(خطبة) نعمة المطر وسنة النبيﷺ في استقباله
(خطبة) نعمة المطر وسنة النبيﷺ في استقباله/ الشيخ عبد الله بنطاهر التناني
(خطبة) نعمة المطر وسنة النبيﷺ في استقباله
الشيخ عبد الله بنطاهر التناني
الحمد لله الذي جعل كل شيء حي من الماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الأفعال والصفات والأسماء، سبحانه وتعالى من إله غير الله ينزل الغيث بقدر من السماء! وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله تنورت بحكمه قلوب الحكماء، وتروى بينابيع علمه نفوس العلماء، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الكرماء، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى نهاية الأرض والسماء.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
لقد أنعم الله تعالى علينا في هذه الأيام بالمطر غيثا ونعمة، وأرسل علينا السحائب رأفة ورحمة، بعد أن مرت السنة الماضية في قحط ونقمة، ففزع فيها الناس من هول الصدمة، وما تكاد هذه السنة تبدأ حتى بدأ اليأس يتسرب إلى القلوب وحناياها، وبدأ القنوط يتشكل في النفوس فيؤلـمها، خوفا من أن تعيد أيام السنة الماضية مرة أخرى نفسها، ولكن الله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ويقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}.
وإن من مميزات الإسلام أنه دين شامل كامل، لا تكاد حالة تتجدد في حياة المسلم إلا وله فيها أسوة بنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، فكيف كانﷺ يستقبل المطر؟ وما هي سنته في ذلك؟
كان النبيﷺ يستقبل الغيث والمطر بأمور هي من السنن التي أغفلها كثير من الناس، ونحن نحاول اليوم إحياءها، ومن أحيا سنة ماتت أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب، وهذه السنن منها ما يتعلق بالعقل والعقيدة والإيمان، ومنها ما يتعلق بالقلب والعاطفة، ومنها ما يتعلق بالسنة القولية، ومنها ما يتعلق بالسنة الفعلية، أي: العقل، والقلب، والقول، والفعل؛ ألخصها فيما يلي:
● أولا: فيما يخص العقل والعقيدة والإيمان؛ يجب على المسلم أن يعتقد ويؤمن بأن المطر من خلق الله تعالى رحمة بنا، لا تخلقه الطبيعة ولا الأحوال الجوية ولا التقلبات الهوائية، روى البخاري ومسلم «أن رسول اللهﷺ صلى صلاة الصبح بالحديبية على إِثْر سماء كانت من الليلة (أي: بعد سقوط مطر)، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأمَّا من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مُطِرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب».
وإن المسلم من خلال هذا المطر ودورته من البحر وإلى البحر يرى قدرة الله تعالى، فتزداد في قلبه شحنة إيمانه، ويتمسك في عمله بمقتضيات دينه، من ذا الذي يستطيع أن يأتي بهذه الرحمة حين يبس الزرع وجف الضرع؟ من ذا الذي يستطيع أن يسلط الشمس على البحار حتى يرتفع ما فيها من البخار؟ من ذا الذي يستطيع أن يجعل هذا الماء السائل يطير في الهواء؟ من ذا الذي يستطيع أن يرسل الرياح فتثيره سحابا معصرا؟ قال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ}؛ وهذه قصيدة تربط دورة المطر بالعقيدة والإيمان وتجعل هذا الغيث المبارك آية من الآيات الدالة على قدرة الله تعالى العزيز الكريم؛ يقول صاحبها:
كن يا أخي إلى السحاب ناظرا * كـيـف غدا سيلا يسير طائرا
أرسـلـــــــه لنا الإلــــه رحـمــــة * فـهـل شكـرت للإله النعمـة
وسلط الشمس على البحــــار * لـرفع مـا فـيهـــا من البـخــار
وساق نحـــوه الريـاحَ نشــــــرا * تُـثِيره بعــدُ سـحابــا مُعـصِرا
أرسلـه رفقـــــــــا بنـا قطـــــارا * وبعـضَــــه سـخـــره أنـهـــارا
وبعضَه يمتصـه هـذا الثـــرى * كي لا يكون عائقا سير الورى
وفوق صحن كائن من الحجـر * خزنه ليسري في نفـع البشـر
فلو جرى من السمــاء سائــلا * لأمـطر الناس الفناء الـعاجـل
هذا إذا أُنزِل سيلا في البلــد * فكيـف لو صُبَّ جبالا من بـرد
فيا تــــرى أذلك التـدبيـــــــــر * تدبيــــر مـن ليـــــس تفـكيـــر
من وثن أصـــــم أو طـبيعــة * جامــــدةٍ لربـهـــا مـطـيـعـة؟
أم أن ذاك حقَّا فيـــه شاهــد * بأن مــــولاه الإلـــه الواحــد؟
● ثانيا: فيما يخص القلب والعاطفة؛ فالله سبحانه وتعالى كما جعل الماء نعمة كبرى فقد يحوله إلى نقمة عظمى، وقد يجعل هلاك أناس بما فيه حياة آخرين، والماء نعمة حين ينزل بقدر، ولكن الله إذا غضب قد ينزله بدرجة تفسد ولا تصلح، والقرآن الكريم يحدثنا عن هلاك قوم نوح بالطوفان، وهلاك قوم سبأ في اليمن بانهيار سد مأرب عليهم، بل كثيرا ما تطلع علينا وسائل الإعلام بفيضانات أودت بحياة الكثير، وخلفت خسائر فادحة في الأرواح والأموال، وتركت الآلاف بدون مأوى؛ ولهذا كان النبيﷺ يستقبل الريح بالدعاء خوفا من أن يكون ريح عذاب وهلاك؛ روى الإمام مسلم أن عائشة قالت: كانﷺ إذا رأى السحاب «تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سُرِّيَ عنه، فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال: لعله يا عائشةُ كما قال قوم عاد {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرنا}».
● ثالثا: فيما يخص السنة القولية؛ قال عائشة رضي الله عنها: «كان النبيﷺ إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به»، وقالﷺ: «إذا سمعتم الرعد فسبحوا»، وكانﷺ يقول إذا سمع الرعد: «سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّح الرَّعْد بِحَمْدِهِ». وكانﷺ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا»، وفي رواية: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا هَنِيئًا»، وفي رواية: «اللهم اجعله سيب رحمة ولا تجعله سيب عذاب». وكانﷺ إذا اشتدت المطر وخاف أن يتحول إلى هلاك قال: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ».
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛
● رابعا: فيما يخص السنة الفعلية؛ يقول الله سبحانه: “وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً”؛ ولأنه ماء مبارك فقد كان النبيﷺ إذا نزل المطر «حَسَرَ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ فقيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: لأنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى»، أي: قريب العهد بخلق الله تعالى، فيتبرك به، وعلى سنتهﷺ صار أصحابه، فقد كان ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما- يُخرِجُ متاعَه لِيُصِيبَه المطرُ، ويَقُولُ لجارية: أَخْرِجِي سَرْجِي، أَخْرِجِي ثِيَابِي.
هذه سنة النبيﷺ عندَ رؤيةِ المطرِ وعندَ نزولِه، فاقتدوا بهديه وتمسكوا بسنته، ففي هديهﷺ رشد وهداية، وفي سنتهﷺ أمن وسلامة، وفي الاقتداء به فوز وفلاح.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على الرسولﷺ…