القرآن الكريم / كيمياء الذكْرِ (ج2)
بقلم: د. فؤاد هراجة
(باحث في الفلسفة والأخلاق)
كلما هممت بقراءة القرآن أو انتهيت من تلاوته إلا انتصب أمام عيني قوله تعالى: «لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍۢ لَّرَأَيْتَهُۥ خَٰشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» فأعود إلى قلبي أتهمه بالنفاق ومعي شاهد يصدقني في قولي، إذ كيف للجبل بضخامته وقوته ووتده الراسخ في الأرض أن يتصدع، والقلب المُضْغَةُ الصنوبرية المعلقة داخل صدري لا تتأثر بالقرآن ولا تهتز ولا ترتجف ولا تَخِرُّ عند سماع آيِهِ أو قراءتها؟ حينها فقط يحضرني توصيف قرآني آخر ربما هو أقرب لتشخيص قلبي في موضع قوله تعالى: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلْأَنْهَٰرُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».
إياك أن تقول لي وما شأنك أنت بهذه الآية سيما وأنها نزلت في أهل الكتاب؟ ثمة جواب بداخلي يقول: يا ويح نفسي أوَلَسْتِ أنت أيضا من أهل كِتَابٍ إسمه القرآن، أولم تخرج كل هذه الكتب السماوية من مشكاة واحدة؟ وكأني بالقرآن الكريم من خلال هذه الآية الكريمة يذكرنا بقاعدة ثابتة ومَرَضٍ عابر لأهل الكتب السماوية كلها إسمه ”قسوة القلوب“ وأي قسوة؟ أشد من الحجارة! في هذا السياق فقط يمكن الواحد منا أن يدرك لماذا يضيق صدر المرء ويَثْقُلُ حاله ويعيش معيشة ضنكا، لأنه يحمل بداخله حجرا أقسى وأثقل من الجبل؟ من خلال تدبري للآيتين السالفتي الذكر من سورة الحشر وسورة البقرة استوقفتني عبارة تكررت مرتين ”مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ“، فالجبل يتصدع من خشية الله، والحجارة تهبط من خشية الله؛ وأنَّى لي بعنصر الخشية من الله حتى يَخِرَّ قلبي قبل جسدي ليتحقق فيه قوله تعالى: «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدهُمْ خُشُوعًا».
لطالما اعترضني سؤال دلالي وأنا أتدبر المثل الذي ضربه المولى عز وجل في أواخر سورة الحشر ما المقصود بإنزال القرآن على جبل، هل المقصود ظاهر الآية بمعنى وضع القرآن ككتاب يتشكل من أوراق على جبل؟ بالقطع لا! المقصود حقيقة القرآن المتجلية في طاقته النورانية المنبعثة من صاحب الكلام الذي سمى نفسه ”الله نور السماوات والأرض“ ووصف القرآن بالنور لأنه ينبعث منه في قوله سبحانه: «قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ»، فلو تجلى نور القرآن على حقيقته ونزل على جبل لوقع له ما وقع للجبل ولموسى عليه السلام «فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا».
لكن لماذا لا تَنْهَدُّ قلوبنا وتنمحي أمام قوة نورانية القرآن الكريم؟ لأن الرحمة المهداة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد تحمل علينا قوة نورانية القرآن وثقل وقعه « إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا»، لقد هيأه ربه لهذا الأمر في حادثة شق الصدر عندما أتاه المَلَكْ جبريل، فأخرج قلبه وغسله في طست من ذهب من إيمان، ثم أعاده لمكانه. ومع ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمل معاناة نزول القران فقد كان يتصبب عرقا في اللية الباردة كما تروي الحميراء أمنا عائشة رضي الله عنها. ويكفينا هنا أن نستحضر ما أخْرَجَه الطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ «عَنْ أسْماءَ بِنْتِ يَزِيدَ قالَتْ: نَزَلَتْ سُورَةُ الأنْعامِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ جُمْلَةً واحِدَةً، وأنا آخِذَةٌ بِزِمامِ ناقَةِ النَّبِيِّ ﷺ، إنْ كادَتْ مِن ثِقَلِها لَتَكْسِرُ عِظامَ النّاقَةِ»، سورة واحدة كادت تكسر من ثقلها عظام الناقة، فما بالك بنزول القرآن كله على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي قوة وأي قدرة وأي قلب كنت تمتلك يا سيدي يا رسول الله! هنا تتجلى رحمةُ النبي صلى الله عليه وسلم بأمته في أبهى وأوضح صورها، ذلك أنه تحمل عن هذه الأمة ثقل الوحي وقوة نورانيته ليخرج من قلبه خيوطا نورانية لطيفة تلامس شغاف قلوبهم وأرواحهم فيصلها القرآن وقد استحال سكينة وطمأنينة ورحمة وشفاء، تماما كما نعابن ذلك في العالم الفيزياء عندما نفتح جهازا إلكترونيا فنجد أن كل قطعة تشتغل بتوتر كهربائي جد منخفض ( ما بين 1ڤولت و14 ڤولت) مع أننا نستعمل 220v/240v والسبب لأن هناك محول كهربائي(Transformateur) يتحمل هذه القوة الكهربائية ويوصلها خفيفة لطيفة لكل القطع حرصا عليها من التلف ومراعاة لطاقة تحملها، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته، لقد كان قلبه بمثابة المُحَوِّل الذي يمتص قوة نورانية القرآن التي لا يقوى جبل مهما بلغت صلابته وصخامته على تحملها، ويرسلها لطيفة في القلوب التواقة والمشتاقة المنفتحة آنيتها على الله سبحانه.
إن هذا المعروف وحده كاف أن يدفع كل ذي مروءة وخلق رفيع إلى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، محبة لا حدود لها تعظيما لجنابه الشريف واعترافا بجميله الذي لا يضاهى أبدا.
نعود من حيث بدأنا لنربط أول الكلام بآخره ونتساءل لماذا بعض القلوب مستعصية على نور القرآن الكريم؟ ثمة سببان اثنان، الأول مقدور على تداركه والثاني لا سبيل لتدراكه؛ السبب الأول أقفال القلوب، والسبب الثاني ختم القلوب التي كتب الله عليها الكفر ولا تنفع معها هداية ولا ينفذ إليها نور القرآن. أما أقفال القلوب فهي الحجب التي تمنع نور القرآن من اختراق جدار القلب، وهذه الأقفال هي الذنوب والمعاصي والخطايا والسيئات والآثام والمناكر التي تصيب القلب بظلمة حالكة لان الإيمان ينافي ويغادرها لحظة القيام بها واقترافها مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ثم سئل الرسول صلى الله عليه وسلم أيكذب المؤمن؟ قال: المؤمن لا يكذب» إن نور القرآن يتمنع عن دخول قلب فارغ من الإيمان لأنه لا يستحقه وسيعبث بهذا النور ولا يبالي به ولعله التشخيص الدقيق الذي خَلَصَ إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين قال: « نحن قوم أوتينا الإيمان قبل القرآن وانتم قوم أوتيتم القرآن قبل الإيمان، فتنثرونه نثر الدقل» أي ترمونه كرميكم رديء التمر، والله سبحانه حكيم يعلم بحكمته أين يضع رسالاته.
إن كسر أقفال القلوب يتطلب توبة نصوحا وهجرة تامة لزمن المعصية والفتنةوالغفلة إلى زمن الطاعة والذكر والمراقبة، فقسوة القلوب كما أشارت الآية مرتبطة بأعمال الناس لقوله تعالى في نهاية الآية «وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».
كنا قد أشرنا في الجزء الأول من هذا المقال إلى أهمية الذكر في كسر أقفال القلوب تطهيرا وتنويرا وتعميرا، وفي تهييء هذه الآنية لوظيفتها الأساس التي خُلِقت من أجلها وهي الإيمان والمحبة وتدبر القرآن الكريم، وقد صدق ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال: «لو طهرت قلوبنا، لما شبعت من كلام الله»؛ فالقرآن يحتاج إلى قلوب وجلة والوجل مصدره الإيمان مصداقا لقوله تعالى: «إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم» أي فزعت خوفاً و رقَّت استعظاماً و هيبة من الله سبحانه. فالقرآن وهو حبل الله النوراني الممدود من السماء لا تنجدب إلى مغناطيسه إلا القلوب ذات المعدن الطاهر تماما كما هي المعادن مع المغناطيس فكلما تراكمت على قطعة معدنية مواد أخرى وغطتها انعدمت جاذبيتها. إن خفوت نورانية القلب وتدني درجة تفاعلها مع نداء الله، هو الدافع وراء بحث رجل عظيم في قامة أبي حامد الغزالي الذي كان على رأس المدرسة النظامية في بغداد والذي لُقِّبَ بحجة الإسلام عن رجل مصحوب وارث لأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي قلبه ويتشرب من قلبه معاني الوجل والخشية والمراقبة والتعظيم… التي افتقدها رغم غزارة علومه وعلو كعبه في الحجاج والمناظرة والتأليف، فترك من أجل بغيته بُرْجَهُ العاجي، وسمعته الواسعة الصيت، ومناصبة الفاتنة، متوجها إلى الشام ناشدا ضالته عند شيخ أقل منه علما وأكبر منه قلبا يتعلم منه كيف يحب الله، وكيف يسعى لإحياء قلبه حتى يتدبر كلام الله ويفهم عن الله، وهو ما سيدفعنا إلى تخصيص الجزء الثالث من كيمياء الذكر إلى تناول علاقة الصحبة بالذكر وأهميتها في إثماره ودوامه.
حتى ذلك الحين نسأل الله أن يحيي قلوبنا بذكره وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء همومنا وشفاء لنا من كل سقم.