نظام التكافل الاجتماعي |مفاهيم وقيم الاقتصاد الاسلامي وعلاقتها بالعدالة الاجتماعية
الدكتور حسن محمد أحمد محمد
نظام التكافل الاجتماعي |مفاهيم وقيم الاقتصاد الاسلامي وعلاقتها بالعدالة الاجتماعية
الدكتور حسن محمد أحمد محمد
إن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الإسلام يقدم يد العون والمساعدة للمحتاجين دون منٍّ من أحد على أحد، لأن المن يفسد العمل ويحبطه، وهو منهي عنه، في الإسلام، ومجرم ومحرم كل التحريم، يقول تعالى:
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة: 262.
(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) الإنسان: 9-10.
ولننظر إلى قصة أبي بكر الصديق مع مسطح، وقد كان أبو بكر يتصدق عليه، من ماله، ويحسن إليه كثيرًا ولكن مسطحًا هذا قد تنكر له وجحد صدقاته عليه؛ وذلك عندما أتهمت السيدة عائشة بنت الصدايق في حادثة الإفك المعروفة، فخاض مسطح مع الخائضين، عند ذلك حلف أبو بكر أن لا ينفعه بشئ، أي أن لا يعطيه ولا يتصدق عليه أبدا؛ والسبب في ذلك هو أن مسطحًا كان في من تصدروا الحديث وأشاعوه، في حادثة الإفك، إلا أن أبا بكر، برغم ذلك، حينما سمع قوله تعالى(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور:22.
آب ورجع عن قسَمه، وقد جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية: وحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا فأنزل الله تعالى (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) يعني أبا بكر (وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ) يعني مسطحا إلى قوله (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فقال أبو بكر بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا وعاد له بما كان يصنع .
أما الناظر إلى الغرب وما تدفق عنه من أموال ومساعدات، يسمونها إنسانية، ولكنها في الحقيقة بعيدة كل البعد عن الإنسانية، يجد أن الغرب يستخدم تلك المساعدات كوسيلة، قذرة، لتحقيق العديد من المآرب والأهداف الخاصة والأجندة الخفية، التي لا تخفى إلا على أعمى البصيرة، فالغرب يقدم تلك المساعدات في حالة الرضا ووفق مصالحه المادية، ويقطعها عن المحتاجين في حالة السخط وعدم الخضوع والامتثال لأوامره ورغباته، وهذه رزيلة لا ينكرها أحد، ولا حتى ذووها في الغرب أنفسهم، بل ربما يتباهون بها في أحايين كثيرة؛ ومع ذلك يريد الكاتب أن يشير إلى حقيقة يجب ألا ننكرها ألا وهي: أنه بالرغم من سبق الإسلام والمسلمين في هذا المضمار وتقدمهم في مجال التشريع والتقنين للتكافل الاجتماعي، إلا أن الغرب، اليوم، هو المتفوق، سواء أكان ذلك من حيث التنظيم الإداري أو من حيث حجم الأموال المتدفقة والمبذولة في هذا المجال، نقر ذلك عملاً بقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المائدة:8.
يقول الغلاة من الشيوعيين إن الديمقراطية مستحيلة مع بقاء الفوارق بين الناس في المال أو في شؤون الرزق على العموم. وحقيقة الأمر أن الفوارق بين الناس متعدد ولا تنحصر في شؤون الرزق والثروة …، وقد ثبت من التجارب أن التفاوت علامة حسنة وليست بالميزة الرديئة التي نسعى إلى التخلص منها …، لأن الاختلاف بين أبناء النوع الواحد دليل على التقدم وتعدد المزايا والملكات . بهذا يمكن القول بأن من البداهة أن يكون هناك تفاوت بين الناس في الكسب والرزق، في جميع المجتمعات البشرية، وبالنظر إلى النظام الاقتصادي في الإسلام نجده لا ينكر ذلك، قال تعالى:
(كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) الإسراء: 20-21.
وإنّا لعلى يقين تام من وجود حكمة ربانية اقتضت وجود مثل هذا التقاوت، في الكسب، بين الناس، ولسنا هنا في معرض التفصيل في هذا المجال، بقدر ما نحن معنيون بالحديث عن عدالة الاسلام وسعيه لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، ومن ثم ترك المواهب، بعد ذلك، تعمل في الحدود التي لا تتعارض مع المبادئ الكلية والأهداف العليا للمجتمع والتي وضعت من أجل محاربة الفقر وتحقيق العدالة من خلال التكافل الاجتماعي، فمما لا شك فيه أن الإسلام قد سعى سعيًا حثيثًا لمحاربة الفقر الذي تعوذ منه رسولنا الكريم، عليه أفصل صلاة وأتم تسليم، فقال: (وأعوذ بك من فتنة الغني وأعوذ بك من فتنة الفقر) ، وفي صحيح البخاري: (عن أم سليم أنها قالت: يا رسول الله أنس خادمك ادع الله له. قال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته) . وكان رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، يثني كثيرًا على حسن المعاملة والتعامل بين الناس ويحث عليها، (عن جابر بن عبد الله رضي الله، عنهما أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) .
إن أجمل صورة للتكافل الاجتماعي وأروع مشاهد التعايش الإنساني يمكن أن تراها العين، لهي تلك اللوحة التي رسمها الأنصار والمهاجرون، في المدينة، وجسدوا معانيها السامية، حين احتضن الأنصار اخوتهم المهاجرين، من مكة، إنها لوحة تجسدت فيها كل معاني الإخاء الإنساني، إنها صورة نموذجية لم يعرف تاريخ الإنسانية لها مثلاً، لا من قبل ولا من بعد ولن تتكرر على الإطلاق، ولن نجد لها شبيهًا أو مثيلاً في التاريخ البشري، لقد اقتسم الأنصار أموالهم، ولكن المثل الأروع والأكمل تمثل في تنازل رجال الأنصار، عن زوجاتهم اكرامًا واعزازًا لإخوتهم المهاجرين، فكان بحق تمازج وتصاهر عرقي وروحي لم ولن يشهد العالم له نظير أو شبيه، فلم يكن التكافل الاجتماعي في الاسلام مجرد دعوة نظرية، وإنما جسده الإخوة المتحابون في الله، أنصار ومهاجرون، كواقع مشهود وحقيقة ملموسة؛ وبذلك يكون الإسلام قد قدم نموذجًا اقتصاديًا يعتبر هو الأمثل بل والأكمل والأفضل للبشرية دون مدافع ولا منازع، وقد تمثل ذلك في شخصية محمد، صلوات الله عليه وسلامه، وصحابته الكرام، رضوان الله عليهم أجمعين، الذين عرفوا قيمة المال، ولكنهم لم يتخذوه غاية، وإنما جعلوا منه وسيلة عبادة وتقرب إلى الله تعالى (عن بن عباس قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله، صلى، الله عليه وسلم، أجود بالخير من الريح المرسلة) ، ولنتأمل موقفه الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، يوم فضل أناسًا، من أهل مكة الضعيف إيمانهم، على أناس من الأنصار، فغضب الأنصار ولكنه مثل النموذج الأعلى والمثل الأرفع حين امتص غضبهم وحوله إلى رضىً، فخطب فيهم قائلاً: أوجدتم، يا معشر الأنصار، في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتمكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون، يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرئ من الأنصار … ، إنها كلمات قليلة ضمنها المصطفى معان عظيمة وجليلة، فتحول موقف الأنصار من السخط والغضب إلى الرضى والقبول والفرح والسرور، فالمال لا قيمة له، مهما كثر، مقارنة بما ينتظر الأنصار من نعيم أبدي خالد، فباعوا الفانية بالباقية، قال تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) التوبة: 111.
(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) الزخرف:33-35.
وبالرغم مما للمال من سحر يعشي العيون، وربما لا يتمكن الكثير من الناس من مقاومة سحره، إلا أن الله قد عصم زمرة من المسلمين عن أن يخوضوا مع الخائضين في هذه الفتنة، قال تعالى:
(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) القصص: 79-80.
تأمل كيف شكل المال فتنة لفئة كثيرة من الناس في الآية الأولى، أما الذين رزقهم الله العلم فقد نظروا للمال بعين أخرى غير تلك التي نظرت بها الفئة الأولى؛ ولذلك فضلوا ثواب الآخرة على متاع الحياة الدنيا، وفي ذلك إشارة واضحة الدلالة إلى أن الله قد عصم العديد من الصحابة الكرام من فتنة المال، فتركوا زخرف الدنيا باحثين عن نعيم الآخرة، فهذا هو أبو بكر الصديق يجسد لنا مشهدًا حيًا وواقعًا لا تخطئه الأعين، (عن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: ما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا) . ولنقف مع صهيب ونستمع إلى كلماته التي يزدري فيها الدنيا بما فيها من حلي وذهب: (عن صهيب قال: قال، رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرة فإما أن تكون هجرا أو تكون يثرب. قال: وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة وخرج معه أبو بكر، رضي الله عنه، وكنت قد هممت بالخروج معه فصدني فتيان من قريش فجعلت ليلتي تلك أقوم ولا أقعد فقالوا قد شغله الله عنكم ببطنه ولم أكن شاكيا فقاموا، فلحقني منهم ناس بعد ما سرت بريدا ليردوني، فقلت لهم: هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب وتخلون سبيلي وتفون لي، فتبعتهم إلى مكة فقلت لهم أحفروا تحت أسكفة الباب فإن تحتها الأواق واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين وخرجت حتى قدمت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يتحول منها يعني قباء فلما رآني قال: يا أبا يحيى ربح البيع ثلاثا، فقلت: يا رسول الله ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام . أما أسماء بنت الصديق فقد كان موقفها عجبًا، ولنقرأ كلماتها، وهي تحدث عن سلوك أبيها وتصرفه في المال، بعد إسلامه، فتقول: لما هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهاجر معه أبو بكر، احتمل معه ماله كله …، فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره. وقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه. قلت: كلا يا أبت …، وأخذت أحجارًا ووضغتها في كوة البيت …، ثم أخذت بيده وقلت: ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليها وقال: لا بأس…، والله ما ترك لنا شيئًا ولكني أردت أن أسكن الشيخ . إنها بحق زرية بعضها من بعض، فاسحق، أبابكر، من صاحبه الاطراء والثناء: (عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر. قال: فبكى أبو بكر، وقال: يا رسول الله هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله) ، وفي رواية ابن حنبل: وهل نفعني الله الا بك وهل نفعني الله الا بك وهل نفعني الله الا بك . إنه بحق النموذج الأكمل للتعامل مع المال.
ولنأخذ الدروس ونستخلص العبر من شخصية أخرى هي شخصية الفاروق عمر بن الخطاب وهو القائل: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، لأنه اشترى بلالاً وأعتقه، وقد قال أبو بكر، في ذلك: لو أبو إلا وقية لدفعتها لهم، أي للمشركين الذين اغلوا من ثمن بلال. وقد عرفت عن عمر الغلظة والشدة في محاسبة نفسه، والآخرين ممن اتصلوا به أو تولوا له المناصب، فمما يروى عنه أنه مر بدار مميزة عن غيرها من الدور، فقال: لمن هذه؟ فقيل: لأبي هريرة، والكل يعرف قدر هذا الصحابي الجليل، فقال عمر، قولته المشهورة،: أبت الدراهم إلا أن تمد أعناقها، ثم استدعاه وسأله عن مصدر ماله وثروته، فقال أبو هريرة كنت اتجر وأنا بالبحرين، فقال له عمر: بعثناكم عمالاً لا تجارًا، ثم شاطره ماله نصفين نصف لبيت المال ونصف لأبي هريرة، ولنستمع لأبي هريرة وهو يقول: والله لقد خشيت أن يشاطرني نعلي فيأخذ واحدة ويدع لي الأخرى، ولم يكن أبو هريرة هو العامل الوحيد الذي شاطره عمر ماله، فقد شاطر عبد الله بن عباس، وخالد بان الوليد …، فأي شدة هذه التي بلغها عمر في محاسبته لنفسبه ولغيره، ويأبى عمر إلا أن يرينا من نفسه ما لا تصدقه الأنفس ويضرب لنا المثل الأسما في المساواة بينه وبين العامة من الرعية؛ وذلك حين رأى الشدة التي حلت بالمسلمين في عام الرمادة فأبى إلا أن يشارك الناس في ما حل بهم، إذ علم أن الناس، من حوله، لا يجدون السمن، فحرم السمن على نفسه وصبرها على الخبز الجاف والزيت، فقال يومًا، مخاطبًا بطنه، قرقري ما شئت فليس لك إلا الزيت، وقد أثر ذلك في جسده وتغير لونه، فأبى أن يخصب إلا بعد أن يخصب الناس ، ولعمر مواقف أخرى يعجز اللسان عن وصفها ويحار القلم في كتابتها؛ وذلك حين رأى إبلاً حسنة المنظر والمظهر، فسأل عن صاحبها، فقيل له: إنها لابنك عبد الله، وعبد الله هذا هو ذلك الفتى الذي كان يسير في المدينة حافيًا، ورعًا، وهو يقول: “لعل خفًا تقع على خف”، ولكن ورعه هذا لم يشفع له عند عمر، وهو والده، فناداه وقال له: سيقول الناس اسق إبل ابن أمير المؤمنين ارع إبل ابن أمير المؤمين …، وطلب إليه بيعها، وليت الشدة وقفت عند هذا الحد، بل تجاوز العدل كل الحدود الإنسانية، حين أمره أن ينظر رأس ماله فقط ثم يرد المتبقي لبيت مال المسلمين، وما كان من الابن إلا وأن انصاع لأمر والده.
لم يعد للمال أي بريق في عيني عمر التي ملأها الخوف من الجليل فكان مثالاً قل أن يوجد له نظير في العدل الاجتماعي، إذ يحكى عنه أن اثنين من بنيه جاءا بخراج كان قد بعثه معهما عامل العراق، فاستخدماه في التجارة، وعندما بلغا المدينة أخذا أرباحهما وأودعا المال في بيت مال المسلمين، فعلم عمر بذلك، فانظر ماذا فعل، فما كان منه إلا أن استرد منهما ما أخذاه من أرباح وردها إلى بيت المال، هذا هو موقف عمر، غير أن بعض الصحابة ممن يثق برأيهم عمر، قال له: هلا جعلتها لهما مضاربة يا أمير المؤمنين، فاستحسن عمر رأيه، فناصفهما الأرباح نصف لهما ونصف لبيت المال. ومن الثابت أن لعمر أثرًا اقتصاديًا في الاسلام فهو أول من دون الدواوين والتي من أهمها ديوان العطاء وديوان الجباية والخراج ؛ والسبب في ذلك أن المال قد كثر في عهده وظهرت مشكلة إذ لم يكن من نظام سابق يجري عليه في توزيع المال، ولما كان المال من مسئوليته، عمل عمر على استشارة ذوي الرأي فأشاروا عليه بتدوين الدواوين فاطمأن لها، فعادت بالخير الوفير على السلمين والإسلام. لا شك أن هذه الصورة التي يرسمها لنا عمر تمثل العدل في أسمى معاليه وأجمل معانيه، كيف لا، وقد تربى في كنف مدرسة النبوة المحمدية، تلك المدرسة النبوية الربانية التي تعتز وتهتز شرفًا وعزة بأن قدمت للبشرية هذا النموذج الذي لا يضاها عدلاً وورعًا، وسيظل التاريخ يحفظ اسمه، ويكتبه بأحرف من نور وبمداد من ماء الذهب، ما امتدت بالبشرية أيامها، كنموذج للعدل والعدالة الإنسانية في أسما وأبهى صورها، يقول تعالى:
(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) النور: 37-39.
وهكذا فإن الإسلام حينما عمل على تحقيق العدالة الاجتماعية كاملة، ارتفع بها عن مفهوم العدالة الاقتصادية المحدودة، فسما بها إلى مفهوم العدالة الإنسانية الشاملة والمتكاملة الجوانب، وجعلها، أولاً، تنبعث من داخل الفرد أي من قوة الضمير والنفس الإنسانية، ثم سن لها القوانين والتشريعات ثانيًا، ليترتدع بالسلطان من لم يرتدع بالقرآن، فالعدالة الاجتماعية، في الإسلام، يجب ألا تأتي من خشية السلطة التنفيذية والقانونية، وإنما يجب أن تنبع من الضمير الإنساني وخشية الله تعالى، يقول تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) الملك: 12.