منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

مقومات الكتابة الرسالية في مجموعة “الذِّمَّة المعكوسة” للقاص رضا نازَه

 د. عبد القادر الدحمني

0

 مقومات الكتابة الرسالية في مجموعة “الذِّمَّة المعكوسة” للقاص رضا نازَه

 د. عبد القادر الدحمني

 

تقديم:

أحب بداية أن أعترف أنه منذ تعرُّفي الأول على كتابات القاص رضا نازه، شغلني سؤال جامع، يكاد يلخّص هاجس الأديب الذي يريد أن يتصدّى برؤية تجديدية للكتابة، فيتقن الصنعة دون أن تفلت منه الماهية والدلالة، ويحقق المتعة الفنية والإبهار الجمالي دون أن تأخذه بُنيّات الطريق عن روح رسالته وجوهر كتابته ومغزاها ومرماها.

والسؤال هو: ما هي المقومات المطلوبة في الإبداع كي يضمن الإمتاع والإقناع؟ وكيف يمكن لأدب الكاتب المسلم المتشوّف إلى الإحسان، أن  يحمل النبأ العظيم ويعبر عن هموم الأمة دون أن يتخلّى عن لَبوسه الجمالي وحوامله الفنية وقوام بنيانه الأجناسي، فيوحي ويحبّب، ويبث ويفضي، ويشيع ويثبّت، ويبني ويؤسس، ولا تسقطه الكتابة في أهوائها ودواعيها النرجسية، ولا تكبّله بعض أعرافها الطقوسية وخلفياتها الفلسفية المرعية؟ كيف يمكن للأديب المؤمن أن يحوز مستوى الريادة في أجناس أدبية مكرّسة مسيجة أوفاقُها ومحروسة، فيقعد المسار ويصحح البوصلة ويبني بناء الروح والجسد، ويجدّل الدنيا بالآخرة، والعدل بالإحسان، والفرد بالجماعة، وأمة الاستجابة بأمة الدعوة، بالكتابة واختياراتها وأنساقها وتصوراتها الأجناسية المختلفة؟

وفيما يأتي بعض ما يعطي للكتابة عند القاص رضا نازه فرادَتَهَا وجماليتها الخاصة، في كتابة القصة. وقد كان أملي أن أتطرق في هذه الورقة إلى خصائص الكتابة القصصية ومقوماتها عند رضا نازه من خلال مجموعتيه اللتين أصدرهما: “الذمة المعكوسة” و “صفٌّ وصفوة”، ولكن زحمة الوقت لم تترك لي منه إلا سويعات عدت فيها إلى مجموعة “الذمّة المعكوسة”، قارئا مستمتعا، ومُأَوِّلًا نابشا، ومنصتا مستقرئا، لأعود من رحلتي الشيقة ببعض المقومات التي رأيت أنها قد صارت خصائص عابرة في قصص رضا نازه، تعبر عن رسالته، وتنظم رؤيته، وتفصح عن بعض مهاراته الأسلوبية، وإمكانياته السردية والإبداعية.

  • بين يدي المجموعة: موضوعة الهوية المستلبة

تعدُّ مجموعة “الذِّمَّة المعكوسة” باكورة أعمال الكاتب والقاص المبدع رضا نازه، صدرت سنة 2015، عن المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش في 135 صفحة من القطع الصغير، وهي مجموعة قصصية تضم 14 قصة، 13 منها بين الدفتين، وواحدة على ظهر الغلاف، تكرمًا وزيادةَ فضل. إضافة إلى توطئة وتنويه، خصصها الكاتب لإعلام القارئ بمصدر عنوان قصته، وما يمكن أن يطرح بإزاء المفهوم المستعار من أسئلة تخص علاقة المجموعة بالمفهوم/العنوان، ومدى وفائها له بوصفه شعارا وتعهدا وميثاقا قرائيا إذا أضيف إليه التجنيس الذي تلا العنوان: “مجموعة قصصية”، فهل فعلا هي مجموعة قصصية أم أضمومة أم قصص بهذا التعميم المجرد الذي لا رابط بين أجزائه سوى الانتماء إلى بعض أعراف الجنس الأدبي.

تنتظم عناوين مجموعة “الذمة المعكوسة” كالآتي:

  • محضر ذمة معكوسة. 2- الجميلة والنووي. 3- أداء نِداء. 4- هايدِغر والعسّاس. 5- معايير دولية. 6- وحش الفلاة. 7- جذور معكوسة. 8- أو يُهان. 9- نعم لا. 10- نعيٌ كاذب. 11- ماهية من دم (أو نقمة رابعة العدوية). 12- باب دكّالة. 13- خاتمة. 14- على ذمّتي.

تعالج مجموعة “الذِّمّة المعكوسة” موضوعة مركزية واحدة، هي الواردة في العنوان، أي نِحلة الغالب، التي بموجبها، يعيش العديد من المغاربة والمغلوبين بشكل عام، هزيمة نفسية وفكرية شاملة، تجعلهم يعيشون استيلابا هوياتيا وثقافيا كبيرا، فلا يرون ثمة نموذجا مثاليا إلا نموذج الثقافة الغربية المتمكنة المتحكمة، ولا  شخصية إلا شخصية الغربي الراطن بلغته المستعلي بقوته وجبروته، المتنعم بما حازه من ثروات وما حققه من شروط حياة الرفاهية والوفرة، وما بَلَغَهُ من جرأة في مكافحته للأخلاق وللدين في سبيل حرية الجسد وتسييد الأهواء وهدم الفطرة والتحرر من كل القيود إلا قيدَ اللذة والهوى وعبادة القوة والمال.

فكل القصص تدور حول هذه الموضوعة وتخدمها بشكل أو بآخر، فقصة “محضر ذمة معكوسة”، تصور صراعا وتلاسنا بين مستلب في الثقافة الفرنسية وآخر في الثقافة الإنجليزية، يتطور إلى إشهار جوازي سفرهما، في إشارة إلى تمام الولاء، الذي يجعل التعارك البدني بعد ذلك بمثابة حرب بالوكالة على أرض مغربية، يسيل فيها في النهاية دم مغربي كما جاء القصة.

وفي قصة “الجميلة والنووي”، يتطرق الكاتب إلى استيلاب آخر، يتمثل في النفور من الهوية الفردية، الذي يجعل مغربيّا ومغربيّة يسعيان إلى تغيير ملامحهما بعمليات تجميلية مكلفة خارج البلد، بغية التماهي مع “المعايير الجمالية” التي فرضتها الذائقة الغربية وكرّستها بالإشهار والبهرجة الإعلامية والفنية ولهاث الموضة، لتكون الصورة عبارة عن خيبة مضاعفة وغرق تام في العسرة المادية جراء القروض وغرق أعمق في التيه الهوياتي، حتى في بعده الجسدي، بعد تأكيد الطبيب الجراح إشكالية تعذر تجنب الصفات الوراثية في ملامح الأطفال المنتظر إنجابهم، إن كان بالمستطاع.

أما القصة الثالثة “أداة نداء” فتحكي الشيزوفرينيا المفروضة بسلطة المال وإكراه العطالة، في مركز دولي للنداء يفرض اغترابا قهريا عن الوطن بتغيير أسماء المُشغَّلين ولغة تواصلهم، فيعيشون وفق خطين متوازيين يُمَثِّلُ كلُّ خط هويةً معينة، وهو ما يولّد نوعا من الانفصام والمفارقة المحزنة في حياة الشباب وانعكاس ذلك على حيواتهم الاجتماعية.

وهكذا تسير قصص المجموعة منقّبة عن مظاهر الاستيلاب، وبنياته النفسية والاجتماعية والثقافية، في شبه إحاطة بالموضوع، لم تكتمل إلا بعكس المعادلة، وتبيان الوجه الآخر للهوية، حيث الاتزان والعمق والأصالة، خاصة في قصص: “نعي كاذب” و”باب دكالة” و”خاتمة”. فقصة “نعي كاذب” يكاد المتلقي الناقد يتحفّظ على إدراجها ضمن المجموعة، لولا البعد المرآوي الذي يمكن توظيفه لتبرير إيرادها، أي أن الجد بأصالته وعمقه وتشبثه بشخصيته المغربية الأصيلة وحبه للكرم والمرح، ومحافظته على صلواته رغم المرض، يشكل صورة مضادة للهوية التي تعيش استيلابا، بوصف الجدّ مرجعا ثابتا عرضه الكاتب في شبه نوستالجيا تبتغي التذكير بالنموذج.

غير أن قصة “ماهية من دم”، تفصح بطريقة أخرى عن هذه الهوية المأزومة، من حيث الاغتراب الذي تعانيه الهوية العائدة إلى جذورها، الهوية “المأصولة” بتعبير طه عبر الرحمان، حيث تصور القصة مجندا مصريّا شابا شارك في مجزرة ساحة رابعة العدوية بمصر سنة 2013، وعند تسلمه لحوالته الشهرية، اكتشف أن المال ينزّ دما، وأن ذلك الدم سيصاحب ماله ومن ثمة حياته كلها، وقد وجدت بعض الحيرة في تحديد صلاحية القصة لتدرج ضمن المجموعة، لولا أنني اعتبرت قصة المجند تدخل ضمن ما تعانيه الهوية العائدة إلى جذورها من عقبات ومكائد ومصائد، في طريق صاعدة يصير السير فيها ملحمة كبرى يمتزج فيها التحدي والإيمان بالدم، حيث لا يرعوي المستلبون في أنظمة الحكم عن إبادة مخالفيهم والارتماء الكلي في أحضان الغرب، وهو استيلاب سياسي وتبعية وذيلية ذليلة أفضى إليها الاستيلاب الثقافي الذي جرّ إلى الاستتباع فالخضوع الكلّي.

بينما في قصة “باب دكّالة” يعالج رضا نازه إشكالية “الذمّة المعكوسة” من زاوية أخرى، هذه المرة، عبر إدانة أشكال التمدين الأعمى، اللاهث وراء الجشع الرأسمالي، والدائس المخرّب لكل خصوصية عمرانية، بل المدمّر لكل عمران أصيل تتميز به المدن ومآثرها العمرانية، ولعل رضا نازه في هذه القصة يشير من طرف ذكي إلى نوع آخر من الاستيلاب، وهو الناتج عن التأثر بالزحف الوهابي الناهي عن وصل الأولياء وتسييدهم وتعظيمهم، وهي فطنة ونباهة من الكاتب، أن صوّر الاستيلاب في بعده الداخلي، أي داخل العالم الإسلامي ذاته، حيث تمارس بعض التيارات سلطة إخضاعية أخرى، تتأمّرُ حركتَها أموال البترودولار، ولا تخدم في النهاية سوى أنظمة الاستيلاب والتبعية، وتفتل في بقاء كراسيهم وتثبيت حكمهم المضاد للهوية الصافية الحقة المتصلة سندا قلبيا وروحيا عدلا وإحسانا، والقصة في مجملها وصف لزيارة قبرين لوليّين شريفين وعالمين جليلين، (أرجح أنهما: سيدي أحمد الملاخ وسيدي محمد العلوي السليماني)، وهما معا يبقيا في النهاية سليلي “سيدي يوسف بن علي”، على وجه المجاز، أو على وجه السلالة الروحية الممتدة التي لا تحبسُ صلاتِها برازِخُ الموت ولا أحقابُ الزمن المتباعدة: جاء على لسان السارد: “لكنّ مراكش ليست عاقرا، ولا الرجل الصالح أبتر رغم شانئيه. أحسبُ من طينته هذين الدفينين في عُرض النّاس دون حاجة لِقِباب”(ص: 121).

أما قصة “خاتمة”، فهي ذلك الرجوع الفطري الملح، إلى الهوية الحقة، بعد يقظة شخصية طارئة، أو تراكمية، تقلب التوجه، وتصحح اتجاه البوصلة، وتقود القلب والعقل إلى الأصل: الرجوع إلى الله تبارك وتعالى، إذ هو سبحانه موئل الانتماء الوجودي ومصدره وعلّة وجوده وحركته، ولذلك تتخذ الهوية هنا، صفة آدمية عليا، من حيث الانتماء الأعلى، والمصدر، والموئل، والمعنى الكلي الأصلي للوجود.

  • استراتيجيا التناص والميتانص:

      • الميتانص:

يستند القاص راض نازه، بشكل واضح، على استراتيجيا كتابية تعتمد على التناص، وتوظف كذلك الميتانص، أي المتعاليات السردية، أي تلك المكونات التي تشترك مع النص في صناعة الدلالة وتوجه إليها، مثل الغلاف ولوحته والعنوان، والتقديم والإهداء، والإضاءات، وما قد يمتزج داخل النص من رؤى من خارج الكتابة، تفكر فيها من الداخل، وتتأملها في حد ذاتها.

ومما يمكن الوقوف عنده بخصوص الميتانص أو الميتاسرد، في مجموعة “الذمّة المعكوسة”، نجد:

صورة الغلاف: صورة زليج مغربي بلدي أصابه البلى واندثرت قطع عديدة منه وتلاشت أجزاء منه وألوان. وهي صورة معبّرة فعلا عمّا أراده الكاتب من تبيان ما أصاب الهوية المغربية الأصيلة من ضرر وما تعرضت له من عوامل التعرية التاريخية، جراء الاستعمار والاستيلاب الثقافي، أو ما يُسَمِّيه ابن خلدون ب”نِحلة الغالب” أي الإعجاب بالنموذج الحضاري والثقافي الغالب لدرجة انقلاب الذمّة وانعكاسها في ولاء عكسي يضاد الهوية ويعارض الجذور الحضارية الأصيلة ويخدم أجندة الثقافة الاستعمارية وينحاز لها ويتجند للدفاع عنها ويقدم لها الولاء.

التوطئة والتنويه: وتظهر قصدية الكتابة وبواعثها، كما تفصح عن جزء من دلالتها، وهي تشير إلى مصدر عنوان المجموعة، حيث شكل مفهوم “الذّمّة المعكوسة” الذي نحته عبد الله العروي مدارا تمحورت حول كل المسرودات القصصية الواردة في المجموعة، كما حاول الكاتب أن يطرح في توطئته تعالق التاريخ بالكتابة، وعلاقة التاريخ بوصفه تأريخا بالخبر بوصفه معطى سرديا سابقا.

الإضاءات: أقوال وأمثال وأشعار، ومقتطفات قصص وحكايات، وحكم ومأثورات تراثية. وهي إضاءات وتمهيدات يكون الغرض منها تأطير التلقي وتوجيه الدلالة ورسم مسارات التأويل، إضافة لكونها بمثابة الإطار العام الذي نفهم على ضوئه القصة، وقد يكون باعثا على كتابتها أو رؤية ناظمة لفكرتها وجوهر مغزاها.

إن توظيف المتعاليات النصية عند رضا نازه، يأخذ طابع التأطير والتجذير، حيث يحوز التأطير الميتاسردي القوي صفة الدمغة التي تعطي للقصة مشروعيتها وتزكي رسالتها ما دامت تظهر بمثابة مظلة رمزية ودلالية عامة تسبح القصة في مائها وتمتح من قوّتها وتعيد نسج روح الفكرة الواردة فيها، وهل يكتب أحد شيئا جديدا؟ أليست الكتابة مجرد إبداع في قول نفس الفكرة التي قالها الجميع وفكر فيها الكل، ولسنا نفعل شيئا سوى إعادة الصياغة والتشقيق والتدقيق والعَرك والفَرك؟ !

      • التناص:

ونقصد بالتناص هنا، علاقة النص الحاضر بالنصوص الغائبة، والتي تحضر فيه بصيغ وأشكال مختلفة، سواء كان حضورا مباشرا، كما هو الشأن في الاستشهاد والاقتباس، والنسج على المنوال، أو المعارضة، أو وقع “الحافر على الحافر” أو حتى السرقة الأدبية والادّعاء، أو كان ذلك الحضور يتخذ صيغا أخرى، كالأثر، والتفريع، و”الرد بالكتابة”، أي مختلف أشكال التفاعل النصي، فالمفهوم تطور بشكل كبير، مع ميخائيل باختين ثم مع جوليا كريستيفا، وتجاوز الأثر المباشر للنصوص، ليبحث عن التناص العام، وهو ما يجعل المفهوم ينفتح على بعض مفاهيم المناهج السياقية وما استجد كذلك في النقد الثقافي والدراسات الثقافية.

وحاصل القول، أنه لا يوجد نص يولد خارج التناص، فكل نص هو إعادة تدوير مباشر أو غير مباشر  لما قيل وما قرئ وما اختزلته اللغة التي تعلمناها، فكل لفظ مكتظ بمقاصد الآخرين، كما يقول ميخائيل باختين، غير أن التناص عند رضا نازه يتخذ خصوصيته، بوصفه تناصا متجذرا، مرتبطا أساسا بلغة القرآن والحديث النبوي من جهة، ومن جهة ثانية مرتبط باللغة العرفانية الصوفية كذلك، حيث تبدو جليا معالم الخريطة القرائية المسحورة بالبيان القرآني والنبوي والمأخوذة بلغة التصوف، ولذلك يبدو أسلوب القاص رضا نازه، مشدودا بشكل لافت إلى اللفظ القرآني، ومجمل اللغة الدينية، ولو في طرافة النسج على المنوال، وتقصي الأثر الحديثي أو الصوفي.

ولذلك، لا عجب أن تجدَ آياتٍ أو أجزاءَها متضمنة، اقتباسا واضحا، أو مبنيا على منوالها، بتوظيف حواملها التركيبية والدلالية أحيانا، ومن ذلك على سبيل التمثيل فقط:

  • “لكل وجهة هو مولِّيها”. ص: 60.
  • “لم يكن يعرف منهم أحدا ولا يعرفه هناك أحد ولا يُرى عليه أثر السفر”. ص: 82. (حديث جبريل).
  • “كُنَّ يتحلَّقْنَ حوله وقد أعتد لهنَّ متَّكَئا وآتى كُلَّ واحدةٍ منهنَّ سُفُّودًا فيه مكعّبات كبد وطحال وشحم ذائب لذيذ وخبزا وكوبَ شايٍ منعنع”. ص: 100.
  • “ومكثت تضحكُ كعجوز عقيمٍ بشَروها بغلام عليم”. ص: 104.

ويمكن أن نقول بأن استراتيجيا التناص عند رضا نازه، تخدم الرسالة والرؤية اللتين تؤطران عملية الكتابة لديه، بوصف التناص يمكن أن يكون نوعا من التقعيد والتسنيد، خاصة عندما يريد التبئير على بعض المفاهيم والعبارات وإخراجها من بعدها التداولي الدنيوي المباشر وإدخالها في عوالم الرمز والعرفان، وإعطائها الحمولة التربوية والروحية اللازمة، ويمكن أن ندلّل على هذا من خلال إيراد بعض الشذرات والحكم الصوفية التي وردت في المجموعة، كالآتي:

  • “القرب حجاب”. ص: 29.
  • “من عظُمت حيرتُه عظُمَتْ معرفتُه”. ص: 91.
  • “المريد يبدأ من نهاية شيخه”. ص: 91.
  • “من عرف نفسَهُ عَرَفَ ربَّه”. ص: 92.

وتجب الإشارة كذلك، إلى أن التناص عند رضا نازه لا يقف فقط عند عتبة النص المقدس أو توابعه العرفانية، بل يظهر بجلاء أيضا في الاشتباك مع الفكر والفلسفة والأدب العالمي، خاصة باللغتين الفرنسية والإنجليزية. فالتناص يفصح إذا عن موسوعية قرائية غنية، بالقدر نفسه الذي يبرز اتساع النظر والإحاطة، كما يعد فعلا مناطا للانفتاح والتجسير والمثاقفة.

  • الرؤية الواضحة وتأطير النقد:

يشتغل الحس النقدي في كتابات رضا نازه بشكل لافت، إذ يحرص على فتح نوافذ الفكرة وتمديدها وتجذيرها وتفريعها ومساءلتها وافتحاصها، ولا يتركها سائبة محمولة على وجه الاستطراد أو الوظيفة الأدائية المباشرة فقط، بل يستغل كل عبارة وكل فقرة ليوجه سهام نقده للمُكرَّس القائم، وللأنساق المهيمنة المفروضة، كل ذلك بتصويب مُركّز وطرح جذري، وثقة تفصح عن وضوح الرؤية ورسوخها

فتارة يشتبك مع الأبعاد الفلسفية للأفكار ليصدر أحكامه، كما في المثال: “من يملك التسمية يملك السيطرة كما قال نيتشه المخبول. نيتشه “الزغبي” المسكين. كان آخر عهده بعقله الجبار حين أبصر سائسا يجلد حصانَه بقسوة من “مات الإله” في قلوبهم، لا في عليائه، عانق الحصان وأجهش بالبكاء”(ص: 28).

وتارة يوظّف التأمّل للتحليل وللاستدراك:  “الالتفات يمنح التعالي والمفارقة.. ولو أن الملتفت لا يصل. أو قد يصل بعد عثرات.. أو يصل متأخرا”. ص: 70. بينما قد يوظف أحيانا تقنية الافتراض والتخمين للتصريح بحقائق جوهرية يتم بثها بسلاسة وثقة لا تعرف التردد: “ربما خَشِيَتْ أن يَخون كلامُها اقتناعا باطنيا بأحقية ’الواسب‘ من دون غيرهم. في الوجود وفي الحكم. الديمقراطية آثينية الجوهر كانت ولم تزل” (ص: 74).

وفي أحايين أخرى يكون النقد سافرا ومصلتا بشكل يوازي الحقل المنقود، وهو هنا الجشع الرأسمالي القاهر للإنسان والسالب لحريته والمستنزف لصحته والمنتهك لوجوده: “السمع والبصر والحبال الصوتية أغلى من كل رساميل المؤسسات والشركات مجهولة أو معروفة، بل أثقل في الميزان من خمسمئة عام من العبادة في جزيرة”. ص: 83.

كما يوظف تقنية التكثيف في صيغة تشبه إلى حد كبير تقنية المونتاج، فهو مثلا يقدم تحليلا اقتصاديا نبيها في ثلاثة أسطر فقط، يقدم فيها قراءة لمقومات نجاح الاقتصاد الأمريكي، يقول السارد: “يبقى أن ’التوبوب‘ على خِسَّتِهِ لعب دورا كبيرا في التاريخ الحديث.. لقد جنّب أمريكا لزمن طويل شغب نقابات أوروبا وعَنَتَ المأجورين وثوراتهم.. لا مأجورين ولا نقابات ولا صراع طبقي ولا كمونة باريس.. عمل مجّاني.. عبودية.. نمو اقتصادي مطّرد مستديم..”. ص: 75.

وقد يلجأ في بعض الأحيان إلى تضمين النقد اللاذع في مجرد توصيف يلبس لبوس مونولوغ داخلي ويركب عليه، ليبيّن نقد التهافت “النقدي الحداثي للتراث” مثلا: “هل كانت تآليفُهُ علما راسخا أم وساوس فَحَسْبُ قد بوَّبَها ورَتَّبَها وأشاعها في الناس وكان الأحرى أن يَدَعَها تتصارع وتتدافع بداخله حتّى تنقشع حقيقَتُها من زَيْفِها”. ص: 95.

ويمكن الإشارة إلى أنه إضافة لمختلف الأساليب التي ينهجها رضا نازه، وهو بصدد توجيهه لسهام النقد، وإغاراته المتكررة على المتكلّس من الأفكار، والمنحرف من السلوكات، والغافل اللاهي من البنيات، وجود نفس قوي للسخرية، حيث تصير متكأ أسلوبيا للهجوم والتعييب والتحطيم، سواء في نقد الذات أم الآخر، وأسلوب السخرية في قصص رضا يحتاج مقالا مستقلا، بوصفه استراتيجيا للتقويض دون تبعات، لجأ إليها في كثير من الأحيان لتحقيق الإصابة البالغة من وراء نقده أو نقضه، يقول السارد مثلا عن كثرة المتبارين وقلة المناصب: “هذا تخصيب.. هذا ماشي امتحان” (ص: 87)، ويقول في نفس القصة في خلاصة مريرة حول عدم نجاح صديقه المتباري: “حمد الله ما ضربوكش بالتّيُّو حمر هههههه”(ص: 88).

إن السخرية في مجموعة “الذمّة المعكوسة” ليست سخرية الألفاظ أو العبارات فقط، وإنما سخرية الموقف، والمفارقات، والسخرية السوداء، إنها سخرية لمّاحة أيضا، تحتاج فطنة وذكاء من أجل تفكيك شيفرتها وقراءة رسائلها، فقد تحمل رؤية نقدية متكاملة، رغم أنها قد تبدو عابرة وجزئية، ومن ذلك مثلا، قول السارد:  “لانّ الوقت لو طال أكثر فقد تُؤخَّرُ الصلاةُ عن وقتها الذي نصَّ عليه جدول الأوقاف المُعلَّقِ بين المحراب وشاشة التِّلْفازِ المُحْدَثَة”(ص: 126)، وانظر إلى أن وقت الصلاة صار هو الوقت المعلّق في اللائحة وليس الوقت الشرعي الذي حددّه الإسلام، وانظر إلى لفظة “المُحدثة” بعد التلفاز وما تشير إليه وتنفتح عليه من تأويلات، حيث “كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة” كما يقول خطيب الجمعة في المأثور المُشاع.

  • اللغة أمضى سلاح في الكتابة:

لا بد من التأكيد أن القاص رضا نازه يستند بجلاء في كتابته القصصية على اللغة أساسا، ويوظف نوعا من الذكاء اللغوي الحاد، سواء في توظيف لغة متينة دقيقة مسبوكة تتميز ببراعة الترصيف ولطافة النحت، أو من خلال تجنبه التخمة اللغوية والإطناب الأسلوبي، وميله نحو التدقيق والترقيق، وسعيه إلى توسيع الدلالة من خلال توظيف الرمز والإشارة والتلميح، أو عبر تفجير المعنى بإعادة الصياغة والبناء، وتفكيك اللغة، بصيغة اشتقاقية لفظية، أو تقابلية دلالية، تصعيدا للمعنى وفتحا لآفاق الدلالة، ومن ذلك التكثيف النّزّاع إلى شبه بحث عن الحكمة، نجد مثلا:

  • “المغرب دعوة إدريس. ودعاؤه”. ص: 29.
  • “القوانين ضمير من لا ضمير له. الذِّمَمُ عليها المُعَوَّل”. ص: 30.
  • “المشي من الحكمة”. ص: 36.
  • “فالمال يجبر الخيبات”. ص: 21.
  • “وزبون النفس… هل يسكت قط؟”. ص: 25.
  • “الصورة أولى من الواقع وأحب”. ص: 26.
  • “الصنم الأنثويُّ لا يعترف بالفصول.. يجب أن يبرز طول السنة”. ص: 26.
  • “القسوة تنفع الراشد. الرشدُ جدَاءٌ من صدمات وخيبات”. ص: 85.

كما تجب الإشارة إلى أن من الذكاء اللغوي الذي يميز كتابة القاص رضا نازه، حسن توظيفه للتناص، وخلق حالة من الانزياح الدلالي المقصود، إضافة إلى منزع ابتكار عبارات ساخرة معبرة، أو صياغة جمل تقتفي أثر الحكمة العرفانية وتريد أن تكونَها، (لما لا؟!):

  • “الشِّوَاءُ خيرٌ من النّوم”. ص: 99. (وهو تناص بديع ونحت ظريف لعبارة تستعير من صيغة الأذان مغزاها وجرسها وتسترق من قدسيتها بعض القيمة لتوازيها بقيمة الشواء).
  • “هي تندهش إذن هو فهو موجود”. ص: 75. (نسجا على صياغة الكوجيطو الديكارتي الشهير).
  • “شباب حائطيين”. ص: 76.
  • “ما زالت في المطبخ تهيئ الطبعة الثانية من طعام احترق جُلُّهُ”. ص: 102.
  • “انسَ السُّؤالِيَةَ منذ الآن وقف على قدم المسؤولية”. ص: 96.
  • الرسالة أساس وبوصلة

من أبرز مقومات الكتابة القصصية لدى رضا نازه، نجد وضوح الرؤية كما قلت، والذي بالقدر الذي يوفر مستندا متينا لتوجيه النقد وإعادة النظر في المكرّس المفروض، والنّاجز المسنود، فإنه يرجع بالأساس إلى حضور النفس الرسالي بشكل واضح، إذ “ما يلفظ من قول” إلا ويرجو تحميله معنى من معاني اكتشاف الذات، وحسن فهم العالم، أي جَعْلُ الكتابةِ ودروبِها سُبُلًا للعودة ومسالِكَ للفهم، وجسورًا للعبور، وذَوْقَ المعنى، ومعرفةَ النفس، إذ هي عين معرفة الله، ولذلك لا يتردد الكاتب في بث رسالته، في كل موطن ومنعطف، في كل سطر وكل فقرة، وقد يميل إلى تركيز الرسالة على شكل عبارات مكثّفة دالّة، تشبه خلاصات الأولياء وحكمهم، وقد تكون مجرد مستند جمالي كتوظيف الوصف والتشبيه: (التشبيه بوِرد الذكر، تشبيه القفا الحليقة لشاب برأس المعتمر، أو توظيف الذاكرة: (فض الصلاة بعنف في كلية العلوم)، أو التضمين في السياق (حرص الجد على التيمم والصلاة رغم المرض)، بل حتى توظيف المقام المضاد عند المفارقة: (تصريح السارد ساخرا “هل يجب أن أرى فولتير في المنام  كي يعترفوا به!)، وهنا يصر الكاتب على تثبيت مفهوم الرؤيا بوصفه مقوما من مقومات التصور الإسلامي وجزءا لا يتجزّأ من عقيدة المسلمين.

إن الحرص على الرسالة لا يتوسّل عند رضا نازه بالخطاب الدعوي المباشر، ولا يسقط في المنبرية الفجّة، ولا يبخس جوانب الصنعة الفنية شيئا، بل هو لَفتٌ نبيه، وتلميح ذكي، و إشارة يسبقها فَرْشٌ تمهيدي، وتوابل يستسيغ بها المتلقي نكزة المحبّة والتنبيه اللطيف، بشكل يتم معه تجنّب الصيغ الوعظية، وتوظيف الوعاء الجمالي سبيلا لتجميل الرسالة وتحبيبها في لطافة وتلطّف، إن الرسالة في قصص راض نازه استحضار وإصرار، ورفض للانجرار والاجترار.

بقيت الإشارة في الأخير إلى أنه من اللازم الإدلاء ببعض الجوانب التي تتطلب مزيدا من الاجتهاد والتطوير، والحذر كذلك، وأجملها في ثلاث ملاحظات أساسية:

  • ضرورة الحذر من السقوط في الإلغاز والتغميض، نتيجة المبالغة في الإيحاء والترميز تعويلا على ذكاء المتلقّي ونباهته وسعة اطلاعه.
  • سيكون من المُثري للكتابة عند رضا نازه أن تنزاح قليلا عن البعد السِّيري الذي يلقي بظلاله على قصص، رغم أنه أمر لم تفلت منه معظم السرود المغربية كما يذهب إلى ذلك عبد الكبير الخطيبي، ورغم ذلك يمكن التوجّه نحو الاشتباك بشكل أوسع وأعمق مع قضايا المجتمع الأكثر تعقيدا، تصعيدا لفعالية التخييل، وإثراءً للكتابة وفتحا لآفاق جديدة.
  • يمكن أيضا الاجتهاد بشكل أكبر في تنويع الصيغ السردية والأسلوبية، والسعي لاكتساب تقنيات جديدة، تتناسب مع القضايا المطروقة، وتضفي المزيد من الجمالية والفرادة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.