منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

معجزة الإسراء والمعراج بين طَرْد اليأس واطِّراد الرجاء|سلسلة خطبة الجمعة

الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي

0

معجزة الإسراء والمعراج بين طَرْد اليأس واطِّراد الرجاء|سلسلة خطبة الجمعة

للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي

الحمد لله الذي أكرم المصطفىﷺ بمعجزة الإسراء، فأرسله هاديا حين زاغت الأبصار وضلت الآراء، فأزال بنوره عن العقيدة الشك والمراء، وأشهد أن لا إله إلا الله المستحق لكل مدح وإطراء، المنعم علينا بنعم فاقت الإحصاء والاستقراء، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي حارب كل ضلال وافتراء، فجاء بأحكام تدرأ الضراء، وتجلب لها السراء، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين كانوا في نشر الإسلام خير سفراء…

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.

ها نحن في أوائل شهر رجب، وهو من الشهور الحرم الأربعة، قد حمل إلينا في طياته ذكريات عظيمة، من السيرة النبوية العطرة؛ ففيه وقعت معجزة الإسراء والمعراج، وفيه أيضا وقعت غزوة تبوك.

فتعالوا بنا اليوم (في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح) نرفع الستار عن معجزة الإسراء والمعراج، التي وقعت في شهر رجب على الراجح، من السنة العاشرة بعد البعثة، الثالثة قبل الهجرة؛ هذه المعجزة الكبرى التي خرقت كل النواميس المعهودة، وعطلت كل القوانين المعروفة في العادة، حين أسرى الله بعبدهﷺ في رحلة أرضية مباركة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به في رحلة سماوية فضائية مباركة إلى فوق سبع سماوات، ثم إلى قاب قوسين أو أدنى، وهناك رأى من آيات ربه الكبرى…

أيها الاخوة المؤمنون؛ حينما نستدعي هنا عملية الإصلاح إذن هناك فساد يجب إصلاحه، وهذا الفساد يتمثل في معضلة اليأس والقنوط، وذلك أن المسلم الغيور على دينه حينما يلقي نظرة فاحصة على أحوال الأمة المسلمة في هذا العصر؛ فيراها تعاني ومعاناتها لا تنتهي، فإنه سيشعر باليأس والقنوط، واليأس داء عضال أتى على جروح القلوب فأنكاها، وعلى حيرة العقول فأذكاها، وعلى قرة العيون فأبكاها…؛ فما تكاد فتنة في الأمة تهدأ في مكان حتى يشتعل أوار فتنة الأخرى في مكان آخر، الأخوة الإسلامية لا تتجاوز حناجرنا، أفكارنا في النقاش متضاربة، وقلوبنا في الحوار متنافرة، ونفوسنا في اللقاءات متوترة، وعقولنا بالحق وبالباطل ثائرة…

نعم؛ ما أكثر الحاقدين على الإسلام من أعدائه، وما أكثر الجاهلين بالإسلام من أدعيائه، فمنذ أن ظهر الإسلام على وجه الأرض، وأعداؤه يتربصون به الدوائر، ومعركتهم ضده دائرة في كل زمان ومكان، منذ أن ظهر الإسلام على وجه الأرض، وأعداؤه متفقون في الظاهر والباطن، على محاربة المسلمين حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أن الحق بجانب خاتم الأنبياء وأتباعه؛ فحين لم يستطيعوا إحراق شريعة الإسلام في القلوب قاموا بإحراق القرآن في الشوارع، وليس من الغريب أن يحرق الكافر القرآن؛ ولكن من الغريب غير المقبول أن يهجر المسلمون القرآن؛ فما ذا حضرنا في مذكرة الجواب حين يرفع الرسولﷺ قضيه هجران القرآن ضدنا يوم القيامة؟ {وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِي ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ ‌مَهۡجُورٗا}؛ فلو كتب الله للإسلام أن ينتهي لانتهى بسبب ما وقع ضد المسلمين اليوم من جرائم الإبادة، وحروب البدء والإعادة؛ ولكن الواقع يكشف لنا أنه كلما تعنت الظالمون في ظلمهم، وكلما تفنن المعتدون في جرائمهم زاد الإسلام في العالم، وأقبل الناس عليه بالاعتناق، وانقادت له القلوب بالاقتناع، وواجه الناس غيره من الديانات بالاقتلاع.
إذن رغم كل ذلك لا داعي لليأس والقنوط؛ فكل تلك المعاناة بالإيمان الراسخ وبالصبر الجميل تكون كسحابة صيف؛ ولكن بالقنوط واليأس البائس تكون كضربة سيف؛ والله تعالى يقول: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}. ويقول سبحانه: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ}، ويقول عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله}.

وها هي معجزة الإسراء والمعراج وسيلة لطَرْد اليأس والقنوط، وسيلة لاطِّراد الرجاء والأمل؛ فاليأس بسببها مطرود من قلب النبيﷺ، كما كان الرجاء بسببها قاعدة لا زمة مُطَّردة في قلب النبيﷺ؛ لأنها بمنزلة المرحلة الانتقالية من المحنة إلى المنحة، من داعية اليأس إلى عودة الرجاء، بمنزلة العبور من العسر إلى اليسر، ومن الشدة إلى الفرج، ومن الامتحان والابتلاء إلى بوادر الفوز والنجاح؛ لقد كان الرسولﷺ ومعه أصحابه قبل الإسراء يعانون من أنواع الاضطهادات، وأشكال التنكيل، فكل الاعتداءات التي يمارسها اليوم أعداء الإسلام ضد المسلمين، هي بعينها قد مارسها الكفار ضد النبيﷺ وأصحابه؛ من معركة التشهير، إلى معركة التنفير، ومن معركة التمويه، إلى معركة التشويه، ومن معركة الكيد الخفي، إلى معركة العدوان الجلي، ومن معركة الحصار الاقتصاد الجائر، إلى معركة العدوان الظاهر، فالرسولﷺ ينادى عندهم بالمجنون، وبالسحر والشعر والكذب مفتون، والصحابة عند هم محطة اللمز والغمز والتنابز؛ بل استعملوا ضدهم حرب التنكيل والتعذيب وسفك الدماء، خصوصا ضد المستضعفين من المؤمنين الذين لا عصبة لهم تحميهم ولا قبيلة تدافع عنهم؛ فمن هؤلاء المعذبين في الله عمار بن ياسر، وبلال بن رباح، ومصعب بن عمير، وعثمان بن عفان، وخباب بن الأرث؛ ولم يقتصر الأمر على جانب الرجال فحسب، بل شاركت المرأة بجانب الرجل في تحمل مخاض ولادة الإسلام مند أول وهلة؛ بل سجلت المرأة في تاريخ الإسلام أرقاما سبقت بها الرجال؛ فأول من آمن بالنبيﷺ كان امرأة وهي زوجته أمنا خديجة، وأول شهيد في الإسلام كان امرأة وهي سمية أم عمار رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين؛ ولم يكن الرسولﷺ بمعزل عن هذا الإيذاء، فقد أوذي وضرب وناله السب والشتم، وكان أبو جهل من ألذ أعدائه يمنعه من الصلاة في المسجد الحرام، ولم يكتفوا بذلك، بل ضربوا على الرسولﷺ وأصحابه، حصارا اقتصاديا ثلاث سنوات، حتى أكلوا أوراق الشجر وتغدوا بالجلود اليابسة، ثم بعد هذه المعاناة جاء ذلك العام الذي سمي “عام الحزن”، حيث توفيت زوجته خديجة وعمه أبو طالب، فكانﷺ هدفا سهلا لاعتداءات المشركين، حتى هاجرﷺ إلى الطائف، عله يجد عند أهلها قلوبا واعية، وآذانا مصغية، ولكنهﷺ رجع من الطائف بمأساة سافلة أكبر من أختها السالفة، حيث طرده أهلها ورموه بالأحجار حتى سالت قدماه الشريفتان بالدماء؛ وفي هذا الخضم من المعاناة والابتلاءات والمحن، جلس النبيﷺ يدعو بذلك الدعاء الأسيف، المعروف بدعاء الطائف:
«اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين؛ إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي؛ غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبُك، أو يحل علي سخطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.

الحمد لله رب العالمين…

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ على الفور بعد هذا الدعاء جاءت الإجابة في صورة الإسراء والمعراج، فكانت إيذانا باليسر والفرج، فمسحت عن قلب النبيﷺ متاعب الاضطهاد، ومعاناة التنكيل، وتعلن فيها العناية الربانية، أن الله تعالى في قدرته أن ينصر الإسلام على الكفر في لمح البصر، وكيف لا وهو سبحانه الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم قطع به السماوات الطباق حتى كان قاب قوسين أو أدنى دون أن يمنعه قلة الزمان ولا طول المكان، وبعد الإسراء مباشرة بدأ إسلام الأنصار في المدينة، وبدأ الإسلام ينتشر خارج مكة، فكانت الإسراء بذلك بمثابة العبور من المحنة إلى المنحة، وبمثابة نقطة البداية في انتشار الإسلام.

ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.