب الثاني: المذهب الأشعري
تحدث كثير من الدارسين عن قضية دخول المذهب الأشعري إلى المغرب، وإن كان الكثير من الآراء تؤكد أن الفكر الأشعري، ظهر خلال القرن الرابع الهجري أو أواخره، وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك وقال إن المذهب دخل في حياة أبي الحسن الأشعري (ت324ه) مؤسس مبادئ الفكر الأشعري.
ويبدو أن الفكر الأشعري كان متداولا ومعروفا زمن المرابطين، يقول محمد بن تاويت الطنجي في مقدمة تحقيقه لكتاب ترتيب المدارك:» هذه المدرسة كانت على علم تام بالجدل والمناظرة وأصول الدين والكلام على مذهب أبي الحسن الأشعري، وأن كتب الأشاعرة في علم الكلام كانت معروفة بين رجالها يتدارسونها في كافة أنحاء المغرب. ومن هنا نصل إلى عدم صحة ما حيك حول مهدي الموحدين، من أن علماء المغرب في عهد المرابطين، لم تكن لهم معرفة بالجدل والنظر، وأنهم لذلك لم يستطيعوا أن يثبتوا له في مناظرته، وأن التجسيم كان غالبا عليهم في الاعتقاد، فجاء ابن تومرت بعقيدة التوحيد، ونشرها، وسمی أتباعه الموحدين، إلى أخر ما قيل وكرر. إنه خدعة سياسية أذاعها ابن تومرت وأنصاره لتوطيد نفوذهم في نفوس الجماهير.»
ويضيف صاحب كتاب الاستقصا قوله: « وأما حالهم في الأصول والاعتقادات فبعد أن طهرهم الله تعالى من نزعة الخارجية أولا والرافضية ثانيا أقاموا على مذهب أهل السنة والجماعة مقلدین للجمهور من السلف رضي الله عنهم في الإيمان المتشابه وعدم التعرض له بالتأويل مع التنزيه عن الظاهر وهو والله أحسن المذاهب وأسلمها ولله در القائل:
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته
ولا ذاته شيء عقيدة صائب
سلم آيات الصفات بأسرهـا
وأخبارها للظاهر المتقـــــــــارب
ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا
وتأويلنا فعل اللبيب المراقــــب
ونركب للتسليم سفنا، فإنها
التسليم دين المرء خير المراكب
واستمر الحال على ذلك مدة إلى أن ظهر محمد بن تومرت مهدي الموحدين في صدر المائة السادسة، فرحل إلى المشرق وأخذ من علمائه مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، ومتأخري أصحابه من الجزم بعقيدة السلف مع تأويل المتشابه من الكتاب والسنة وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازتها وضروب بلاغاتها مما يوافق عليه النقل والشرع ويسلمه العقل والطبع.»
ويمكن القول إن الدولة المرينية وجدت الأرض خصبة وممهدة بعد أن خلص الناس لمذهب أبي الحسن الأشعري، بعد إقرار الدولة المرابطية والدولة الموحدية بالمذهب الأشعري، وإن كان المذهب الأشعري في عهد الدولة الموحدية اتخذ طابعا سياسيا. يقول العلامة محمد المنوني: « أما الاعتقادات فكانت على مذهب أبي الحسن الأشعري على طريقة المتقدمين من أتباعه، فيما فيهم إمام الحرمین.»
ويروي ابن مرزوق في مسنده أن أبا الحسن المريني كان محافظا على أصول الاعتقاد فيقول: «كان رضي الله عنه على ما كان عليه من الاشتغال بما قلَّده والقيام بین طوقه، يعمر مجالسه بالقراءة والمذاكرة، وقرئ بين يديه إرشاد أبي المعالي، فكان يصغي لما يلقى من أدلة أهل السنة، وبيان مذاهبهم، فإذا عرضت أدلة المعتزلة والخارجين عن مذاهب أهل السنة، يقول: دعوا هذا، ومهما ذكر مذهب من المذاهب الملفوظة، ينهى عن الخوض فيه، ويزجر ذاكره.»
كما أن المرينيين قاوموا بقايا الأفكـــار الموحدية، وأصدر ملوكهــــم ظهيرا في البحث عن أمر طائفـــــــة من أتباع المهدي بن تومرت.
ولما دخل الأمير أبو الحسن المريني إلى إفريقية محا رسوم الموحدين، ولم يبق منهم أحد بها.
ويبدو أن ترسيخ المذهب الأشعري كان على المستوى الجماهيري العام، قبل أن يكون على المستوى الرسمي (السلطة)، وذلك بسبب انتشاره بين العلماء والعامة، مما دفع بسلاطين الدولة المرينية بتدعيمه وإقراره كمذهب عقدي للدولة.
يقول صاحب النبوغ المغربي:» كان عمل المرينيين في الناحية الدينية سليما من أي نزعة، خالصا من كل بدعة. فإذا كان المذهب الأشعري في العقائد قد تقرر في العصر السابق، وصار هو الغالب على أكثرية المغاربة، فقد علمت أنه تقرر بعيدا عن تأثير الدولة، وخاليا مما كانت تضيفه إليه من آراء شاذة مأخوذة عن المعتزلة وغلاة الشيعة. على أنه قد عم العالم الإسلامي، وأصبح هو والمذهب الماتريدي المذهبين العقديين الرسميين السائدين في سائر مملكة الإسلام.»
المطلب الثالث: التصوف في العهد المريني
التصوف في حقيقته مجموعة من المبادئ المتكاملة التي تحكم تصرفات أصحابه في مختلف أوجه حياتهم الروحية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتطبعهم بطابع خلقي خاص. وقد اهتم التصوف اهتماما كبيرا بالتربية الروحية والتربية الأخلاقية لارتباطهما ببعض ارتباطا وثيقا، فلا حياة روحية دون حياة أخلاقية.
وقد كان للتصوف دوره في الحركة الفكرية، حيث امتاز العصر المريني بظهور عدد كبير من أقطاب التصوف وأساتذته، ولم يكن سلاطين بني مرين يشعرون بأي خطر من امتداد نفوذ الصوفية، لأن الدولة المرينية كانت قوية مهيبة الجانب، ولأن المرينيين من ناحية أخرى انصرفوا إلى استكمال بناء صرح الحضارة المغربية. وتطلب ذلك المزيد من حرية الفكر، التي أتاحها المرينيون للجميع وفي ظلها ازدهر التصوف.
يقول الأستاذ الحسن السايح: «وازدهر علم التصوف الذي تزعمه كثير من العلماء واستنبط أسسه ابن خلدون في مقدمته، ولقد تأثر ابن خلدون بالنظريات الصوفية في المغرب وكتب بعد عودته من المغرب إلى الأندلس أنه وصل وله ورد ووظيفة وسبحة وحظ من الخير، وألف ابن الخطيب، روضة التعريف في الحب الشريف، التي حوكم من أجل شطحاتها، وفيها تحليل صوفي الأسرار الحب والنفس.»
واكتسبت الحياة الدينية في عهد بني مرين مظاهر جديدة، بسبب نشاط الحركة الصوفية من جهة ودخول العناصر اليهودية في الميدان السياسي إلى جانب الاحتكاك بالمسيحيين المتوافدين على المغرب كغزاة أو تجار.
وقد لوحظ أن الحركة الصوفية قد اتسع نطاقها على الخصوص شمالا حيث كان لزعمائها دور في التوجيه الروحي لسكان هذه الناحية التي تسلط عليها التدخل الأجنبي. ولم تكن الحركة الصوفية في عهد بني مرين تكتسي صبغة التمرد المسلح على الدولة أو التكتل ضدها، بل كانت في الواقع ثورة سلبية على الوضع الديني والاجتماعي والسياسي الذي صار إليه الشعب والدولة. وظلت هذه الثورة مكبوتة لتنطلق في صراع مسلح ضد التدخل الأجنبي منذ أواخر أيام الدولة ثم تشتد ابتداء من عهد الوطاسيين.
كما أن هدف بني مرين كان يرمي إلى إنشاء إمبراطورية إسلامية على غرار الموحدين، واستعانوا على تحقيق هدفهم بواسطة الزوايا الصوفية، فازدهرت الشاذلية الجبرية في عهدهم، وتفرعت عنها كثير من الطرق بسبب كثرة المرابطين ذوي النفوذ الروحي مما أدى إلى تكوين إقطاعيات صوفية جهوية، وساعد انهزام المسلمين في الأندلس على تكوين روح الجبر والاستسلام، كما ظهرت الطريقة الجزولية والتباعية من امتدادات الشاذلية فتحقق للدولة غايتها السياسية على أنه بجانب هذا الاتجاه الصوفي كان هناك عمل منظم لإحياء المذهب السني على الطريقة المالكية لتحقيق تكوين مناعة ذاتية لمقاومة التفسخ الاجتماعي إلى إحياء مذهب مالك رحمه الله بجانب الحركة الصوفية.
وصرنا نرى معظم سلاطين بني مرين قريبين من كبار أقطاب التصوف أحياء وأمواتا، ودأب كثير من سلاطين بني مرين على متابعة زيارة قبور هؤلاء المتصوفة تبركا بهم، وإظهارا للاهتمام بهم.
فمثلا كان أبو الحسن المريني يزور ضريح الولي أبي العباس السبتي، وضريح القاضي أبي الفضل عياض وأمثالهم من الصلحاء. وبأغمات الهزيري والتونسي، وأمثالهم وبآسفي سيدنا أبا محمد صالح الماجري… ويكثر بفاس زيارة القاضي أبي بكر بن العربي وأبي زيد الهزميري ومن معه بمسجد الطابرين.
ونستطيع أن نقسم رجال الحركة الصوفية في هذا العهد إلى قسمين رئيسَين، قسم انقطع لعبادة الله وتجرد عن الخوض في شؤون الدنيا، ومن بين رجال هذه الطائفة أفراد زهدوا لمجرد الزهد ولم يؤسسوا طريقــة معــينة، وأشهــرهم الإمــــام ابن عاشر، والباقــــون فيهم من تزعم حركة صوفيـــة معينة وكــون لنفسه طريقة الإمام كالإمام الجزولي.
ثم هناك طبعا مریدون وأصحاب لكل من الطائفتين. أما القسم الثاني فهو الذي كون نواة لحركة الجهاد التي سيتسع مدارها في عهد الوطاسيين.
ولقي المتصوفة الأحياء تقدير سلاطين بني مرين، واحترامهم، فكانوا يحفظون لهم مكانتهم ويقدرون لهم دورهم الديني ومكانتهم العلمية والصوفية، بل أن بعض المتصوفة كان يفرض شروطا معينة حين يطلب السلطان المريني لقاءه، وكانت مكانة هؤلاء الزهاد والمتصوفة تدفع السلاطين إلى قبول هذه الشروط في مقابل لقائهم والاستماع إليهم، وإلى مواعظهم، ونصائحهم.
وفي هذا المقام يشير ابن مرزوق في مسنده حكاية سيدي أبي عبد الله الكومي الضرير المراكشي، وكان من أولياء الله بلا نزاع، ومن أصحاب التصرفات والمقامات. فهو يذكر كيف فرض أبو عبد الله الكومي شروطا على السلطان أبي الحسن، يقول ابن مرزوق: « بل حتى تبلغوا عني ويتحمل سيدنا أمير المؤمنين شروطي. فانصرفنا عنه فأطعناهم رضي الله عنهم على الواقع، فقالوا: نعم قبلنا شروطه.»
ويمكن القول إن التصوف في العصر المريني كان له أثر واضح في الكثير من الجوانب داخل کیان المجتمع المريني سواء من الناحية الاجتماعية أو الفكرية أو السياسية.
كما أن انتشار علماء الصوفية في مدن المغرب الأقصى، وتنقلهم بينها، إلى جانب المدارس التي أنشأها المرينيون، فرصة عظيمة لإذكاء الحركة الفكرية في المغرب الأقصى -مهد الدولة المرينية- وهذا بدوره فتح السبيل أمام نشر العلم والثقافة في أرياف المغرب الأقصى وبواديه.
المطلب الرابع: العلوم المتعددة في العهد المريني
- الفرع الأول: اللغة والنحو
يعتبر عصر بني مرين عصرا ذهبيا في ميدان علوم اللغة التي اتجه إليها اهتمام الطلاب دراسة والأساتذة تدريسا وتأليفا، وأهم الكتب التي تدارسها المغاربة بمدارسهم في اللغة ترجع إلى هذا العصر بالإضافة إلى بعض مصنفات الشرق.
وقد زاد من اهتمام العلماء في العصر المريني بعلوم اللغة، نشاط حركة البحث في العلوم الدينية من تفسير وقراءات وفقه وحديث، وشعور العلماء الدارسين لهذه العلوم، بحاجتهم إلى دراسة علوم اللغة، إذ هي الأساس لفهم كثير من مسائل هذه العلوم. ولذلك كان معظم العلماء في العصر المريني على صلة كبيرة بالدراسات اللغوية، وأدى هذا بطبيعة الحال إلى دعم اللغة العربية وتقويم الألسنة في ذلك العصر.
مما دفع المغاربة في العصر المريني على دراسة النحو، بوصفه ركنا أساسيا من أركان اللغة العربية، وكان جل اهتمامهم ينصب على دراسته لما فيه من فائدة في الحديث والاستدلال إلى القرآن الكريم.
ومن أبرز الكتب التي لقيت رواجا في العصر المريني كتاب سيبويه، الذي كان في المرتبة الأولى من بين كتب النحو، ويذكر عن أبي عبد الله بن عبد المنعم الصنهاجي (ت 750ھ /1349م) أنه كان يحكم قراءة كتاب سيبويه أتم إحكام ويستظهر شواهده كلها ويطرح ما عداه من مصنفات فنه، بينما يأتي كتاب الجمل للزجاجي، في المرتبة الثانية فقد درسه المغاربة، وتضلعوا فيه.
ومن العلماء الذين كانت لهم اهتمامات كبيرة بعلوم اللغة محمد بن يحيى العبدري المعروف بالصدفي، كان إماما في العربية ذاكرا للغة. ومنهم أيضا إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن الحاج.
ويعتبر ابن أجروم أشهر علماء النحو في العصر المريني، وهو صاحب المقدمة المشهورة باسم الأجرومية، وقد وصفه شراح مقدمته كالمكودي والراعي وغيرهما بالإمامة في النحو. وقد استفاد منه كثير من العلماء كالسيوطي الذي عرف منه كثيرا من مسائل النحو.
- الفرع الثاني: التاريخ والجغرافية والفلك
1 -التاريخ: يعتبر المرينيون من أكثر الدول رغبة في تسجيل تاريخ دولتهم وتمجيد مآثرهم، لذلك کثرت كتب التاريخ في عهدهم، ولهذه الكتب عظيم الفضل ليس فقط في تسجيل تاريخ المرينيين بل حتى في تاريخ دول المغرب قبلهم، فأهم المراجع التي تحدثنا عن الأدارسة حتى الموحدين لم يبق منها في الغالب إلا ما كتب في أيام المرينيين، وأغلب الظن أن عناية هؤلاء بالاستكثار من الخزائن واستنساخ الكتب هو الذي حفظ كثيرا من كتب التاريخ وغيرها من الضياع.
وكانت عناية المرينيين بالتاريخ وتضلعهم فيه طريقا سلكه جلة من العلماء والمؤرخين، تمكنوا بفضل مؤلفاتهم من تزيين المكتبة العربية، لاسيما ما سجلوه عن الوقائع التاريخية في حياة المغرب الإسلامي.
والميزة التي يمكن أن نسجلها للعصر الذي نبحثه تمكن في محاولاتهم لتسجيل تاريخ المغرب منذ انتشار الإسلام، وبصورة منفصلة عن التاريخ العربي الإسلامي العام، إضافة إلى أن مؤلفاتهم لم تقتصر على الوقائع التاريخية فحسب بل اشتملت على عناصر التأثير في التاريخ وإبراز المنجزات الحضارية في تلك العصور إضافة إلى أن مؤلفاتهم كانت بمثابة وثائق اقتصادية واجتماعية وثقافية.
وقد تألق في العصر المريني عدد كبير من المؤرخين، وكتاب السير والرحلات وقد أرخ معظم هؤلاء للدولة المرينية، والبحث اعتمد على عدد كبير من أبحاث هؤلاء المؤرخين. وأخذت معظم هذه المؤلفات بالدراسة والبحث.
ومن أبرز الكتب التي ظهرت في ساحة التاريخ المغربي، واعتبرت فيما بعد أهم مصادره الأولى، هما الأنيس المطرب بروض القرطاس، والذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية.
وكذلك نجد کتاب جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس لمؤلفه الجزنائي، ومن الواجب ألا نَنْسى کتاب المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن لابن مرزوق، والذي يعد من أهم الوثائق التاريخية والحضارية عن هذه الفترة الدقيقة من حياة الدولة المرينية.
كذلك فإن العمل الذي قام به ابن خلدون العظيم (ت 808ه/1406م) يدل بوضوح على أن كتابة التاريخ الفعلي كانت تعد أمرا يعتمد على المهارة الأدبية.
ومن مؤرخي العصر المريني أيضا إسماعيل بن الأحمر، الذي أوى إلى كنف بني مرين وتضمنت مؤلفاته كروض النسرين، والنفحة النسرينية واللمحة المرينية كثيرا من أخبار بني مرين، كما عاش في العصر المريني صاحب الحلل الموشية، وابن عبد الملك المراكشي، وهو من كتاب السير والتراجم… ويضاف إلى هؤلاء المؤرخين الرحالة من أمثال العبدري صاحب الرحلة الشهيرة، وابن رشید صاحب رحلة ملء العيبة وابن بطوطة ورحلته المشهورة، التي أمر السلطان أبو عنان ابن جزي الكلبي بتدوينها وصياغتها، صياغة أدبية، كانت من أعظم ما كتب في أدب الرحلات.
2 -الجغرافية والفلك: ظهر في العصر المريني عدد من العلماء الذين اهتموا بالدراسة والبحث في علمي الجغرافيا والفلك، ومنهم على سبيل المثال ابن البناء العددي.
كان ينظر في النجوم وعلوم السنة، منشغلا بها، أخذ في الطريقتين بالحظ الوافر، يلازم الولي أبا زيد الهزميري ودخل في طريقته فأعطاه ذكرا من الأذكار ودخل بها الخلوة نحو السنة، ودعا له وقال له: «مكنك الله من علوم السماء كما مكنك من علوم الأرض، فأراه ليلة وهو متيقظ دائرة الفلك مشاهدة حتى عایَن مجرى الشمس فوجد في نفسه هَوْلاً عظيماً، فأخذ من وقته في علم الهيئة والنجوم حتى أدرك منه الغاية. وكان يستعمل الصوم والخلوة طلبا لتصفح أمر الفلك. وذكر محمد بن عبد الله الموقت المراكشي فيما يرويه عن ابن زكريا الذي قال: «وصل شيخنا ابن البناء في علم الهيئة والنجوم غاية لم يلحقها أحد من زمانه مع اتصافه بطهارة الاعتقاد، واعتبار السنة.»
فابن البناء يعد أحد أقطاب هذين العلمين، ومؤلفاته تشهد له بتفوقه في علم الجغرافيا والفلك، ونذكر منها: تنبيه الفهوم على مدار العلوم، منهاج الطالب في تعديل الكواكب، والمستطيل واليسارة في تعديل السيارة، والمناخ في رؤية الأهلة، والمناخ في تركيب الأزياج، وأحكام النجوم، ومقالة في علم الأسطرلاب، واختصار في الفلاحة.
كما اهتم المرينيون بدراسة علم الفلك لأمور متعددة منها ما يتعلق بالجانب الديني في تحديد المناسبات الدينية التي تهم المسلم في عبادته، ومنها ما يتعلق بالجانب الاقتصادي من حيث معرفة أوقات الزراعة، وزيادة على ذلك فقد اهتم البعض بدراسته من أجل معرفة وقع آثاره على الإنسان.
وقد ازدهر هذا العلم في العهد المرينيين، وكان وراء ذلك عوامل في مقدمتها اهتمام علماء الرياضيات لما له بين العلمين من ترابط حيوي، وثانيا رعاية علمائه من قبل الدولة المرينية.
والذي نستخلصه من هذه الدراسة أن علم الفلك لم يعتمد على الجانب النظري المجرد فقط، بل تمكن علماء تلك الفترة من الاستفادة منه على مستوى التطبيق العملي.
- الفرع الثالث: الرياضيات والطب وعلم الكيمياء
1 -الرياضيات: أدى توطيد المذهب المالكي بالمغرب إلى دراسة الفرائض طبقا لقواعد هذا المذهب وكان لابد من تعلم الحساب والتعمق فيه من أجل الوصول إلى حل المسائل المستعصية في الميراث، ومن ثم اشتدت عناية الطلاب بالحساب الذي قادهم إلى تعلم الهندسة وسائر متعلقاته، كما أن الحاجة إلى ضبط أوقات الصلاة وشهور السنة العربية خصوصا رمضان أدى إلى تعاطي دراسة الفلك، وهكذا ظهر علماء رياضيون وفلكيون.
ومن العلماء البارزين في علم الرياضيات عهد الدولة المرينية. محمد بن علي بن عبد الله بن محمد ابن الحاج، من مدجنى مدينة إشبيلية من العارفين بالحيل الهندسية والمهرة في نقل الأجرام ورفع الأثقال بصيرا باتخاذ الآلات الحربية الجافية، ونظرا لما يتمتع به من فهم دقيق لعلم الرياضيات، فقد أشرف على بناء دار الصناعة البحرية بسلا.
وكذلك العلامة أحمد بن عبد الله العطار المليلي، كان فقيها عارفا بالنجوم والتعديل والحساب.
وأيضا ابن البناء العددي صاحب كتاب التلخيص في علم الحساب ورفع الحجاب عليه.
إلى غير ذلك من علماء الحساب الذين برزوا في العهد المريني، وكان لهم تأثير كبير في رقي هذا العلم إلى أعلى مستوياته العلمية.
2 -الطب: اهتم بنو مرين ببناء المارستانات فاحتاجوا في ذلك إلى أطباء لعلاج المرضى وتتبع الحالة الصحية لكل نزلاء المارستانات. وكان الطب النظري موضوع عناية عدد كبير من الأدباء والفقهاء، نظرا لرعاية الدولة لهذا الجانب من العلوم التطبيقية. ولقد كانت جامعة القرويين تخصص كراسي لتدريس الطب النظري الذي ظل يحتل فيها مكانة بارزة إلى عهد قريب.
وبالطبع الطب هو من العلوم التي لقيت رواجا كبيرا، لاهتمام المرينيين بصحة المواطنين في دولتهم، ولكثرة المارستانات التي أنشئت لعلاج المرضى والمصابين في عهدهم.
ومن الأطباء الذين نبغوا في العصر المريني، نبغ أبو الحسن علي بن الشيخ الطبيب بن أبي الحسن علي العنسي المراكشي، وربما كان ولدا أو حفيدا للرياضي الكبير الحسن المراكشي الذي سبق في العصر الموحدي لأنه اختلف في اسمه: فمنهم من ذكره باسم الحسن ومنهم من ذكره باسم أبي الحسن، فيكون هو جد هذا. وله نظم من مجزئ الرجز في الأنكحة وصفاتها وما يطلب أو يتجنب فيها، والأمراض السرية وعلاجها وطبائع النساء وما يحمد أو يذم منهن، وضعه برسم خزانة السلطان أبي الحسن المريني.
والطبيب الماهر الأشهر أبو عبد الله الشريشي المعروف عند العامة بحكيم الرعاء كان رحمه الله ممن له تقدم في صناعة الطب ومعرفة بما يرجع إليها من علم وعمل، وكانت مكانته مكينة عند الأمراء والملوك مع رصانة العقل وحسن الشارة وصباحة الوجه استدعاه السلطان أبو عنان إلى حضرته فاجتمع هنالك مع جماعة من الأطباء ونظر في شكيته فاستحسنه غاية الاستحسان وأجزل عطاءه، توفي سنة 771ه.
ومن النبغاء أحمد بن شعيب الجزنائي من أهل مدينة فاس، يعرف بابن شعيب، كان من أهل المعرفة بصناعة الطب وتدقيق النظر فيه.
قال ابن خلدون: «برع في اللسان والأدب والعلوم العقلية من فلسفة وتعاليم وطب وغيرها.»
كان كاتبا لأبي الحسن المريني السلطان وطبيبه. توفي سنة: 749ه.
ومن أهم مؤلفات التي ألفت في مجال الطب، الكتاب الذي ألفه ابن الخطيب بعنوان « عمل من طب لمن حب» يعتبر هذا الكتاب، من أهم ما ألفه ابن الخطيب في ميدان الطب. وهو مجلد ضخم، يعالج في موضوعه الطب وعلاج الأمراض، إذ يتناول أمراضا متعددة، فيذكر أسباب المرض، وأعراضه، وعلاجه، والنظام الغذائي المناسب لأي مرض، كما يذكر أعضاء الجسم على اختلافها، وكيفية العناية بها، ألف ابن الخطيب كتابه هذا بينما كان مقيما بفاس سنة 761ه/1359م في عهد السلطان المريني أبي سالم إبراهيم.
ومن الطبيبات اللواتي برزن في العصر المريني عائشة ابنة الشيخ الكاتب الوجيه أبي عبد الله بن الجيار المحتسب بسبتة قرأت علم الطب على صهرها الشيخ الشهير أبي عبد الله الشريشي، ونبغت فيه أدركتها… لها تقدم بالطبع وجزالة في الكلام عارفة بالطب والعقاقير وما يرجع إلى ذلك.
وسيأتي الحديث عنهم فيما سيأتي في مجال الرعاية الصحية.
وقد استطاع الأطباء المغاربة في العصر المريني بخبرتهم الطويلة وبتجاربهم المبنية على بعض التقاليد المتوارثة أن يقاوموا أمراضا خطيرة وينجحوا في الكثير من الأحيان في التخفيف عن معانات الناس.
إن التاريخ يشهد لبني مرين باعتنائهم الخاص واهتمامهم المتزايد بهذا النوع من المعرفة والنشاط فكان اهتمامهم هذا يشمل الناحية النظرية والناحية العملية في نفس الوقت، ولذلك أصبحنا نرى في هذا العصر كثيرا من الأطباء يخصونهم بأبحاثهم ويقدمونها لهم كهدايا ثمينة کالأرجوزة التي نظمت وقدمت لأبي سعيد عثمان المريني. ومهما يكن من أمر فالنشاط الطبي كان في هذا العصر يتجلى في مظهرين اثنين: مظهر علمي نظري يتعلق بالأطباء وبإنتاجهم، ومظهر ثان يتمثل في المارستانات التابعة لها.
3 -علم الكيمياء: يعد علم الكيمياء من العلوم التي لقيت رواجا في العصر المريني، شأن المغرب في ذلك شأن الأقاليم الأخرى التي زاولته بفضل جهود علمائها ولعل السمة الغالبة على علم الكيمياء، تظهر واضحة في التطبيقات العلمية المتنوعة الاستخدام والتي أخذت مساحة واسعة من تلك الفترة، وتداولها الناس المختصين بحرفة عن طريق الخبرة العلمية والتجربة الطويلة، على أن هذا الأمر لم يكن يعني اقتصاره على هذا الجانب، بل عرف العصر بعض العلماء الذين اختصوا به، ودرسوه ووصلوا به إلى مرتبة وصفهم به دون الآخرين من أنباء عصرهم.
يقول روجيه لوتورنو: «ولعله من الممكن أن التاريخ الإسلامي والجغرافية وشيئا من الكيمياء كانت أيضا تعلم في فاس في هذه الفترة.»
وبرز المرينيون في صناعة النقود وصهر المعادن بعلم الكيمياء الذي ساعدهم وبشكل لافت في مختلف الصناعات سواء صناعة الجلود أو النقود أو المعادن من ذهب وفضة ورصاص.
وقد ذكر صاحب الدوحة المشتبكة طريقة علي بن يوسف الحكيم تخليص المعدن مما اختلط به من المواد الغريبة عنه. فقال: «فقد جعلوا للذهب والفضة غسولات مثالية، منها بالمياه الحارة ومنها بالخلول إلى ما شاكل ذلك، ولكن غسلها بعضها ببعض هو أسرع إلى طهارتها ثم بالأرواح، ثم بالحجارة، وهو الذي أردت بالأملاح. ومنها غسلها لإزالة أوساخها.
كما استخدم المرينيون الكيمياء في صناعة البارود واستعمالها في حروبهم، وحسب ما ذكر بعض المؤرخين أنهم كانوا السباقين في صناعة البارود.
وجاء في كتاب حضارة العرب. «وتثبت مخطوطات ذلك الزمن أن الأسلحة النارية شاعت بين العرب بسرعة، وأنهم استخدموها للدفاع عن مدينة الجزيرة التي هاجمها الأذفونش الحادي عشر سنة 1342م.»
وجاء في تاريخ الأذفونش الحادي عشر: «أن مغاربة المدينة كانوا يقذفون كثيرا من الصواعق على الجيش فيرمون عليه عدة قنابل كبيرة من الحديد كالتفاح الكبير، وذلك إلى مسافات بعيدة من المدينة، فيمر بعضها من فوق الجيش، ويسقط بعضها عليه.»
كما تميز العصر المريني بجملة من الصنائع تدخل فيها علم الكيمياء في مقدمتها صناعة الدباغة والأصباغ، التي تحتاج إلى خبرة دقيقة في المواد الداخلة في مراحل صناعتها وتعددت الحرف الصناعية في مدن المغرب الأقصى كصناعة الورق والزجاج وسباكة المعادن.
ومن العلماء الذين كانت لهم معرفة سجية بعلم الكيمياء أحمد بن شعيب الجزنائي الذي قيل عنه في جذوة الاقتباس « والغالب عليه العلوم الفلسفية، وتهتك في علم الكيمياء، وخلع فيه العذار.»
- الفرع الرابع: الفلسفة والمنطق
1 -الفلسفة: أما فيما يرجع للفلسفة فقد كانت أسوأ حظا وأقل انتشارا من سائر العلوم الأخرى، وأكثر تعرضا لتهجمات الفقهاء ورجال الدين بصفة عامة.
فالكثير من الفلاسفة في العصر المريني لقوا معارضة ومقت من طرف الملوك، فهذا ابن مرزوق يتحدث لنا عن الجزنائي وكيف كان مقته من طرف السلطان أبي الحسن المريني يقول: «وكان مولانا رضي الله عنه ينفر عنه، لموجب الله أعلم بحقيقته.»
وذكره ابن الخطيب أن الجزنائي ضيق عليه وعورض حين تعامل بالفلسفة، فقال: « ورمي إلى كل غرض سهما مصيبا واستمطر كل عارض وديمة، من العلوم الحديثة والقديمة فبرع في فنونها وبهر… وعانى في حركاته وانتقاله، مشقة اعتقاله، وخلص خلوص الحسام بعد مقاله وهو الآن من كتاب ملك المغرب.»
وقال عنه ابن الخطيب: « والغالب عليه العلوم الفلسفية، وقد مقت لذلك.»
والواضح من خلال ما قيل، أن الفلسفة اعتبرت في العـــصر المريني من الزندقـــة ومقت كل من يتعامل بها، باعتبارها علم خارج عن قوانين الشريعة الإسلامية. واستنادا لقول ابن الخطيب أن الاشتغال بالعلم والفلسفة، كان من أسباب المقت، فالفلسفة كانت تشكل أكبر خطر بالنسبة للفقهاء والملوك أنفسهم. وإذا كانت العلوم قد تقدمت في هذا العصر على قول الأستاذ عبد الله کنون، فإن الفلسفة لم تكن ضمن هذه العلوم التي تقدمت في هذا العصر. وإذا كان بعض الملوك يغضون الطرف ويتسامحون في بعض الأحيان، فذلك لمدة مؤقتة ولأغراض شخصية قاهرة، لا من أجل الأبحاث الفلسفية بل للانتفاع بالعلوم الأخرى التي كانت مجتمعة في شخص الفيلسوف الذي كان ملما بعلوم كثيرة منها الطب والرياضيات وغيرها.
والظاهر أن الجزنائي كان ضمن قائمة العلماء الممقوتين، ليس على ذاته وإنما باشتغاله بالجانب الفلسفي، غير أنه طاله التسامح وكان من المقربين للسلطان المريني ككاتب له، ونظرا لإتقانه لكثير من العلوم الأخرى التي لا مفر منها، وحاجة السلطة القائمة على شؤون البلاد لها، لما كان هذا الاحتضان. وعلى كل حال فقد أشار ابن خلدون بأن علم الفلسفة، كان يشكل ضررا على الدولة بكل مكوناتها، حيث يقول: «… لأن هذه العلوم عارضة في العمران، كثيرة في المدن وضررها في الدين كثير. فوجب أن يُصْدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها.»
فالفلسفة لم تكن فقط ممقوتة في المغرب فحسب، بل امتد صداها إلى بلاد الأندلس في العهد المريني، وكل من اشتغل بها وعرف بذلك سمي زنديقا، وهذا الأمر يذكره لنا المقري في كتابه يقول:»» وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم، ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنه كلما قيل «فلان يقرأ الفلسفة» أو «يشتغل بالتنجيم» أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقرباً لقلوب العامة.»»
2 -المنطق: إن الدراسات في علم المنطق وجدت رواجا أكثر من الفلسفة، لأن المشتغلين بالمنطق، لم يلقوا المعارضة، أو المقت الذي كان يلقاه المشتغلون بالفلسفة.
والملاحظ أن العلماء الذين درسوا المنطق كانوا من هؤلاء العلماء الذين استفادوا منه في دراستهم لعلوم أخرى كالفلك والرياضيات، كابن البناء العددي الذي ترك مؤلفات عديدة في المنطق منها: الكليات في المنطق وشرح عليه، والقوانين الذي وضعه ابن البناء لابن القاضي العمراني، والأصول والمقدمات.
وكذلك منهم المقري الكبير الذي كان مشاركا في الأصلين والجدل والمنطق.
ونخلص أن عهد بني مرين تمیز بمميزات خاصة، كان لها من المفعول المباشر والأثر القوي ما جعل أبناء المجتمع المغربي مع رؤسائهم يتجهون في تفكيرهم، وفي ثقافتهم وفي سلوكهم المادي والروحي، اتجاها بقي بعضه أثراً إلى اليوم. وبقيت بعض الآثار تشتمل على ازدهار الفن العمراني في عصر بني مرين وتدل على ما كان يبذله الفقهاء والعلماء والأدباء من جهد في ميدان العلم والأدب.
وبلوغ الحياة الفكرية هذا الازدهار في العهد المريني، يرجع بالأساس، إلى تنوع أماكن التعليم في البلاد، والتي لم تكن حصرا على فئة دون أخرى، بفضل الرعاية التي حظيت بها أماكن التعليم، وإغداق الأموال على العاملين بها طلابها كانوا أم أساتذة.