مرت تسع سنوات على تقاعد الحاج ناصر..ولم يغير من عاداته..ظل يقضي رفقة أصدقائه المتقاعدين نهاره بين الحديقة العمومية و المسجد و لا يدخل الى البيت إلا للأكل و النوم..
عند منتصف شهر مارس 2020 ..أرخت الجائحة (المعروفة بفيروس كورونا كوفيد19 ) بظلالها على البلد و المدينة و الشقة التي يقيم بها ..وكان الحاج ناصر الوحيد في أسرته المحروم من الورقة الاستثنائية للتنقل خارج البيت بحجة كبر سنه و الأمراض المزمنة التي يعاني منها..
ظلت مساحته في البيت تتقلص..تتقلص مع طول مدة الحجر الصحي حتى انحصرت بين السرير و السجادة و الحمّام.
في بداية الحجرالصحي لم يكن يحرك ساكنا حين يرى زوجته تخرج لشراء اغراض البيت ..ويرى ابنته تنطلق الى عملها في أحد البنوك ..وابنه الذي يظهر و يختفي مثل الهلال بحكم عمله في الوقاية المدنية..لكن حين تمددت حالة الطوارئ الصحية للمرة الثانية مدتها ثلاثة أسابيع، أي إلى غاية 10 يونيو 2020، وهو ثاني تمديد منذ الشروع في تطبيق “الحجر الصحي” نفذ صبره و توترت أعصابه ..فاصبح يقيم الارض ولا يقعدها.. محتجا ..متذمرا.. كلما رأى احدهم يستعد للخروج.
لما عادت زوجته الى البيت حاملة في القفة احتياجاتهم اليومية ..وبدا لها مقطبا حاجبيه ..عابسا ..متجهما.. أدركت ان مهمة المراقبة تنتظرها ..وعليها ان تراقبه من بعيد طول النهار..فكثيرا ما كان يرتدي ملابسه و يتسلل خلسة الى الحديقة العمومية دون كمامة و لا معقمات فتلحق به ..وترافقه كظله الى ان يعودا معا الى البيت ..واذا تعذر عليها ذلك.. هاتفت ابنهما عزالدين الذي يأتي على الفور ليقنعه بالعودة بعد ان يلاحقانه في الحديقة من ظل شجرة الى اخرى ومن مقعد اسمنتي الى مقعد خشبي ..رافضا الانصياع لهما مرددا على مسامعهما بأنه ليس قاصرا و لا محجورا عليه وأن الاعمار بيد الله.
ذات صباح (بعد مرور شهرين على فرض الحجر الصحي الشامل ) أي عند منتصف شهر ماي 2020 .. أبلغته زوجته زينب أن صديقه بلعيد مات ..بدأ يستعد لحضور جنازة رفيق دربه ..وقفتْ له بالمرصاد وحالت بينه وبين الخروج قائلة له:
-” افتح أذنيك و اسمع جيدا ..أولا أنت لا تملك الورقة الاستثنائية للتنقل خارج البيت أو داخل المدينة.. ثانيا أنت أكثر الناس عرضة للعدوى بسبب السن و الامراض المزمنة التي تعاني منها ..ثالثا صديقك مات بفيروس كورونا كوفيد 19..كان مصابا به..ونُقِل على إثره إلى المستشفى.. وقد أخفينا الخبر عنك خوفا عليك ..رابعا لا أحد يُسمح له بحضور جنازة ضحايا الجائحة بل الدولة تتكفل بدفن موتى كورونا ..خامسا في ظروفنا الراهنة لا بيوت للعزاء.. ”
أغلق عليه باب غرفة النوم ..من خلف الباب كانت تسمع بكاءه ونحيبه.. بعدها فتح الباب وهي تراقبه..توضأ ..صلى صلاة الغائب على صديقه بلعيد.. جلس يبكي ..كانت تتابع حركاته ..شرع في ترتيل القرآن الكريم بصوت خافت وحزين ..وانطلق الصوت يعلو ويعلو في تصاعد متواصل ومستمر..ولا يتقطع إلا عند الزفرات و العبرات ..لم تنشغل عنه و لو لحظة لأنها تعلم مكانة بلعيد في قلب الحاج ناصر ..فقد كانا صديقين لسنوات طويلة.
الحاج ناصر يعتبر بلعيد أكثر من صديق..كان يتقاسم معه الأخباروالأسرار..اشتغلا معا بالجماعة الحضرية ..كانا يجلسان على مكتبين متجاورين.. يعملان طول النهارجنبا الى جنب ..وحين تقاعدا ..أصبحا يلتقيان كل صباح في الحديقة .. ويقضيان النهار بطوله مع رفاقهم المتقاعدين..
دخلت الى الحمام لقضاء حاجتها ..فجأة انتبهت أنها لم تعد تسمع صوته ولا نحيبه..خرجت مسرعة ..لم تجد له اثرا وباب الشقة مُشرع ..لبستْ جلبابها في درج العمارة وخرجت مهرولة تبحث عنه ..كامرأة مجنونة تاه عنها طفلها الصغير..بحثت عنه في كل الأماكن التي يتردد عليها ..لا اثر له..
كانت تهرول في مشيتها من مكان الى مكان بعينين جاحظتين ..زائغتين و قلب ملهوف عن زوج عاشت معه إحدى واربعين سنة ..لم تذكر يوما أنه أهانها أو خدش مشاعرها بتصرف مشين أو كلمة جارحة ..انقضت إحدى و أربعين سنة عاشاها معا ولم يفترقا.
كانت في السابعة عشر من عمرها حين تقدم لخطبتها ..كانت تسمع عنه ولا تعرفه لكن جسمها يرتعش كلما رأته من شق الباب..أو من ثقب مفتاحه..كانت تحس بقلبها يضخ دماء الى وجهها الذي يحمر خجلا ..شاب جميل الوجه و الملامح ..حليق الذقن و الشارب ..قمحي اللون ..عسلي العينين ..معتدل القامة ..قوي البنية ..بشعر أسود كثيف مُسَرح الى الخلف.
أما هو فلم يرها إلا ليلة الدخلة ..فقط كان يسمع عنها و الاذن تعشق قبل العين احيانا..
قال لها والدها يوم زواجها ..الليلة سأسلمك الى رجل سيصونك ويخاف عليك ..سيكون زوجا لك و امتدادا لي ..لن تري منه إلا ما يرضي الله ويرضيك.
حين انتقلت الى بيته ..بدأت دنياها معه كأميرة وكان لا يناديها إلا بِ ( لاَلّة زينب ) ..وخبرتْ حياتها من خلاله وهو يستشيرها في كل كبيرة وصغيرة .. واستمتعت بمباهج الحياة على يديه وهو يدخر عندها ماله و وثائقه .. وذاقتْ طعم السعادة من طبقه وهو يبثها أسراره و مشاعره ..لذلك لا تتصور الحياة بدونه..ولا العيش من بعده..
عادت الى البيت ..بحثت عن حافظة نقوده وفتشت في أغراضه لتعرف إن كان يحمل معه البطاقة الوطنية..أم لا ..فتبين لها انه لم يحمل معه اي وثيقة تثبت هويته..اتصلت بابنها كان في مهمة.. ثم اتصلت بابنتها كانت مشغولة هي الاخرى ..اتصلت بأصدقائه دون جدوى .. لم يزر احدا منهم..
الحاج ناصر لم يكنْ في وعيه..يمشي بغير هدى ولا بوصلة ..شارد الفكر ..هائما على وجهه..ظل يمشي ..ويمشي ..حتى وجد نفسه واقفا امام عمارة ..وهي العمارة التي تقيم فيها اخته الوحيدة السعدية..رفع رأسه ونظر الى الطابق الرابع ..ولج باب العمارة وصعد الدرج..طرق باب الشقة رقم تسعة عدة طرقات ..ثم نظر حوله و أعاد طرق الباب ..كان في قمة أزمته ولم يعلم انه خلق أزمة اخرى داخل الشقة.
حين رأوه عبْر العين السحرية رفض الأبناء ان يفتحوا له ..لكن والدتهم أصرّتْ على فتح الباب لأخيها الوحيد..لا يمكن ان تتركه يعود خائبا بعد ان طرق بابها ..واشتد الخلاف وتشابكت الأصوات ..لقد التزموا بالحجر لمدة شهرين..ولم يَخْط احد منهم ولو خطوة واحدة خارج البيت منذ بداية الحجر..كيف يتركون كل هذا ينهار من زائر لا يضع كمامة على وجهه ولا يحترم الحجرالصحي ..كلما كانت الاصوات ترتفع ..كان الحاج ناصر يزيد من عدد طرقات الباب..
فُتِحَ البابُ..قدموا له المعقم وطلبوا منه تعقيم يديه ووضع الكمامة على وجهه و ترك بَلْغَته قرب باب الشقة ..والرعب يتطاير شررا في عيونهم.. نظر اليهم باستغراب وكل واحد منهم يضع كمامة على وجهه ويحمل قارورة معقم بين يديه..ومسافة التباعد حاضرة بينهم و بينه..أبلغته اخته الوحيدة السعدية قائلة :
واللهِ لولا المعزة يا أخي ما فتحنا لك الباب..منذ الجائحة لا نفتح باب الشقة ابدا للضيوف او الزوار ..سواء كانوا من الأهل أو الجيران ..
كانوا يتكلمون ..يرى شفاههم تتحرك.. ملامح وجوههم تعبر ..لكن الأصوات لا تصل الى أذنيه ..لا يسمع شيئا.. استعصى عليه استيعاب المشهد..فعاد أدراجه ..ونزل الدرج..
ضاق صدره و أفقه و الحياة بما رحبت ..فانزوى في ركن بباب المسجد الذي كان يصلي فيه..جلس وثنى رجليه.. جمع ركبتيه الى صدره و ضمهما بذراعيه..كل الذكريات و الصور.. رآها تتساقط من ذاكرته كأوراق الخريف من شدة الصدمة و التوتر والحزن..ظل حائرا في امر دنياه يتساءل :
-” لقد كنا نتسابق الى الموت لانقاذ بعضنا و اليوم نتخلى عن بعضنا لانقاذ أنفسنا ..وكأن شعارنا (أنا ومابعدي الطوفان) .. آه يا كورونا ما أقسى قلبك !!! ..حاصرت المشاعر وقتلت الأحاسيس .. آه ما أقواك يا كورونا و أنت تتحكمين !!! ..تمنعين الزيارات..وتُغلقين أبواب المساجد و المدارس..لا مقاهي اليوم مفتوحة ولا مطاعم ..آه يا كورونا ما أخطرك !!! ..لا جنازات في وجودك .. لا مآثم ..ولا أعراس..”
ظل على وضعه عدة ساعات ..مُكتفيا بما يجول في خاطره دون حركة ..أغمض عينيه..ووضع رأسه بين ركبتيه ..ثم دخل في سُبات كَمَنْ فقد وعيه..
صحا على صوت الاذان ..رفع رأسه..نظر حوله مستغربا..كان الظلام يخيم على المكان ولا أثر للراجلين..أدرك أنه آذان صلاة العشاء.
مشى بخطوات متثاقلة يجر جسدا منهكا..أصبح وحيدا في الشارع وكلما رأى سيارة للأمن الوطني أو القوات المساعدة اختبأ خلف شجرة أو سيارة مركونة ..متسللا و جنبات المنازل حتى وصل الى بيته.. فتنفس الصعداء.
طرق الباب ..باب شقته..حين فتحت له زوجته زينب الباب بادرها صارخا :
-” اختي السعدية ماتت ..ماتت اختي الوحيدة ”
ضربت زينب فخديها بكفَيْ يدَيْها متسائلة عن الوقت و السبب ..أشار بيده الى قلبه قائلا :
” ماتت هنا ”
أغلقت الباب خلفه ..ساعدته على تعقيم يديه و خلع جلبابه و عمامته ..وهي تحكي له وهو في حالة شرود :
– ” أتدري كم أرعبتنا ؟ !..أتدري كم أفزعتنا ؟ !..لقد اتصلنا بكل المستشفيات و بأقسام الشرطة و بأصدقائك ؟..(صامتا لا يجيب) ..سأجهز طعاما للعشاء ..ونحن نأكل.. ستحكي لنا ما جرى لك مع أختك ..كما سأجهز لك الماء للوضوء حتى تدرك ما فاتك من صلاة “..
ثلاثة أيام مضت بلياليها وهو شارد ..ساكن ..قليل الكلام..فاقد شهية الطعام..
وفي الليلة الرابعة ..قبيل آذان الفجر بقليل ..صحا من نومه..غادرفراشه..متجها الى الحمام ..قَصْد الوضوء..فقد توازنه..فهوى على الارض محدثا ضجة ..وحرارته مرتفعة ..يهذي بكلام متقطع لصعوبة التنفس..والعرق يتصبب من جبينه و عروق عنقه برزت منتفخة..ونبضات قلبه تضرب بقوة جدار صدره ..وعظام كل أعضاء جسمه تؤلمه ..وزوجته بجانبه تولول ..ادرك عزالدين ان والده اصيب بالعدوى فاتصل بسيارة الاسعاف مبلغا عن حالة والده ..أمسكت زينب رأس زوجها وأسندته الى صدرها وهي تقرأ المعوذتين .. وطلبت من ولديها أن يبقيا بعيديْن حتى لا يُصابا بالعدوى ..
بقي عزالدين واخته يتابعان الوضع من بعيد ..وفي حلقيْهِما غصة وفي عينيهما لوم شديد لوالدهما الذي يعاند عن جهل و لا يمتثل للنصائح ..أما هو فرأى فزعا في عينيهما و أشياء جميلة ماتت بداخلهما ..وحدها زوجته التي ظلت بجانبه تسعفه و تساعده..
في سيارة الاسعاف كانت بجانبه باعتبارها مخالطة للمصاب ..تمسك بيده و تنظر اليه وهو مُمَدد ..منهك القوى..فتح عينيه وآبتسم لها ..هي نفس الابتسامة التي رسمها على وجهه وهو يلمس يدها لأول مرة ..يومها كانت يده دافئة شوقا و يدها باردة خوفا من رهبة اللقاء..أما اليوم فيده دافئة من حرارة الفيروس و يدها باردة خوفا من لحظة الفراق..مع اختلاف بسيط لم تكن يداها مزينتين بنقوش حناء العرس هذه المرة بل برعشة عصبية من شدة الخوف.
…………….. مع تحياتي