منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

اعتناء بني مرين بالدور الاجتماعي للمسجد (3) العمل الاجتماعي في عهد بني مرين

د. عبد اللطيف بن رحو

0

اعتناء بني مرين بالدور الاجتماعي للمسجد (3)

العمل الاجتماعي في عهد بني مرين

د. عبد اللطيف بن رحو

يمكنكم تحميل كتاب العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م) من الرابط التالي

كتاب”العمل الاجتماعي في عهد الدولة المرينية (1244 – 1465م)

المبحث الثالث: الدور الاجتماعي للمسجد في العهد المريني

إن المسلمين في عصورهم الأولى توسعوا في فهم مهمة المسجد، فتخذوه مكانا للعبادة، ومعهدا للتعليم، ودارا للقضاء، وساحته تتجمع فيها الجيوش، ومنزلا لاستقبال السفراء… والذي دعا المسلمين إلى التبكير بإنشاء المساجد هو إحساسهم بأن البيوت الخاصة تضيق باجتماعاتهم، ولا تمنحهم حرية العبادة واللقاء كما يشتهون ومن هنا -فيما يبدو- أسسوا المسجد وأطلقوا عليه بيت الله، إشارة إلى أن الداخل فيه لا يحتاج إلى استئذان.
والمسجد قام بدور تربوي هام، وكان مركزا للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. فتاريخ المغرب سجل لنا العديد من أدواره التي لم تنحصر فقط في العبادة وأداء الصلوات بل تعدى إلى الكثير من الأمور الاجتماعية خاصة في العهد المريني الذي نحن بصدده.
فبعد إقرار الحكم المريني على المغرب ازداد عدد المساجد بشكل كبير وبخاصة في عاصمتهم فاس الجديدة، وما إن توسعت الدولة المرينية حتى صارت المساجد تغطي كل أراضي المغرب الأقصى.

المطلب الأول: دور المسجد في الحياة العلمية

كان التعليم في المساجد يقوم على تعليم أمور الدين وتذكير الناس بالآخرة، وكان التعليم في هذه الأمور يعتمد على أسلوب القصة ممتزجا بالعلوم والحكمة والموعظة، كما كانت تدرس أيضا العلوم الدينية من قرآن وتفسير وحديث.
ويتضح من بعض النوازل والفتاوى الفقهية أن المرحلة الأولى من التعليم في المغرب هي التي يتلقى فيها الصبي العلم على أحد المؤدبين، وتبدأ تلك المرحلة عندما يبلغ الصبي سن التمييز فيها يبن الخامسة والسادسة من عمره. وكان المؤدب يعلم الصبيان في تلك المرحلة الأولى القراءة والكتابة وحفظ أجزاء من القرآن وتجويده… حيث جرى العمل بالكتاتيب على اجتماع الصبية لتلاوة آيات القرآن بصوت واحد على وجه التعليم، علاوة على الإلمام ببعض علم اللغة والنحو والفقه.
كان المسجد من أهم مراكز العلم بالمغرب الإسلامي، حيث كان يموج بالفقراء والعلماء والطلاب وكان الشيوخ يجلسون عند أحد الأعمدة ويتحلق الطلاب حولهم ثم يتولى هؤلاء الشيوخ تدريس العلوم الدينية والشرعية والنحو واللغة… غير أن الونشريسي يشير إلى تدهور الحالة العلمية في بلده المغرب في أواخر عصر دولة بني مرين، فيذكر أنه كثر آنذاك ادعاء الجهال للعلم وانتصابهم للفتوى والإلقاء والتدريس.
ويتضح من نازلة ذكرها الونشريسي في كتابه حين سئل عن تعليم الصبيان في المسجد فأنكر ذلك عليهم، لأن الصبية لا يحترزون من النجاسات. ولذلك طالب المؤدبين بالخروج بصبيانهم من المسجد إلى بقاع يصلح فيها التكسب دون الاضرار بالمسلمين.
يقول الونشريسي: « لم يجعل الله المساجد ليتكسب فيها الأرزاق، والذي سألت عنه ووصفته، الواجب على أهل تلك البلدة أن يمنعوا مساجدهم من مثل هذا، وآباء الصبيان في حرج من هذا… فليخرجوا من المساجد إلى بقاع يصلح فيها التكسب، ولا يضروا بالمسلمين.»
فيفهم من كلام الونشريسي أن الفقهاء عارضوا تعلم الصبية في المسجد لأنهم يرون أن الصبية لا يحترزون من النجاسات، كما أن المسجد لا يصلح فيه التكسب. ولعل هذا الأمر الذي دفع بالدولة المرينية لإنشاء الكتاتيب لتعليم الصبية، وسيأتي الحديث عنها.
فالمسجد قام بدور مؤسساتي في البداية يتعلم فيه الصبية مبادئ الدين وحفظ القرآن الكريم.
والمسجد إذن لم يكن مجرد قاعة تؤدى فيها العبادات والصلوات، ولكن اتسم دوره بإغناء العلم والمعرفة لهذا كانت تلقى الدروس التي ترشد الناس لما فيه الصواب والفلاح. لذلك خصصت السلطة القائمة على شؤون العباد الكراسي العلمية لتقوم بمهمة التعليم بين أفراد المجتمع ولمن يرغب في إثراء رصيده المعرفي، وكانت مقسمة إلى عامة وخاصة.
والعامة كانت مخصصة بالتعليم الشعبي التي تتماشى مع نمط فكرهم المتواضع، يقول الحسن الوزان: «يشاهد المرء كراسي مختلفة الأشكال يدرس عليها العديد من العلماء الأساتذة، حيث يلقون على الشعب دروسا تتعلق بأمور دينه وشريعته. تبدأ هذه الدروس بعد صلاة الفجر بقليل، وتنتهي بعد ساعة من شروق الشمس.»
أما دروس الخاصة فكانت تقدم لخاصة العلم والمهتمين به والطلبة المتضلعين في العلوم. يقول الحسن الوزان: «أما الدروس الأخرى فلا تسند إلا إلى رجال متضلعين من هذه المواد، يتقاضون عن دروسهم أجورا عالية حسنة وتقدم لهم الكتب والإنارة.»
وكان للمسجد دور في تعليم الأميين الذين لا يُجيدون القراءة والكتابة. يقول إبراهيم حركات: «وللمسجد مبرات من الأوقاف إحداهما لتعليم الأميين والأخرى لإرواء الظامئين.»
كما أن السلاطين كانت تعقد مجالس العلم في المسجد خصوصا بعد صلاة الصبح، ويحضر لتلك الدروس الفقهاء ونجباء الطلاب فيقرأ بين يديه تفسير القرآن العظيم وحديث المصطفى ﷺ، وفروع مذهب مالك رحمه الله، وكتب المتصوفة، وفي كل علم منها له القدح المعلى.
يقول أبو عيسى الوزاني: « وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم وبثه، والجلوس لذلك في المساجد.»
وعلى العموم كانت معظم دروس الفقه والكلام تعطى في المسجد، والمستمعون على هيئة حلقة بين يدي المدرس.

المطلب الثاني: انطلاق سفر السلطان من المسجد

من عادة السلطان أن يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح مباشرة، يقول القلقشندي: « فإذا صلى الصبح ركب الناس على قبائلهم في منازلهم المعلومة، ووقفوا في طريق السلطان صفاً إلى صف، ولكل قبيلة رجل علم معروف به ومكان في الترتيب لا يتعداه، فإذا صلى السلطان الصبح قعد أمام الناس، ودارت عليه عبيده ووُصْفَانُهُ ونقباؤه، ويجلس ناس حوله يعرفون بالطلبة يجري عليهم ديوانه، يقرؤون حزبا من القرآن الكريم، ويذكرون شيئا من الحديث النبوي، على قائله أفضل الصلاة والسلام، فإذا أسفر الصبح ركب وتقدم أمامه العلم الأبيض المعروف بالعلم المنصور.»

المطلب الثالث: المسجد مأوى الغرباء والمسافرين

كان المسجد في العهد النبوي ولا يزال مأوى الغرباء والزوار والشاردين ولعل هذا المنوال كان حتى في زمن المرينيين، فالمسافر أو الفقير العدم الذي لا يجد مأوى كان يلجأ إلى الجامع أو المسجد ليبيت هناك ويقضي ليلته. وهذا أمر معهود ومعروف قديما. يقول لوتورنو: «وكان أشد المسافرين فقرا يجد مأوى في جامع أو في حمى ولي.»
ولمزيد من إيضاح للدور الاجتماعي للمسجد في باب المأوى، نلفت النظر أن تدوينات كبار الرحالة المغاربة أمثال ابن جبير والعبدري وابن بطوطة كانوا إذا نزلوا بلدا لا يعرفون فيه أحدا اتجهوا إلى المسجد وهناك يلقون الغرباء أمثالهم لأن أسعار الفنادق قد تكون أغلى وأعلى مما في جيوبهم فيضطرون إلى قضاء لياليهم داخل المسجد. ويحكي العبدري، وكان شيخا شديد الحياء مرهف الحس، أنه ما نزل بلدا إلا قصد إلى الجامع رأسا، وهناك يتعرف على الشيوخ وطلبة العلم فيجد فيهم الصاحب والأهل.

المطلب الرابع: إقامة عقد الزواج داخل المسجد

يظهر جليا دور المسجد من خلال اسهامه في الأعمال الاجتماعية خصوصا قضايا الزواج. ففيما مضى كان الزواج يعقد داخل أسوار المسجد، يجتمع والدي العريسين ويتفقان على إبرام عقد الزواج. فبعد انتهاء مدة الخطوبة يتم عقد القران في أحد الجوامع أو المساجد على يد القاضي أو صاحب الأنكحة، فيشير الونشريسي إلى عقد قران إحدى الزيجات في جامع مدينة تازة، أما المواضع البعيدة عن الحاضرة كالقرى والحصون فكان إمام المسجد هو الذي يتولى عقد القران دون إذن القاضي لبعد المسافة بينهما.
وهذا ما يؤكده لوتورنو حين تحدث عن قضية الزواج وعقد القِران. يقول: «فمشروع الزواج، الذي كان قد أحيط أمره، يعلن عنه متى اجتمع الأبوان في المسجد، وأشهدا الله على نيتهما، وتم عقد الزواج.»

المطلب الخامس: الاحتفال بالمولد النبوي في المسجد

ذكر صاحب الأنيس المطرب أن السلطان يوسف بن يعقوب عني بتعظيم عيد المولد النبوي، قال: «وفيه أمر أمير المسلمين يوسف بعمل المولد وتعظيمه والاحتفال له في جميع بلاده، وذلك في شهر ربيع الأول المبارك من السنة المذكورة 691ه/1292م.»
وسار سلاطين بني مرين بعد ذلك على هذه السنة من الاحتفال بالمولد النبوي، ففي عهد السلطان أبي الحسن، كان الناس يستعدون لهذه المناسبة بأنواع الطعام والحلويات، والطيب والبخور، وإظهار الزينة والتأنق فيها.
ويصف لنا ابن مرزوق أجواء الاحتفال بعيد المولد النبوي خصوصا في زمن السلطان أبي الحسن فيقول: «فحضرت ليلة المولد، فلم يصل أهل البلاد قاطبة على جري العادة فإنه حيث كان، يصل الشرفاء والقضاة والفقهاء والخطباء من أهل البلاد لشهودها، ومن العادة أن يستعد لهذا بأنواع المطاعم والحلويات وأنواع الطيب والبخور، وإظهار الزينة والتأنق في إبداء المجالس. فإذا صلينا المغرب، ركع (يقصد السلطان أبا الحسن) ركعات ثم قصد مجلسه الحافل، فيستدعي حينئذ الناس على ترتيبهم، ويأمر بأخذهم المجالس على طبقاتهم على أحسن وأجمل شارة، فإذا فرغ الترتيب وأخذ الناس مجالسهم، دعي بالطعام فاشتغل به على ترتيب ونظام… فإذا قضي الطعام أحضر من الفواكه الحاضرة في الوقت ما يوجد في إبانه، ثم يؤتى باليابس بعدها، ثم يؤتى بالكعك والحلاوات، ثم يؤتى بملاح السكر، وربما اختلفت العوائد في التوالي مرة وفي الفترة الأخرى… وتارة يقع الإطعام بعد العشاء الآخر، فإذا استوت المجالس وانقضى اللغط، ولا تكاد تسمع صوتا إلا همسا قام قارئ العشر فقرأ، ثم تقدم زعيم المسمعين ليشرع في قصائد المدح والتهاني.»
وبعد ذلك يتلو المقرئون القرآن الكريم، وينشد المنشدون القصائد والمدائح النبوية فتطير بها قلوب الناس فرحا، وفي نهاية الحفل يوزع البخور والشمع على الفقراء والمسافرين، وفي نهاية الاحتفالات، يجلس الكتاب لتوزيع العطاء بهذه المناسبة على الشرفاء، وكبار الفقهاء والأئمة والخطباء والفضلاء.
كما كانت تواكب هذه الاحتفالات الرسمية احتفالات أخرى شعبية، حيث تقام الأفراح وتستنير المدن بالأضواء، ويتجمل الناس وتزين المدن. وصار يوم الثاني عشر من ربيع الأول يوم دخول الصبيان بفاس للكتاتيب القرآنية، ومناسبة لختان الأطفال.
فحسب ما تبين من المصادر التاريخية، أن الاحتفالات بعيد المولد النبوي كانت تقام بالمساجد بين العشاءين، وقد تستمر إلى غاية صلاة الصبح. بعدما يأكل الناس الطعام في المسجد وهذا ما يظهر لنا قيم التآزر والتكافل الاجتماعي السائد في تلك الحقبة التاريخية.

المطلب السادس: المسجد دار للقضاء وحلف اليمين

عرف المسجد في العهد المريني بحله للنزاعات والمخاصمات بين الأفراد فكان القضاة يجلسون للإنصات لشكوى الناس ثم البث والفصل فيها، فاتخذوا المسجد دارا للقضاء ليأخذ كل فرد من أبناء الوطن حقه العادل.
وكان المسجد إضافة إلى وظيفته الأساسية، مقرا للفصل في القضايا وحلف اليمين ويذكر الونشريسي
أنه كان يتم حلف اليمين في الجوامع والمساجد على من أنكر حق الآخر.
ويسرد ابن مرزوق كيف كان السلطان أبو الحسن تعرض عليه القضايا فيجلس بعد صلاة الجمعة لينظر فيها، فيقول: «كان رضي الله عنه إذا صلى الجمعة غالبا جلس، فتعرض عليه القضايا وترفع له الشكايات، فيقضي فيها قضاءه. وربما يجلس يوم الإثنين والخميس هذا، وهو في كل يوم لا بد له أن تعرض عليه أنواعا وترفع له على اختلافها.»
ويحدثنا ابن مرزوق عن قصة الرجل الذي حلف في مسجد الحطابين ليثبت حقه في ماله. يقول ابن مرزوق: « فسجد مولانا أمير المسلمين رحمه الله وقال: الحمد لله الذي رأيت في رعيتي من يعرف بهذا القدر من المال ولا يتقي، اذهب، فإن كان قال ما قال هؤلاء حقا، فبارك الله لك فيه، وإن كان كذبا، فأحرى وفاء الكاذب بالخزي، فأشار بعض الحاضرين إلى أن يحلف، فإن المال طائل، فقال لي حلفه في مسجد الحطابين. ثم قال: لا والله أمضي راشدا ومهما تكن لك من حاجة فارفعها إلينا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.