جميعا من أجل خلاص أخلاقي عالمي
د. فؤاد هراجة
كاتب وباحث في الفلسفة والأخلاق
عضو مكتب المركز الدولي للقيم الإنسانية والتعاون الحضاري ـ لندن
يعيش العالم اليوم ترديا أخلاقيا مقلقا يؤشر على استبدال المجتمعات الذي هو أدنى بالذي هو خير في سُلَّم القيم، ما جعل كل مجالات الحياة تكتوي وتتأثر بهذا التدني الخطير والمطرد؛
– فعلى المستوى الاجتماعي والسياسي، نسجل تصاعد اليمين المتطرف في معظم دول العالم، وهو تيار شعبوي يحمل مشروعا مجتمعيا عنصريا يحارب كل قيم التسامح والقبول بالآخر والمساواة في الكرامة الآدمية، بالتالي كلما ارتفعت دعوات هذا التيار ترتفع معها ظاهرة العنف والتمييز العنصري المقيت، فيصبح المواطنون بقيمه المختلة درجات يقاسون بألوانهم وأعراقهم ولغاتهم…، ما ينتج عنه الفُرقة والكراهية وهدم جسور التعارف والتواصل والمؤاخاة والتعاون والتكامل بين سائر أبناء الوطن وأبناء المعمور.
– أما على المستوى الاقتصادي، فإن الفوارق الطبقية تزداد هوتها، ونسبة الفقر في تزايد مستمر مقابل غنى فاحش في دائرة لا تتعدى 10٪ من سكان العالم، ويكفي هنا أن نُذَكِّر بآخر تقارير منظمة أوكسفام التي تتحدث عن عدد الأشخاص الذين يموتون جوعا في الدقيقة الواحدة عبر العالم، في الوقت الذي تنفق فيه أموال طائلة على آخر صرخات الموضا، وتُلقى فيه الوجبات في النفايات، وتُخَزَّن فيه الأغدية أو يتم إتلافها لرفع أسعار السوق… . إننا في ظل هذا الزحف الخانق لقيم السوق، أصبحنا حقا أمام وضع غير إنساني اضمحلت فيه الأخلاق الحميدة، وانتفت القيم افرفيعة، ولم تعد فيه للإنسان أي قيمة تذكر، بل إن هذا الإنسان استحال في ظل قيم السوق إلى آلة للإنتاج والاستهلاك لا غير، وانحجبت كل أبعاده الأخرى!
– أما على المستوى الثقافي والتربوي والإعلامي، فهناك تبرم من الفطرة، وجنوح للشذوذ في كل الممارسات، ومرد ذلك إلى القوانين التي طغت في الميزان، وأعلت من شأن الفرد على الجماعة، وقلصت من دور الأسرة وعطلت وظيفتها التربوية، ومنحت أعضاءها حرية الاختيار في أمور لا تقتصر عواقبها على الفرد بل تطال المجتمع كله، وبذلك تربى الأطفال على أن الجنس مجرد وهم اجتماعي، وأن من حقهم المطالبة بتغيير جنسهم والعيش ضدا عن طبيعتهم. كلها عوامل ساهمت في القبول بكل أشكال الشذوذ الجنسي واعتبار الأسرة مؤسسة تقليدية متجاوزة، ما ينذر بانهيار مؤسسة الأسرة من جهة، ويهدد الموروثات الثقافية والأخلاقية والتربوية التي كانت تنتقل عبر الأسر من جيل لآخر.
– أما على المستوى البيئي، فإن السياسات الرأسمالية الفاحشة التي أصابها عمى الأرباح، فهي لا تنظر إلى عواقب استنزاف الطبيعة من خلال الاستغلال الفاحش لمواردها، وما تخلفه صناعاتها من نفايات ضارة بالإنسان وبالأرض حالا ومستقبلا.
إن شيوع الحرية غير المسؤولة، وتفشي ثقافة الاستهلاك غير المحدود، وانتشار العصبيات العرقية، في الدول المتقدمة، يقابله في الدول المتخلفة شيوع القمع والظلم، وتفشي الفقر، وتزايد الهجرة…، ما يستدعي ضرورة مواجهة هذا التردي الأخلاقي والقيمية، والعمل على غلق ثقوب سفينة العالم قبل أن تغرق بالجميع.
في هذا السياق، ومن باب الشعور بالمسؤولية والقيام بالواجب، تأتي جهود #المركز_الدولي_للقيم_الإنسانية_والتعاون_الحضاري من أجل التحسيس بخطورة الوضع الحالي، والارتقاء بمستوى الوعي الفردي والجماعي لترسيخ الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة المشتركة بين كل الشعوب والأمم، ثم تعزيزها والتحذير من خطورة الانسلاخ منها.
وتحقيقا للأهداف المشار إليها، وسعيا لبث روح التعاون الإيجابي، وحفاظا على تماسك الأسرة والمجتمع، يمد المركز الدولي للقيم الإنسانية والتعاون الحضاري كل الجسور لتشبيك مجهودات الهيئات والمؤسسات والأفراد الرامية من جهة إلى تعزيز ثقافة التسامح والرفق والتآزر والفضيلة، والطامحة من جهة أخرى إلى التعاون وتبادل الخبرات والمشاورات فيما يخدم حاضر ومستقبل الأخلاق والقيم في العالم.
لقد خاض المركز البريطاني تجربة موسومة ب #سفراء_المكارم في دورتها الأولى التي حملت شعار “من أجل عالم إنساني متراحم”(دورة ريان)، والتي مكنته من تفعيل جيد لآليات التعاون في المجال الأخلاقي والقيمي، حيث شارك في هذا الملتقى علماء وفنانون ومفكرون ومثقفون وخبراء ومدربون وشباب من مختلف الجنسيات والدول، تُوِّجَ بمنح المشاركين في فعاليات الدورة وسام “سفراء مكارم”.
وتعزيزا لهذا النجاح المعتبر، وإيمانا منه بجسامة المسؤولية، ويقينا منه في ضرورة العمل الإنساني الجماعي، يدشن المركز الدولي للقيم الإنسانية والتعاون الحضاري دورة سفراء المكارم الثانية، دورة #فطرة في الفترة الممتدة من 5 إلى 20 ماي 2023 في موضوع: “الأسرة وبناء مجتمع القيم الإنسانية”، وبهذه المناسبة يهيب المعهد بكل الهيئات والمنظمات والمؤسسات والشخصيات ذات الاهتمام المشترك الانخراط والمشاركة في هذا الورش خدمة للإنسانية وتطويرا للخبرات، فكما أن تخريب القيم وهدمها
لا يتم إلا عبر مخططات وتنفيذ جماعي ممنهج، فلا يمكن مواجهة هذا الإفساد إلا بتكتل النوايا الحسنة، وتكثيف الجهود، وتوحيد الوجهة.
في الأخير، نؤكد أن أملنا في فضلاء العالم لا حدود له، ويقيننا في مستقبل واعد للإنسانية لا ريب فيه، وأنه لا مناص من التواصل والتعاون والتكامل بين كل الشعوب والثقافات والحضارات لإنقاذ سفينة البشرية التي تتلاطمها أمواج كالجبال من الفساد الأخلاقي، حتى يقضي الله هذا الأمر وتستوي على جودي الفضيلة ومكارم الأخلاق.