البيان القرآني في فهم الأحداث والظواهر الكونية
بقلم: صلاح الدين المساوي
مقدمة:
لمّا كنت أحفظ القرآن الكريم وبلغت إلى قوله تعالى”قل آرايتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله ياتيكم به أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون”. وقفت كثيرا عندها أتدبر معناها و أغوص في عمقها الإيماني الذي يجعلك تستسلم بكل سلاسة لأمر الله تعالى، وتحسب نفسك فقيرا هينا لا تملك صغيرة ولا كبيرة، مهما فعلت و حرصت وبالغت في الحرص الشديد، فأنت عبد فقير لا تستطيع أن تملك حتى حواسك التي تنسبها إليك وتعدها من آلياتك المحكمة في السمع والخطاب والنظر. ومما زادني إستسلاما مع الشعور بكامل السعادة بقدرة الله الباهرة والرضا بفعله المطلق و حكمته البالغة، لمّا جاءني رجل يحدثني عن حادث عظيم مرّ به، و رآى فيه عجائب قدرة الله الخارقة، مما جعله يخضع لحكم الله في جميع أحواله دون قلق ولا نزاع، إنه حادث أخذ البصر دون مقدمات: نام الرجل بالليل بصيرا وفي الصباح قام ضريرا، ذهب إلى الطبيب وبعد إجراء كل الفحوصات الطبية أخبره بأنه في صحة جيدة ولا أثر لسبب المرض…زاده غرابة وعجبا !!!و ظل يطوف حول الأطباء طمعا في العلاج، لكن دون جدوى!! ولمّا يئس الجميع من برئه
جاءه الفرج الرباني فارتدّ بصيرا …سبحانه سبحانه!
1-من الذي خلق الكون ومن يحكمه؟
في زمن استحواذ الماديات و(تحكمها في الخلق ) طوعا أو كرها، لا نملك سوى العودة إلى كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لنستريح من التعب والضنك الذي أعيى الفلاسفة أنفسهم “من خلق الكون” ؟؟
• “قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
• أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
• أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ
• أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ
• أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
• أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”
بعد هذا البيان الرباني لا يملك العقل السليم سوى ان يخضع ويسجد لمن يأخذ الكون وما فيه بقبضة واحدة “والأرض جميعا قبضته يوم القيامة” “والسماوات مطويات بيمينه”!!!
2- الحكمة الإلهية من الظواهر الكونية:
يضرب زلزال المغرب، ويضرب من قبله زلزال سوريا وتركيا، فيتركنا في حيرة من أمرنا، وتجتاحنا مشاعر متضاربة، وأفكار مزعجة ونحن نُطالع الأخبار ونشاهد مشاهد الإنقاذ والجُثث تحت الأنقاض، لماذا حدث هذا؟ هل يستحقّون ما جرى لهم؟ هل فعلوا شيئًا يستوجب هذا الدمار؟ هل هي عقوبة إلهية أم ابتلاء أم مُجرّد حدث كوني عابر؟.
تُتيح كلّ أزمة وكلّ ظاهرة كَونية استثنائية، مثل انفجار بركان ما، أو حدوث إعصار، أو انتشار فَيرُوس خطير، سلسلة من النقاشات على المستوى الإيمانيّ الدينيّ، وخاصة إذا ما كانت هذه الأحداث ترتبط بتَبِعات تمسُّ الوجودَ البشريّ بالحياةِ أو المَوتِ أو المعاناة. وبمعنى آخر، حينما يُذعر الإنسان لأمر جَلَل وحَدَث خطير وكارثة ضخمة، كأن يرى الدماء تتطاير أو الجثث تتناثر أو الضحايا تتساقط؛ تُثار أسئلته الوجودية.
إنّها الكوارث والمعاناة البشرية ذاتها التي تتفجّر منها أسئلتنا في وضعنا المعاصر من نوع: لماذا لا يتدخّل الله في سوريا لإنقاذ الأبرياء؟ أو أين الله عمّا يجري في غزّة لنصر المسلمين؟ ولماذا سقطت رافعة الحرم المكيّ وقتلت المُصلّين الأبرياء؟ بماذا أخطؤوا؟ وهل هذا الفيروس عقوبة لنا على أفعالنا الماضية؟ وهل الحياة ستكون أكثر سهولة على أولئك الطيّبين والصالحين من النّاس؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات وجب علينا أن نتشرب معاني القرآن فهما وممارسة وننظر في سيرة الأنبياء و من سار على نهجهم، ليسهل علينا فهم بعض الحكم الالهية.
إنّ الأحداث الكونية تحمل حِكَما إلهية كثيرة يصعب تفسيرها على ظاهرها، ففي حادثة الإفك والتي يظنّ المرء للوهلة الأولى عند قراءتها أنّها مصيبة وشرّ ما بعده شرّ، يأتي القرآن ليقول: “إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ”(10). والقصد أنّ الأحداث الكونية لا تكون بالطريقة التي نفهمها بها فحسب، فما يبدو خيرا قد يحوي الشرّ، وما يبدو شرّا قد يحوي الخير، ولهذا فإنّ العطاء والنِعَم قد تكون في كثير من الأحيان شكلا من أشكال الامتحان، وبعض العطايا شرّ؛ لأنّها تُعينك على الفساد.
وعند هذا نقول:
ليس كل ما يقع للمسلمين هو عقاب بل قد يكون إصطفاء لنيل الشهادة قال تعالى “هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ.”
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة يوما فقال ما تعدون الشهيد فيكم؟
“ما تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، قالَ: إنَّ شُهَداءَ أُمَّتي إذنْ لَقَلِيلٌ، قالوا: فمَن هُمْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في الطَّاعُونِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في البَطْنِ فَهو شَهِيدٌ. قالَ ابنُ مِقْسَمٍ: أشْهَدُ علَى أبِيكَ في هذا الحَديثِ أنَّه قالَ: والْغَرِيقُ شَهِيدٌ. وفي روايةٍ: قالَ عُبَيْدُ اللهِ بنُ مِقْسَمٍ: أشْهَدُ علَى أخِيكَ أنَّه زادَ في هذا الحَديثِ: ومَن غَرِقَ فَهو شَهِيدٌ” رواه مسلم. وفي رواية للبخاري ذكر فيها”صاحب الهدم”.
3-الدروس المستفادة من الأحداث:
- الرجوع إلى الله والتوبة إليه:
كل ما يقع للعباد من أحداث باهرة مزلزلة ويشيب لها الولدان ، هي أولا وقبل كل شيئ رسالة ربانية للدلالة عليه، وآية كونية لتخويف العباد للرجوع إليه، قال سبحانه ” وما نرسل بالآيات إلا تخويفا”.“وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ”
- التضامن والتعاون على الخير:
بعد الصدمة التي تعتري الإنسان عند الحوادث لا يقف عندها مشدوها مبهورا بما حصل بل يعمل كل ما بوسعه لمساعدة الآخرين من بني جنسه ،فيحقق بذلك الإيخاء والسلام والرحمة بين العباد وهذا ما تنشده الإنسانية جمعاء، فيحصل والحمد لله -كما نرى في زلزال المغرب اليوم- كل معاني التكافل والتفاني في خدمة الخلق.
وهذا المثال الرائع الذي الذي ضربه الشعب المغربي للعالمين يجعلنا نستحضر نموذج من الجيل الفريد كيف عاش
في الإيثار والمؤاساةو التضامن والتآخي:
جاء في حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني، وأنا منهم.
وهذه بشرى رسول الله لمن يخدم عباد الله.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ: ” أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تَطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلِأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبَهُ أَمْنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ ، أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ ” .
فاللهم ارحم الشهداء وارض عنهم، واشمل الجرحى والمكلومين بالشفاء العاجل والتخفيف من آلالامهم.