المرائي والصور في معجزة الإسراء والمعراج
المرائي والصور في معجزة الإسراء والمعراج/ الدكتور عبد اللطيف بن رحو
المرائي والصور في معجزة الإسراء والمعراج
الدكتور عبد اللطيف بن رحو
جامعة محمد الأول
وجدة
إن منهاج الرسل دائما أنهم يأتون من الله سبحانه وتعالى خالق الإنسان بقانون صيانة ذلك الإنسان، لأننا جميعا مقتنعون بأن صانع الصنعة هو الذي يقرر قانون صيانتها، وإن صانع التليفزيون هو الذي يقرر قانون صيانته، وكيفية استعماله وتشغيله، إذا فكل مصنوع صنعته من البشر هو الذي يضع قانون صيانة المصنوع الذي صنعه، وحيث إنه لم يدعى أنه خلق الإنسان. إذاً فالإنسان صنعة لله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى هو الذي يحدد قانون صيانة ذلك الإنسان، لأن الله لا يخلق خلقه، وبعد ذلك يتدخل الخلق ليضعوا قانون الصيانة له، هذه حالة كحالة أن أذهب أنا بالتليفزيون إلى الجزار لكي يصلحه لي، لا فالذي يضع قانون صيانة الشيء هو الذي خلق.
قال عز وجل: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اَ۬للَّطِيفُ اُ۬لْخَبِيرُۖ﴾ [سورة الملك الآية:14]، والذي يدلك على ذلك تشريع من تشريعات البشر إن أحسن الظن برغبتهم في الخير، ورغبتهم في الإصلاح، عرضة لأن يتغير ويتبدل، وأن يذهب ويجيء غيره، ولا يبقى قانون من قوانين الوضع البشرى إلا ببقاء السوط الذي يحميه، فإذا ذهب السوط الذي يحميه انحل القانون أن كل بطبيعته، فكأن وراء كل قانون بشرى قوة للذين يقننون: تحميه، وحين تذهب هذه القوة، يضمحل وأحب أن أقول للذين يقننون: إن القوانين البشرية تقنن للنفس الإنسانية، فماذا عرفتم في أنتم تعرفون زاوية. ولكنكم ليست بطنا تجهلون زوايا، ما هي النفس الإنسانية؟ هي ليست بطنا ومعدة فقط، وهي ليست عقلا يعي ويفهم فقط، وهي ليست وجدانا فقط، إنها ملكات متعددة، وأنتم إلى الآن لا تعرفون عدد هذه الملكات، فكيف تقننون لشيء لا تعرفونه.
إذا إن المقننين يعرفون شيئا فيقتتون له، ويتركون الملكات الأخرى النفسية جائعة، وهنا ماذا يحدث للإنسان المشتمل على كل هذه الملكات؟ وفيه ملكة شبعة، وملكات جائعة، لا بد أن يحصل التمزق والقلق النفسي له، والدليل على ذلك مثلا: الجماعة الذين يعتبرون النظام الاقتصادي هو كل شيء في الدنيا كالسويد، التي هي بالإحصائيات أرقى دولة في مستوى المعيشة، فالفرد فيها مرفه رفاهية عالية جدا، ومع ذلك ففي هذه الدولة الراقية أعلى نسبة انتحار بين شبابها، علاوة على أمراضهم العصبية والجنونية الخ… وهذا دليل على أنه ليست المعدة هي كل شيء، ولا الماديات هي كل شيء، فهناك ملكات جائعات في هذه النفوس، وإلا فما الذي يدعو الإنسان إلى الانتحار وترك الحياة؟ والسبب أن لديه قلقا، وهو بحد ذاته لا يعرف مصدره ولا يعرف طريقا لعلاجه، لأن فيه ملكات نفسية جهلها البشر (۱)، فلم يقننوا لها، وإن قننوا لها فتقنين جاهل بها لم يخلقها.
إذا فالذي يخلق الشيء هو الذى يقنن له، وعلى ذلك فالله سبحانه وتعالى هو الذى خلق الخلق وهو الذى خلق النفس البشرية، وهو الذي يقنن لها، وقد جاء الرسل لتنظيم حركة الحياة في ذلك الإنسان، وبقانون صيانته، وما دامت هذه هي مهمة الرسل – عليهم الصلوات والسلام – وهم بدورهم سيتعرضون لقوانين اقتصادية وسياسية وعملية واجتماعية وخلقية، وسيتعرضون لأشياء كثيرة منها القوانين التعبدية، وفى القانون التعبدي الذى يقول فيه الله سبحانه وتعالى، تقرب إلى بكذا، وليس للعقل مجال فيه، لأن الله سبحانه وتعالى يقول لك، تقرب إلى بأن تصلى خمس صلوات بشكل مخصوص، ولكن في القوانين الأخرى التي تتعلق بنظام المجتمع، سياسة أو اجتماعاً أو غيره، فناقشها ما شئت بعقلك، وقارنها بأي قانون اقتصادي في العالم، وستجد أن القوانين التي وضعها الإسلام لزوايا الحياة الاجتماعية هي المتفوقة وهي ذات السبق، ففي كل التعديات لا مجال للعقل ويجب التقرب لله سبحانه وتعالى أما ما عدا التعبديات فناقشها بعقلك، وقارنها بأرقى المستويات وستجد السبق والتمييز لها، مع الشمول والاستيعاب، والدليل على ذلك أن الأشياء التي كان أعداء الإسلام يأخذونها على الإسلام حينما كانوا يعدلون قوانينهم، كان القانون بعد تعديله يلتقى مع وجهة نظر الإسلام إذا كان القانون سليما، فمثلا كانوا ثائرين على الإسلام في مسألة الطلاق، وبعد ذلك انتهوا في إيطاليا وفى بعض الدول الأخرى إلى أن الحل السليم والوحيد لمشكلات أسرية مستعصية هو ( إباحة الطلاق )، وذلك لأنهم وجدوا شرور عدم الطلاق أكثر، ولذلك فهم حكماء يرتقون، أو يستنيرون، أو تعذبهم هذه الحياة بواقعها، يعودون بشكل مباشر إلى قانون الإسلام، ومثلا، إن أمريكا نعرف أنها صرفت ولا زالت من أجل محاولة تحريم أو تخفيف شرب الخمور ملايين الدولارات، والإسلام جاء من أول خطواته فحرمها، وتعدد الزوجات الذى جعلوه عيبا من عيوب الإسلام، هم الآن يبحثون في ضمه لقوانينهم لأنه يعتبر أفضل من النظام الموجود لديهم، والقوانين الاقتصادية أيضا، إذا نظرت إليها، ووجدتها ترقى، فستجدها في رقيها تلتقى مع نظرية الإسلام، فالإسلام جاء من أقصر طريق، لماذا ؟ لأنه تقنين من يعلم، من خلق، وهو تقنين خالق الإنسان، وهو الذي أرسل ذلك التنظيم. حين يأتي الله سبحانه وتعالى بالتنظيم، نجد فيه أشياء نسميها نحن في الوسائل التربوية الآن وسائل إيضاح، ووسائل الإيضاح هذه، تنقل الكلام النظري إلى كلام عملي، ومعنى وسائل الإيضاح أنها أمر مادي، عملي، يرينا صدق القضية النظرية، فإذا قلت الحرارة تمدد الأجسام، فلكي نثبت ذلك لابد أن نوضحه بشكل عملي.
مثاله: نأتي بحلقة معدنية ونمرر بها الكرة، وسنجد أن الكرة تمر من الحلقة بسهولة، ولكن لو سخنت الكرة، وحاولنا بعد ذلك إدخالها في الحلقة المعدنية، لن تدخل، لماذا؟ لأن حجم الكرة قد تمدد بالحرارة، هذه هي وسيلة إيضاح قد بينت لنا هذه المسألة النظرية والدين يأتي بتشريعات…
فالرسول ﷺ رأى في هذه المرائي أشياء، وهذه الأشياء تعطى له واقع الأوامر المنهجية التي أتى بها التكليف، فأول شيء يعرضه لنا، مسألة الفطرة، وتغير الفطرة، وقد عرض على رسول الله ﷺ كأس من اللبن، وكأس من الخمر، فاختار ﷺ، وهنا قال له جبريل عليه السلام: (هديت إلى الفطرة) كأس اللبن ولنتساءل، ما معنى هديت إلى الفطرة؟ كأن الفطرة بطبيعتها نقية، لأن اللبن الذى نشربه من أمهاتنا أو اللبن الذي نشر به مثلا من البهائم لا صنعة للإنسان فيه أبداً، إذ أننا نشربه كما ينزل، فهذه هي الفطرة، لكن في الخمر، نحن نأخذ رزقا من الرزق الحسن عنب وبعد ذلك نأتي فنتلفه حين نخمره ونجعله ينتن ويتحلل إذا نحن قد أخرجناه عن فطرته، لذلك حينما يعرض القرآن الكريم ذلك يأتي بالحيثيات، كان العرب يشربون الخمر ويقولون سكر، يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَمِن ثَمَرَٰتِ اِ۬لنَّخِيلِ وَالَاعْنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقاً حَسَناًۖ اِنَّ فِے ذَٰلِكَ لَأٓيَة لِّقَوْم يَعْقِلُونَۖ ﴾ [سورة النحل الآية:67] صحيح أنهم يأخذون منه (سكرا )،( ورزقا )، انظر إلى الدقة في (ورزقا حسنا أنهم)، فحينما جاء بالرزق وصفه بالحسن، وفى السكر سكت عنه لأنه غير حسن، ولو قال: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا أحسن، لكان السكر أصبح فيه شيء من الحسن لكنه أتى بكلمة حسنا ) حتى تكون مقابلة للقبح، كأننا نأخذ نعم الله سبحانه وتعالى ونتلفها ونخرجها عن الفطرة.
إذاً قول جبريل – عليه السلام – لسيدنا رسول الله ﷺ (هديت إلى الفطرة)، أي: أنك لم تأخذ حاجة من حاجات الله سبحانه وتعالى وأدخلت عليها عملية إفساد، خذ الحاجة وأدخل عليها عملية إصلاح، كاللحم النيئ مثلا إنضاجه، والخضار أيضا طهيه، لكن أن تأخذ عنبا وتضعه في برميل يتعفن ويتخمر، فكأنك أخرجته عن، وعن فطرته، إن ذلك معنى: (هديت إلى الفطرة). ولماذا هذا المرئي؟ قالوا: لأن العقل هو منفذ التكليف من الله سبحانه وتعالى والخمر جاءت لتستر العقل، لأن المدخل إلى الله سبحانه وتعالى هو العقل التكليفي، فالمجنون لا يكلفه الله سبحانه وتعالى، لأن آلة الاختيار بين البديلات معطلة طبيعته.
ومعنى عقل، أن يختار بين بديلات، فإذا كان أمرا لا بديل له، فلا عمل للعقل فيه، وما دام وجد الاختيار بين البديلات فلا بد أن يكون العقل موجودا سليما ومقاييسه صادقة، وذلك حتى تختار البديل وهو (الخير)، ولا تختار البديل (الشر) يأتي الإنسان إلى مناط التكليف له من الله سبحانه وتعالى، وبعد ذلك يشرب الخمر ليستر عقله، فكأنه عمد إلى النعمة الكبرى، ومنفذه إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ومنفذه للتكليف عن الله سبحانه وتعالى يعطلها، وكل المرائي التي بعدها، والتي تستلزم وجود العقل التكليفي فيها، فالجهاد والزكاة والصلاة كل هذه فرائض لها شرطها، وهو وجود العقل التكليفي، فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد بالمنظر الأول أن يقول إن الفطرة طبيعتها سليمة، إذا لا تفسدوها أنتم بتصرفاتكم، هذا اللبن تابع الفطرة، والخمرة أنتم أفسدتموها بصنعتكم فيها، فقد تدخلتم فيها ببشريتكم ولذلك أفسدتموها، فبعد أن كانت نعمة الله سبحانه وتعالى سليمة جعلتموها مفسدة، وإلى ماذا وجهتموها، إلى منفذ التكليف من الله سبحانه وتعالى وهو العقل ونأتي إلى الحق سبحانه وتعالى الذي يقول لنا، أنا قد خلقت لك هذا العقل حتى تختار به بين البديلات، فإذا أتيت أنت وسترته بالخمر، فتكون رددت على الله سبحانه وتعالى نعمته الكبرى عليك والتي قد تميزت بها عن الحيوان قد نجد الإنسان الذى يفعل ذلك يقول أنني أستر همومي وأحزاني، ولكن الرد عليه يكون بأن نقول له: إن المشاكل لا يحلها أن تهرب منها، إنما يحلها أن تواجهها، فالحق لا يريد منك أن تنسى مشاكلك وتهرب منها وتسترها بالخمر، ولكن واجهها بفكرك، وما دمت تواجهها بفكرك، فلا بد أن تحافظ على هذا الفكر لكي يكون سليما، قادراً على حلها، وذلك بأن تمنع عنه أي شيء يطمس قانون اختيار البديلات فيه، فهذا هو السبب في أن ذلك هو أول منظر من المناظر التي رآها سيدنا محمد ﷺ، وبعد ذلك مثلا نجد منظراً آخر، وهذا المنظر الآخر أنه وجد قوما يزرعون ويحصدون في وقتها، وتتكرر هذه العملية عدة مرات، فسأل جبريل من هؤلاء ؟.. قال: المجاهدون في سبيل الله سبحانه وتعالى، لأن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى هو الوسيلة الناقلة لهدى الله سبحانه وتعالى إلى خلق الله سبحانه وتعالى، فالجهاد في سبيله هو الانسياب بالدعوة لدعوة المنهجية التي جاءت من الله سبحانه وتعالى إلى القوم كي يهتدوا إليها، فلا بد لهؤلاء المجاهدين أن يكون لهم ثمرات متعددة، ولماذا الثمرات المتعددة؟ لأنهم يجودون بأرواحهم، ويجودون بأرواحهم، فالذي يجود بماله وبروحه عند الله سبحانه وتعالى، نجد الله سبحانه وتعالى يخلف عليه خلفا يناسب قدرته في العطاء، وما دام يناسب قدرته في العطاء، فلا بد من تجدد ثوابه، فكلما جاهدت في سبيل الله، وبعد ذلك تنشر الدعوة بجهادك في سبيل الله سبحانه وتعالى، فلك ثواب من هدى بها باستمرار.
فإن الرسول ﷺ حينما أراه الله سبحانه وتعالى هذه المسألة، فقد أراه إياها ليوضح هذه الحقيقة للذين يجاهدون في سبيل الله، ولا شك أن الناس يجودون بالأشياء طمعا فيما تأتى من الخير، فالفلاح مثلا يكون عنده كيسان من القمح وعندما تأتى أيام الزرع يأخذ كيسا مما عنده فينقص ما عنده كيسا وبعد ذلك يطرحه في الأرض، لكن الكيس الذى طرحه في الأرض سيزيد له عشرة أكياس بعد ذلك، وأن الحبة من القمح ستأتي له ب 700 حبة، فإذا كان ذلك عطاء الأرض الصماء التي هي خلق من خلق الله سبحانه وتعالى، فكيف يكون عطاء الله سبحانه وتعالى.
وإن الله تعالى يؤنسني بالأمر المادي، ولذلك، فإذا جدت أيها المجاهد بمالك ودمك، فذلك كله عند الله سبحانه وتعالى يجود، وإذا كانت الأعمال بنتائجها. فنتيجة هذا النفع العام لك وبعد ذلك يعرض الله سبحانه وتعالى منظراً آخر هی الدنيا، ونحن نعرف أنها زينة وزخارف ولهو ولعب، يقول تعالى:﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ اُ۬لشَّهَوَٰتِ مِنَ اَ۬لنِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَٰطِيرِ اِ۬لْمُقَنطَرَةِ مِنَ اَ۬لذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ اِ۬لْمُسَوَّمَةِ وَالَانْعَٰمِ وَالْحَرْثِۖ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ اُ۬لْحَيَوٰةِ اِ۬لدُّنْي۪اۖ وَاللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ اُ۬لْمَـَٔابِۖ﴾ [سورة آل عمران الآية:14] فالله سبحانه وتعالى عرض هذا المنظر، منظر الدنيا بأنها امرأة عجوز وعليها مِنْ كُل زينة فقال له: ما هذه يا جبريل؟ قال: ( لم يبق من عمر الدنيا إلا مابقى من عمر هذه ) فكأن الرسول يقول: أنا بعثت والساعة كهذه، ولم يبق من عمر الدنيا إلا كما بقى من عمر هذه المرأة، فإذا كان عمرها هذا، فلماذا تشغلون أنفسكم بها هذا الشغل الكبير ؟ أعطوها على قدر عمرها، وإذا فرضنا أنه بقي من عمر الدنيا الكثير، فهذا الكثير لغيرك ما حظك أنت فيه، وإذا قست الدنيا بعمرك أيضا، وجدت أنها بقيت دنيا للكل، ولكن لخلق غيرك، فمهما طال أمدها، ستمكث مليون سنة، لكنها لا تمكث المليون سنة لك.
إذا يجب أن تقيس الدنيا بعمرك أنت فيها، فعمرك هو عمرك، فإذا كان متوسط عمر الإنسان (60 سنة أو 70 سنة).
فإذا ضحى الإنسان بهذه السنين ماذا تكون النتيجة؟ النتيجة أنني سأضحي بشيء محدود، لكن في غاية غير محدودة وهي الآخرة، هذه هي أول مقارنة، أما ثانيا فنقول: إن السبعين سنة ليست متيقنة، فقد يموت الإنسان وهو صغير، فوجود الحياة الدنيا غير متيقن لكن الآخرة متيقن وجودها، هذه هي المقارنة الثانية، وأما نعيمي في دنياي فعلى قدر من؟ إنه على قدر إمكانياتي، وعلى قدر تصوراتي في النعيم، أما نعيمي في الآخرة فعلى قدر إمكانيات الحق سبحانه وتعالى، وتصوراته في النعيم. حينما نأتي ونقارن عمر الدنيا بعمر الإنسان، سنجد إذا أن المقارنة ليست في صف الدنيا.
فهو إذا محدود هنا، وغير محدود في الآخرة. غير متيقن هنا، ومتيقن في الآخرة. النعيم هنا على قدر إمكانياتي، ونعيم الآخرة على قدر إمكانيات الله تعالى.
فإذا كانت الدنيا عجوزا، ولم يبق منها إلا هذا ولو بالنسبة لكل إنسان، فما الذى يجعلني أجعل الدنيا هي كل هو المنظر الذي رآه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هناك منظر آخر، أن الرسول ﷺ رأى أن هناك أناسا والمقص يقص شفاههم وألسنتهم، لماذا؟ قالوا: لأن الشفاه واللسان هما الأدتان اللتان يتعاونان في إخراج الكلام، فقال له: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هم خطباء الفتنة، ومن هم خطباء الفتنة؟ قال الذين يقولون ما لا يفعلون فألسنتهم أحلى من العسل، وفعلهم كالأسى، ويحدثون الفتنة، لأن آفة كل دعوة، هم خطباء الفتنة فيها يقولون كلاما يسمعه الناس، ولهم فعل يخالف ما يقولون، فيقارن الناس فعلهم بقولهم، فيعلمون أن هناك كلاما يقال، وفعلا يفعل، وإذا انفصلت الكلمة عن السلوك، انقلبت المناهج كلها، فإذا جلست أشرح لابني مضار الكذب وأحدثه عن الصدق يوميا، فإذا جئت في يوم وطلبني شخص وأنا بالبيت. وكان ردي عليه بأنني غير موجود، هذا الفعل يهدم كل شيء من قولي، وبعد ذلك يستقر في وجدان الابن.
وإن هناك كلاما يقال إِذَا انفصلت الكلمة عن السلوك، وأيضا إن خطباء الفتنة هم الذين يبررون للناس تصرفاتهم فيجعلون الدين مبررا لتصرفاتهم، بمعنى: أن التصرف يكون أولا، ثم يطلبون له مبررا من الدين والدين ليس تبريرا، ولكنه دين تدبير للمسائل، هو الذي يدبر الأمر أولا، فلا تقول إن المجتمع وبعد ذلك تحاول من الدين أن يجد لك حلت به البلوى حلا لبلاء المجتمع فكأنك ستهبط بمنهج السماء إلى الأرض، والمفروض أن منهج السماء جاء ليرفع الناس إلى مستواه، ولذلك تجد في كل كلام الله سبحانه وتعالى الدعوة إلى السمو.
[من كتاب الإسراء والمعراج للشيخ الشعراوي من الصفحة 57 -69 بتصرف طبعة روز اليوسف الجديدة مصر1420ه]