(4) عبوديته صلى الله عليه وسلم لربه سر عظمته| فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة البقرة.
(4) عبوديته صلى الله عليه وسلم لربه سر عظمته / يعقوب زروق
(4) عبوديته صلى الله عليه وسلم لربه سر عظمته
فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة البقرة
يعقوب زروق
قال سبحانه في سورة البقرة: ﴿وإن كنتم فی ریب مّمّا نزّلنا على عبدنا فأتوا۟ بسورةࣲ مّن مّثله﴾ [البقرة: 23-24]
في هذه الآية ثلاث مسائل، هي فضائل خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هي أم الفضائل:
أ – أن الله خصه صلى الله عليه وسلم بأعظم كتاب، وأفضل كلام، وأتم إعجاز.
تحدى الله الناس أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا. فأيده الله بما أعجز الإنس والجن مجتمعين متظاهرين. وظلت هذه المعجزة قائمة على مر السنين. تتحدى الناس منذ نزولها إلى يوم الدين. بل إن الزمان لم يزد حجتها إلا ظهورا، وحكمها وأحكامها إلا رسوخا، ودلائلها إلا يقينا. وهو ما لم يعطه نبي قبله.
ب- أن الله شرفه بإضافته إلى نفسه ( عبدنا):
فهو صلى الله عليه وسلم عبد لله عز وجل. اختصه الله بالعبودية له دون غيره. قال أبو حيان في التفسير: « وفي إضافة العبد إليه تعالى تنبيهٌ على عظيم قدره واختصاصه بخالص العبوديّة، ورفع محلّه وإضافته إلى نفسه تعالى»[1]. وجاء في تفسير أبي السعود: « وفي ذكره ﷺ بعنوان العبوديّة؛ مع الإضافة إلى ضمير الجلالة؛ من التّشريف؛ والتّنويه؛ والتّنبيه على اختصاصه به – عزّ وجلّ – وانقياده لأوامره (تعالى) ما لا يخفى؛ وقرئ: “على عبادنا”؛ والمراد هو ﷺ؛ وأمّته؛ أو جميع الأنبياء عليهم السّلام »[2].
جـ – أن الله وصفه بالعبودية المطلقة له سبحانه.
ومنزلة العبودية هي أعلى منزلة يبلغها مخلوق. إذ أنها تذلل لله خاص، وتبرؤ بين يديه من كل ما عداه. فلا النفس ولا الهوى يأمران، ولا المال والمتاع يغريان، ولا الخلائق كلها تلفت العيان.
قال الشوكاني: «والعبد مأخوذٌ من التّعبّد وهو التّذلّل»[3].
وهذا أعظم وصف وأسمى نعت وصف الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فهو عبد ليلة أسرى به ﴿سبۡحـٰن ٱلّذیۤ أسۡرىٰ بعبۡده﴾ [الإسراء 1] وهو عبد حين عرج به إلى أعلى مقام ﴿ فكان قاب قوۡسیۡن أوۡ أدۡنىٰ ٩ فأوۡحىٰۤ إلىٰ عبۡدهۦ ماۤ أوۡحىٰ﴾ [النجم 9/10] وهو عبد حين خصه بالقرآن ﴿وإن كنتم فی ریب مّمّا نزّلنا على عبدنا فأتوا۟ بسورةࣲ مّن مّثله﴾ [البقرة: 23-24]
قال السعدي: «وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم، دليل على أن أعظم أوصافه ﷺ، قيامه بالعبودية، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين»[4].
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم حريصا في كل أحواله على أن يعيش العبودية الخالصة لله تعالى. ففي الجهاد حين يشتد القتال ويولي الناس الأدبار يقول: «إني عبد الله ورسوله». عن أنس بن مالك ، قال : «لمّا كان يوم حنين، وجمعت هوازن وغطفان للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم جمعا كثيرا، والنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذ في عشرة آلاف أو أكثر من عشرة آلاف، قال: … فلمّا التقوا ولّى النّاس، قال : والنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذ على بغلة بيضاء. قال: فنزل. وقال : ” إنّي عبد اللّه ورسوله »[5].
وحين يتحقق ما أخبر به غيبا يقول: «إني عبد الله ورسوله». عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : «شهدنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال لرجل ممّن يدّعي الإسلام : ” هذا من أهل النّار “. فلمّا حضر القتال قاتل الرّجل قتالا شديدا، فأصابته جراحةٌ، فقيل : يا رسول اللّه، الّذي قلت له : إنّه من أهل النّار فإنّه قد قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : ” إلى النّار “. قال : فكاد بعض النّاس أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل : إنّه لم يمت، ولكنّ به جراحا شديدا، فلمّا كان من اللّيل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه. فأخبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك فقال : ” اللّه أكبر، أشهد أنّي عبد اللّه ورسوله »[6].
وحين يأكل ويجلس يظهر العبودية لله: « إنما آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد»[7].
وحين ينصح يتواضع ويوصي بأن يقال عنه عبد الله ورسوله: عن ابن عبّاس ، سمع عمر رضي اللّه عنه يقول على المنبر : سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « لا تطروني كما أطرت النّصارى ابن مريم، فإنّما أنا عبده، فقولوا : عبد اللّه ورسوله »[8].
وحين يخير يختار العبودية المطلقة ويخاف عليه وليه من الملائكة فينصحه بها: عن أبي هريرة ، قال : جلس جبريل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فنظر إلى السّماء، فإذا ملكٌ ينزل، فقال جبريل : إنّ هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل السّاعة. فلمّا نزل قال : يا محمّد، أرسلني إليك ربّك. قال : أفملكا نبيّا يجعلك، أو عبدا رسولا ؟ قال جبريل : تواضع لربّك يا محمّد. قال : « بل عبدا رسولا »[9].
فاللهم صل وسلم على عبدك وحبيبك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلينا معهم إلى يوم الدين.
[1] – البحر المحيط لأبي حيان — أبو حيان.
[2] – تفسير أبي السعود — أبو السعود.
[3] فتح القدير للشوكاني — الشوكاني.
[4] – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان- السعدي
[5] – مسند أحمد – مُسْنَدُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. 13976
[6] – صحيح البخاري – كِتَابُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ – بَابٌ : إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ. 3062
[7] – شعب الإيمان – البيهقي
[8] – صحيح البخاري – كِتَابٌ : أَحَادِيثُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. – بَابُ قَوْلِ اللَّهِ : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ. 3445
[9] – مسند أحمد – مُسْنَدُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. 7160