منطلقات في طلب العلم النافع
د. محماد رفيع
نشر بمجلة منار الهدى العدد 3 ربيع 2003م/1424ه، صفحات من 10 إلى 15
تمهيد
إن الحديث عن العلم وطلبه، تأصيلا وتجديدا في هذه اللحظة الحرجة من لحظات تاريخ أمتنا الإسلامية، حديث عن مقوم محوري من مقومات هذه الأمة.
ولعل العناية بطلبتنا وتلامذتنا وإعدادهم لطلب العلم الجامع المدخل الصحيح لبناء الأمة البناء العملي المنشود، خصوصا في هذه الآونة التي يعيشون حياة الحيرة واليأس وعدم الاكتراث نتيجة انسداد الأفق التعليمي، وانحطاط الوضع الاجتماعي، واتساع الفراغ التربوي.
فكيف نرشد مسيرة طلبتنا العلمية؟ وكيف نضبط حياتهم الدراسية؟ ونبني شخصيتهم الإيمانية المعرفية حتى نصنع منهم أجيال القوة والبناء؟
فيما يلي محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات على هذا النحو:
المحور الأول: منطلقات أولية في ترشيد مسيرة الطالب الدراسية
وهي جملة من القضايا التي أراها أساسات ومقدمات لازمة تفيد التلميذ والطالب في ترشيد وتوجيه حياتهما الدراسية ومنها:
أولوية تصحيح مفهوم العلم المطلوب
لا شك أن تصحيح وتحديد مضامين المصطلحات بدقة من القضايا العلمية الهامة التي ينبغي أن تستأثر باهتمام الجميع، وخصوصا الفاعلين التربويين وذلك حتى نأمن على أنفسنا وطلبتنا حالة الخلط والزلل وسوء الفهم التي تحصل بسبب مفاهيم مغلوطة درج عليها الناس.
ولعل مفهوم العلم الذي نوجه التلميذ ونرشد الطالب إلى تعلمه من المفاهيم التي ينبغي أن تصحح في وعي التلميذ. فمهوم العلم الصحيح يترسخ في وعي طالب العلم ويسعى لتحقيقه بجد في حياته العلمية هو العلم بالله وبآياته، ويستوي في ذلك آيات الله المسطورة وآيات الله المنظورة، ويدخل في ذلك كل علم يقرب من الله عز وجل أو يعين عليه من علوم شرعية وإنسانية وكونية.
وهذا هو العلم الذي بوأه الله عز وجل الدرجة الرفيعة في القرآن وأكدته السنة وشهد به السلف الصالح. فقد قال الله عز وجل في شأن أهل العلم: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)[1].
قال ابن عباس: “للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبع مائة درجة ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام”[2].
وقال عز من قائل: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)[3] وهي إشارة إلى أن ثمرة العلم الكبرى خشية الله عز وجل وقال سبحانه أيضا: (ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)[4] فأَلْحَق سبحانه هنا رتبة أهل العلم برتبة النبوة في تبيان حكم الله تعالى.
وجاءت نصوص السنة متواطئة على معنى شرف العلم وأهله نذكر منها: قوله صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”[5]، فالخير كل الخير في الفقه في الدين، والفقه في الدين لا يتم إلا باجتماع العلم مع العمل.
وقال عليه الصلاة والسلام: “العلماء ورثة الأنبياء”[6] قال الغزالي معلقا على الحديث: “ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوة ولا شرف فوق الوراثة لتلك الرتبة”[7]. وقال أيضا: “يستغفر للعالم ما في السماوات والأرض”[8].
ومن جهة الآثار فقد روي عن علي كرم الله وجهه قوله: “العلم خير من المال فالعلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق”[9].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “تذاكر العلم بعض ليلة أحب إليَّ من إحيائها”[10].
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم المكانة العالية لطالب العلم في أحاديث كثيرة نذكر منها: “من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة”[11].
وقوله عليه الصلاة والسلام: “إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع”[12].
تلكم هي الرتبة السامية في شرع الله لمفهوم العلم الحق الذي ينبغي أن يتربى عليه التلميذ طالب العلم، وأن نربط به طموحه ونشد عليه همته حتى يقبل على الطلب إقبال المجد المشمر.
الأفق التعليمي لطالب العلم
من القضايا الملحة التي ينبغي أن نشد إليها اهتمامات التلميذ وهمته أن يطلب معالي الأمور وألا يرضى بالقليل من أمور العلم بعد توعيته وتربيته على أنه مشروع استثماري لأمته ولمجتمعه ينتظران منه نتائج تفي بحاجاتهما المستقبلية وتتناسب معها، وأم حاجات هذه الأمة المستقبلية والآنية إعادة بنائها بناء إيمانيا علميا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا على منهاج نبيها، ووفق المتطورات المتلاحقة محليا وعالميا.
لذلك فمن غير المقبول تماما أن تكون مسيرة التلميذ والطالب الدراسية في غير اتجاه الاستجابة والإعداد لتلك القضايا الكبرى ولن يكون الأمر كذلك إلا إذا كانت الجدية والمثابرة وعدم التكوين من منتصف الطريق … هي السمات المميزة لتلامذتنا.
كما يجب أن نرفع همة الطالب والتلميذ أولا وأخيرا ووسطا ليسعى في تعلمه ودراسته إلى طلب وجه الله وما أعده سبحانه للعلماء من الدرجات العلا والشرف العظيم في الدنيا والآخرة، بدل أن يربط تعلمه بقضايا ظرفية صغيرة كمجرد الحصول على الوظيفة أم تصدر المجالس والتعالم على الناس وغيرها من الأمور التي غالبا ما تفت في العضد وتفسد النية، وتقف به في وسط الطريق.
ونخلص إلى أن المطلوب من التلميذ طالب العلم، من أجل ضمان مصيره الفردي عند الله عز وجل ومصير أمته في التاريخ أن يسعى لبناء شخصيته بناء علميا متوازنا بحيث يتكامل فيه الجانب التربوي الإيماني والجانب العلمي الثقافي الفكري، والجانب الدعوي الاجتماعي، ولن يتم ذلك إلا بتحقيق المواصفات التالية: الإيمان-الحرية- القوة-الصلاح-الإصلاح-الفاعلية-العلم-القدوة.
لكن هذا الأفق التعليمي السامي الذي نتحدث عنه، وتلك الغايات الكبرى، يثيران التساؤل عن مدى إمكانية تحقيق ذلك؟
ضرورة الوعي الإيجابي بالتحديات
لا ندعي أن ما ندعو إليه التلميذ ونشد إليه همته يمكن تحقيقه في جو من الهدوء خال من المنغصات، بل إنما يجب على التلميذ أن يعي جيدا أن مشواره الدراسي نحو الأفق التعليمي الذي نتحدث عنه، يتم وسط تحديات وظروف قاسية مثبطة ومعاكسة، لكن من عرف ما قصد هان عليه ما وجد، ويمكن إجمال هذه التحديات المعاكسة للتلميذ في مشواره العلمي فيما يلي:
- تحدي النظام التربوي التعليمي الذي يؤطر التلميذ:
فهو نظام غير منبثق من أصالة الأمة وخصوصيتها، وليس مبنيا على متطلبات المجتمع وحاجاته المستقبلية، ولذلك فهو عاجز تماما كما أثبتت التجربة خلال العقود الأربعة الماضية عن إعداد المتعلم وقيادته نحو أفق تعليمي من مستوى ما ذكرنا ولذلك فالحديث عن منظومتنا التربوية التعليمية حديث عن الفشل، الارتجالية، التبذير، التغريب، تدخل الأجنبي …
- تحدي المحيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي:
فهو محيط معاكس يعج بالتناقضات (الأمية، الفقر، الطبقية، الانحلال الخلقي، البطالة، الظلم، الاستبداد …)
ونحن نعلم أن التعليم لكي يكون منتجا لابد أن يكون المحيط منتجا.
- التحدي الخارجي المتمثل أساسا في الغزو الثقافي والفكري المبرمج إعلاميا بأرقى ما وصلت إليه التكنولوجيا المعلوماتية.
وهو الذي يمارس على ناشئتنا وشبابنا وكل أفراد أمتنا الامتساخ الحضاري، فيمهد بذلك الطريق أما خطر العولمة الهاجم الذي يستهدف القضاء على خصوصيات الأمم والشعوب الثقافية واستنزاف ما تبقى من ثرواتها بعد الإطاحة باقتصادياتها الهشة إلى غير ذلك من التحديات. فالوعي بحجم هذه التحديات عند التلميذ بعد وعيه بالأفق التعليمي الذي ندب إليه ضرورة لازمة ليكون هذا التلميذ على بينة وعلم من أنه غير مخير في أن يقتحم غمار هذه اللجة من التحديات ويكابد ويصابر ويجاهد حتى لا ينجرف وينساق مع التيار الجارف فيضيع في نفسه وتؤتى الأمة من قبله.
وليس هذا ضربا من المحال ولا سبحا في الخيال لمن أخلص الوجهة لله ووطد نفسه على المجاهدة والمصابرة متوكلا على الله عز وجل القائل في محكم التنزيل (والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا)[13] وقال كذلك (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)[14].
المحور الثاني: ضوابط خلقية وتربوية في حياة التلميذ العلمية
لا شك أن إعداد التلميذ واستعداده لذلك الأفق الكبير ولمواجهة هذا التحدي الخطير دونه يحتاج إلى ضبط حياة التلميذ الدراسية بضوابط خلقية تربوية تعينه على السير الصحيح وتقيه الزلل وسوء العاقبة نذكر منها ما يلي:
- ملازمة التقوى في السر والعلن فهي المدخل الصحيح لتعلم العلم النافع قال الله عز وجل: (واتقوا والله ويعلمكم الله)[15].
وتبدأ التقوى بتطهير القلب محل العلم من الرذائل والدنايا وذلك بالمداومة على التوبة والاستغفار وصحبة الأخيار وتجنب الأشرار، لأن العلم عبادة القلب كما يقول الغزالي[16] فكيف تصح هذه العبادة بلا طهارة؟ طهارة القلب من أمراضه وتلك هي البداية الصحيحة لنهاية مشرقة في رحاب العلم النافع وإلا فالمعاصي ونجاسة القلب بأمراضه حاجز بين المرء والعلم الحقيقي الذي هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده.
قال بان مسعود رضي الله عنه: “ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم نور يقذف في القلب”[17]، ويقول الإمام الشافعي مؤكدا المعاني السابقة من ارتباط العلم بالتقوى:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور
ونور الله لا يهدى لعاصي[18]
ويقول الإمام الغزالي: “فمن أوائل العلم الحقيقي أن يظهر لصاحبه أن سموم قاتلة مهلكة، وهل رأيت من يتناول سما مع علمه بكونه سما قاتلا”[19].
- ملازمة التواضع للعلم وللأستاذ المعلم وعدم التكبر وذلك بالاستماع إلى الأستاذ والتأدب معه والإذعان لنصيحته والاستعداد لخدمته وعلى التلميذ أن يوطئ نفسه ليقابل الأستاذ أحيانا بالعفو فذلك خلق سلفنا مع شيوخهم قال الشعبي: صلى زيد بن ثابت على جنازة فقربت إليه بغلته ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه، فقال زيد: خل عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء، فقبل زيد بن ثابت يده وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم[20].
فالاستماع إلى الأستاذ المعلم وقبول رأيه وشكره والتودد إليه وعدم معارضته بغير علم بين آداب عالية ما ينبغي لطالب العلم التساهل فيها، وإن كان لابد من الاعتراض فعلى سبيل الاستفسار والسؤال بعد الإذن وبحكمة، فتجربة الأستاذ ومعلوماته لا يمكن القفز عليها، ولعل قصة موسى والخضر عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام درس لنا في هذا المقام[21].
- أن يحرص الطالب على أن يكون قصده في الحال تزكية نفسه وتحليه باطنه بفضائل العلم وخدمة مجتمعه وأمته وفي المآل القرب من الله والترقي إلى جوار الملأ الأعلى من الملائكة المقربين وألا يقصد الرئاسة واحتلال المناصب.
- عدم الاشتغال عن العلم بغيره إلا لضرورة، فـ(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)[22]، وقد قيل: “العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضا على خطر”[23]، فما ينبغي للتلميذ وهو في مقتبل العمر ومرحلة التحصيل أن يشغل نفسه بغير هم العلم والتحصيل.
وليدع عنه سفاسف الأمور وهموم المعاش، “فالفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه، فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزدرع”[24].
فمسألة التفرغ للعلم مبدأ هام يجب أن تتعاون أطراف العملية التربوية التعليمية من آباء ومؤسسات المجتمع والتلاميذ أنفسهم على تحقيقه للتلميذ، خصوصا حين نصحح نظرتنا إلى التلميذ فنتعامل معه على أنه مشروع استثماري ادخاري للمجتمع.
- احترام مبدأ التدرج في التعلم وعدم الخوض في دقائق الأمور وغوامضها، قبل التمكن من المبادئ والأصول، فالعلوم بعضها طريق إلى بعض وهي مرتبة ترتيبا ضروريا والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج[25].
فالواجب على طالب العلم التمييز في دراسته للعلوم بين ما هو ضروري يقتضي التعجيل، وما هو ثانوي يقتضي التأجيل، فالتعلم بصغار العلم قبل كباره مبدأ تربوي بيداغوجي لا يمكن تجاوزه.
الفضول العلمي:
ونقصد به أن يكون التلميذ متلهفا ومتشوقا إلى المعرفة فلا يتوانى في البحث عنها والمشاركة في إنتاجها، فيبذل قصارى جهده في تكوين مكتبة متنوعة في بيته بدل الحرص الزائد على اقتناء أغلى الملابس وأفخرها، والألعاب التافهة وغيرها.
كما يجب أن يحرص على زيادة النوادي العلمية والمنتديات الثقافية والشخصيات العلمية والفكرية، وحضور المحاضرات والندوات، والمبادرة في إلقاء عروض وكتابة مقالات. فبذلك تتكون شخصية التلميذ العلمية وتنمو موهبته وتصقل مهاراته ويتسع محيطه العلمي وتزداد معارفه.
مبدأ تدبير الوقت:
الوقت أغلى ما يملك الإنسان وهو مسؤول عن مجالات صرفه عند الله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه …”[26]، ولا يقابل تدبير الوقت إلا تبذيره الذي يعد سلوكا شيطانيا في عرف الشرع لقوله عز وجل: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين)[27] والتلميذ طالب العلم أولى الناس بإدراك قيمة الوقت ليحسن تدبيره ببرمجة أوقات يومه، فلا وقت لديه يصرفه في المسامرات الفارغة والمهاترات العابثة، فالأمة تنتظر منه الكثير، فتوفقه في مسيرته الدراسية مرهون بنسبة كبيرة بحسن تدبيره لوقته.
تلكم أهم الضوابط التوجيهية التي أراها ضرورية في ترشيد طلبتنا وتلامذتنا الدراسية أرجو الله أن أكون موفقا في ذلك وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
[1] ـ سورة المجادلة من الآية 11
[2] ـ إحياء علوم الدين للغزالي 1/15
[3] ـ سورة فاطر من الآية 28
[4] ـ سورة النساء من الآية 83
[5] ـ الحديث متفق عليه
[6] ـ أبو الداود والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من حديث أبي الدرداء
[7] ـ الإحياء 2/16
[8] ـ من حديث أبي الدرداء السابق.
[9] ـ الإحياء 1/18
[10] ـ نفسه.
[11] ـ مسلم عن أبي هريرة.
[12] ـ أحمد وصححه ابن حبان من حديث صفوان ابن عسال.
[13] ـ سورة العنكبوت من الآية 69
[14] ـ سورة الروم من الآية 47
[15] ـ سورة البقرة من الآية 282
[16] ـ انظر الإحياء 1/61
[17] ـ المصدر السابق.
[18] ـ ديوان الشافعي ص: 76.
[19] ـ الإحياء 1/62.
[20] ـ الإحياء 1/63
[21] ـ أنظر سورة الكهف
[22] ـ سورة الأحزاب من الآية 4.
[23] ـ الإحياء 1/63
[24] ـ الإحياء 1/63
[25] ـ الإحياء 1/66
[26] ـ الترمذي في كتاب صفة القيامة، والرقائق والورع عن رسول الله وكذا الدارسي في المقدمة.
[27] ـ الإسراء من الآية 27