لن تصدق أن خمسة عشر درهما غيرت حياتي، وجعلتني شخصا آخر..
وقعت الواقعة قبل أربعين سنة..
انتقلت للعيش مع أخي الأكبر بعد وفاة والدي وعمري سبع سنين، كنت قبل ذلك أقيم عنده من أجل إيناس وحدة زوجته، التي كانت تخشى البقاء بمفردها في البيت، بعدما يغادره زوجها إلى العمل..
ثم أصبحتْ أمي الثانيةَ حين استضافتني على الدوام..
فِطام ثانٍ عشته على كِبَرٍ، فارقتُ أمي بالدموع والحسرة والغضب، لم أسْتَسِغ أن أَتَيَتَّمَ مرتين في عام واحد، لم يقبل أخوالي أن ترجِع أمي إليهم بأبنائها، فتَحَمَّلَ أخونا الأكبرُ عِبْءَ العائلةِ كلها..
دامت الأحزان ثلاث عشرة سنة، ولن تسَعَ هذه القصةُ القصيرة كلَّ مُجرياتها، قد تخرُج الروايةُ كلها، وقد لا تخرج، هي الآنَ مسودة في إحدى كراساتي، كلَّما اطلعت عليها أجدها عاجزةً عن نقل سواد تلك الأيام الطويلة، ولعل العبارات أصابها ما أصابني من شقاء فارتخَت وكسَلت، أو لعل الكلماتِ خشيت أن يصيبها بعض ما أصابني فتوارت واختفت..
الضوء الوحيد الذي كان ينير تلك الساعاتِ الحالكة هو طيبة أخي وحنان أمي، نعم أناديها أمي لدرجةِ أن أمي التي ولدتني تغار منها، لدرجةِ أن أخوالي يُنكرون عليَّ وقد اشتعل رأسي شيبا، وقد احتضنتُ أختَهم بعدما تغير حالي..
وكان اجتهادي في الدراسة يُقربني إلى أخي أكثرَ فأكثرَ، ويزيدني حُظوةً على باقي العائلة..
كنا نعيش في بيت صغير بعددِ فريق كرة القدم، وأجرة أخي لا تكادُ تكفي لسد حاجاتنا الضرورية جدا للعيش..
فاز ثلاثة من خريجي ثانويتي بمِنحة دراسية، تؤهلهم لاستئناف دراستهم بأوربا، وكنت أولهم..
كنا رائدي الثانوية، وكنا ثلاثة أصدقاء، وكما كنا نجتمع للدراسة في الأقسام، كنا نلتقي للقنص والرياضة والمرح..
شرعتُ في إعداد ملفِّ المنحة، ولم يكن الأمر بالسهولة التي تتصورها أخي القارئ، خاصة لمن كان ينتمي “للبْرولِيتَاريا” كما أصبح يسمِّينا صديقنا الثالث بعدما رجع من أوربا..
ويكفي أن تعلم أنني سرت على قدميَّ في عز الصيف، مع صيام شهر رمضان، ست عشرة ساعة دون توقف، انطلقت في الليل على الساعة الواحدة ليلا، لأصل إلى وجهتي على الساعة الرابعة بعد زوال اليوم الموالي، وكنت أنتعل مَشَّايَةً مِن البلاستيك، وقد عاشت رجلي مراحل متعددة من التطور، بدأ بالانتفاخ، ثم التدمل، ثم السيلان، ثم الألم الشديد، ثم زوال الشعور بالقدم..
كل هذه الرحلة لأستخلص وثيقة إدارية..
نجح صديقاي في إرسال الملف، ثم في السفر إلى عالمهم الجديد، وفشلت لسبب لا يُصَدَّقُ..
لم أستطع أن أشتريَ قَسيمة الإرسال، وقيمتها خمسة عشر درهما، لا يملكها أيُّ فرد من العائلة، ولا الجيران ولا الأقارب ولا المعارف، قصدنا كل هؤلاء ولم نفلح في توفير هذا المبلغِ الزهيد جدا كما نراه اليوم..
تحسرت كثيرا على حظي..
كان السفر إلى أوربا يشغل كل صلاتي كل دعائي، كان التراتيل التي ترددها أنفاسي، ثم تعثر حظي..
لم يكن الفقر والحاجة يسمحان لأمثالي بالبكاء على الأطلال، أو للضلال في متاهات الاكتئاب، طويت الصفحة..
ليست هناك اختيارات كثيرة، كيف لمن لم يستطع أن يوفر بعض الدراهم أن يتوجه إلى الجامعة..
تم قبولي في مدرسة الأساتذة، وهكذا تحررت رقبتي وبعض أفراد عائلتي من قيد الفاقة والحاجة..
كانت الحسرة تعاودني مرارا حتى رجع أحد أصدقائي، رجع على غير الوجه الذي ذهب به، ولعل التعبير المناسب، أنه رجع بغير العقل الذي ذهب به، فقد ترك بعضه، وتسلطت عليه نوبات الجنون، وهام على وجهه، ولم أستطع أن أعرف سبب ذلك..
أما صديقي الآخر كانت مصيبتي فيه أكبر، لقد خسر قلبه، وباع روحه للشيطان..
أما أنا فأستغفر الله من تلك الدعوات، وأعوذ بالله من تلك الصلوات، التي نجَّاني اللهُ الكريم من بلائها، وعصمني من المصائب بِرَدِّها، وأحمده جل وعلا على ما تكرَّم عليَّ من بركاتٍ بدونها..
وصدق من قال: “لو اطلعتم على الغيب لوجدتم ما فعل ربكم خيرا”..
في انتظار الرواية الكاملة، أسألكم صالح الدعوات..
بارك الله فيكم
تتحفنا دائما، كما عودتنا، بأسلوبك وتأسرنا بتشويقك. بارك الله فيه. هلا جربت القصص التاريخية…
“لو اطلعتم على الغيب لوجدتم ما فعل ربكم خيرا”..خير ما ختمت به هذه القصة الرائعة استمتعت بقراءتها و ذكرتني بشئ مثله مررت به و الحمد لله رب العالمين علة كل حال بارك اللخ فيكم سيدي عبد المجيد ووفقكم الله للمزيد من الابداعات القصصية والمعرفية الرائعة.