(خطبة) دروس من السيرة النبوية في ذكريات شهر شوال
(خطبة) دروس من السيرة النبوية في ذكريات شهر شوال/الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
(خطبة) دروس من السيرة النبوية في ذكريات شهر شوال
للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
الحمد لله الذي ذهب بشهر رمضان وجاء بشهر شوال، فشرع لنا فيه صيام الست امتدادا لصالح الأعمال، وحذرنا من الاستسلام للكسل والفتور والإهمال، وأشهد أن لا إله إلا الله الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الكريم المفضال، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ذوي العزة والإجلال، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى نهاية الآجال.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي ألا بتقوى الله وطاعته.
إذا كان رمضان قد ذهب بذكرياته، فها هو شوال أيضا قد أتى بذكرياته؛ والذكريات أمر يلازم الإنسان، يتذكرها حينما تدور دورتها في التاريخ، والذكريات تنفع من يخشى ويتدبر، وتفيد من يتقي ويعتبر، والله تعالى يقول: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى}، ويقول تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}؛ ومعنى الذكرى: أن نتذكر في الذهن حدثا وقع في الماضي، ثم نذكره بألسنتنا في الحال، ثم نحاول الاستفادة منه بأعمالنا في المستقبل؛ ومن أجل ذلك إذا قمنا بإطلالة من نافدة هذا الشهر “شوال” على السيرة النبوية نجده قد حمل إلينا أحداثا عظيمة منها:
● في شهر شوال نتذكر غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة وعدد جيش الصحابة فيها سبعمائة، واستشهد منهم سبعون رضي الله عنهم؛ وذلك بسبب مخالفة الخمسين منهم أوامر رسول اللهﷺ؛ فنتعلم منها دروسا كثيرة؛ منها:
• نتعلم منها أن ما يصيب المسلمين اليوم من الحروب الظالمة، إلى الفتن المظلمة، إلى المصائب المجحفة، في كثير من الأصعدة، من أسبابه مخالفة أوامر الرسولﷺ؛ والله تعالى يقول: {وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
• نتعلم منها أن المسلم عندما يرتكب مخالفة لا يضر بنفسه فقط، بل يضر بمجتمعه كله؛ فها هم الصحابة قد خالف أمر رسول اللهﷺ منهم خمسون، فلما جاءت المصيبة لم تتصيد الخمسين فحسب؛ بل أصابت الجيش بأكمله، بما فيهم رسول اللهﷺ والله عز وجل يقول: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}.
• نتعلم منها أن المصيبة علامة على محبة الله للعبد بشرط الإيمان، يقول الرسولﷺ: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط»؛ ولهذا فإن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأفضل فالأفضل، يقولﷺ: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه، …فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على وجه الأرض وما عليه خطيئة».
● وفي شهر شوال -أيضا- نتذكر غزوة بني قينقاع في السنة الثانية من الهجرة التي أجلى بها الرسولﷺ مستوطنة يهودية من المدينة بعد أن خانوا العهد وخرقوا الاتفاق، حين قاموا بالاعتداء على حجاب امرأة مسلمة فكشفوا عورتها؛ فكانت مناسبة لنذكر ونحذر مما يفعل أحفادهم الصهاينة اليوم بالمسجد الأقصى؛ فندعو لأهل القدس بالنصر، وهم الذين استحضر النبيﷺ حالهم حين قال فيما روى الإمام أحمد في مسنده: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء (أي: الشدة) حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك؛ قالوا: يا رسول الله؛ وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس».
● وفي شهر شوال -أيضا- نتذكر غزوة الأحزاب وغزوة حنين:
ففي السنة الرابعة من الهجرة انتصر المسلمون في غزوة الأحزاب رغم قلة عددهم حين توكلوا على الله تعالى واتخذوا الأسباب فحفروا الخندق واختبئوا فيه؛ بينما في السنة الثامنة من الهجرة انهزموا في بداية معركة حنين حين اعتمدوا على كثرة عددهم وتغافلوا عن التوكل، حتى قال بعضهم ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لن نغلب بعد اليوم»؛ وفجأة انهزموا ولاذ أغلبهم بالفرار كما قال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}.
ومن هنا نتعلم أن الواجب على المسلم هو الاتكال على الله مع اتخاذ الأسباب؛ فالاتكال على الله بدون العمل لا يفيد، وكذلك اتخاذ الأسباب من غير الاتكال على الله لا ينفع.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛
● وفي شهر شوال -أيضا- نتذكر زواج الرسولﷺ بزوجتيه: عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما؛ فكانت مناسبة للحديث عن الزواج وفضله.
• أما أمنا عائشة رضي الله عنها؛ فقد روى الإمام مسلم والترمذي أنها قالت: «تزوَّجني رسول اللهﷺ في شوال، ودخل بي في شوال؛ فأيُّ نسائه كان أحظى عنده منِّي؟ وكانت عائشة تَسْتَحِبُّ أن تُدخِل نساءها في شوال»؛ أي: أن تُزَوِّجَ نساء عائلتها في شوال؛ ولهذا كان الزواج في شوال مستحبا عند العلماء؛ وخاصة علماء المالكية؛ فقد تزوج بها النبيﷺ وهي صغيرة، فعاشت معه تسع سنوات في السراء والضراء، تبادله المودة والرحمة، وتوفر له الطمأنينة والسكينة والراحة ؛ قال الإمام الذهبي: “لم يتزوجِ النبيﷺ بكرا غيرها، ولا أَحَبَّ امرأة مثل حبها”، صاحبته في الأسفار فكانت سببا في نزول تشريعات ربانية انتفع بها المسلمون على مدى الأزمنة وامتداد الأمكنة؛ منها: رخصة التيمم التي نزل القرآن بسببها، حتى قال عنها أحد نقباء الأنصاري الصحابي أسيد بن حضير -رضي الله عنه-: «جزاكِ الله خيرا؛ فواللهِ ما نزل بكِ أمر قط إلا جعل الله لكِ منه مخرجا، وجعل للمسلمين فيه بركة، وما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر».
ولم يقتصر الإشادة بشرفها على الإنس فقط؛ بل أشادت بها الملائكة؛ روى البخاري ومسلم أن النبيﷺ قال لها ذات يوم: «يا عائِش؛ هذا جبريل يُقْرِئُكِ السلام؛ بل تكريمها لم يقتصر على أكرم المخلوقات فقط؛ بل كرمها ورفع من شأنها رب العالمين؛ فكانت تبرئتها قرآنا يتلى على امتداد العصور والأزمان؛ فهي المقصودة بقول الله تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
• وأما أم سلمة رضي الله عنها فقد كان في زواجها قصة استجاب الله تعالى فيها دعاءها؛ فانخرطت في سلك أمهات المؤمنين؛ فلنتركها تتحدث لنا عن قصة زواجها المبارك من البداية: قالت: أتاني أبو سلمة -وهو زوجها- يوما من عند رسول اللهﷺ فقال: لقد سمعتُ من رسول اللهﷺ قولا سُرِرْتُ به. قال: «لا يُصِيبُ أحداً من المسلمين مصيبةٌ فيسترجعَ عند مصيبته (أي: يقول إنا لله وإنا إليه راجعون)، ثم يقول: اللهم اجُرْنِي في مصيبتي، وأَخْلِف لي خيرا منها إلا فُعِلَ ذلك به». قالت: «فحفظتُ ذلك منه؛ فلما تُوُفِّي زوجي استرجعتُ، وقلتُ: اللهم اجُرْنِي في مصيبتي، وأَخْلِف لي خيرا منها. ثم رجعتُ إلى نفسي فقلتُ: مِن أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضَتْ عدتي استأذن عليَّ رسول اللهﷺ… فخطبني؛ فقلتُ: يا رسول الله؛ أخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلتُ في السِّن (أي كبرتُ في العمر) وأنا ذات عيال؛ فقالﷺ: إنما عيالك عيالي؛ فقالت: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسولَ اللهﷺ».
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ …