فلنعد قراءة السيرة النبوية
بقلم: الأستاذة ثورية البوكيلي
إن أهمية دراسة السيرة النبوية وفهمها، ليس مجرد الوقوف على الأحداث التاريخية، أو سرد القصص والروايات، وإنما المقصد منها؛ أن يفقه المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها مجسدة في هديه صلّى الله عليه وسلم في شؤون الحياة كلها، لكي يجعل منها دستورا يتمسك به ويسير عليه. لذا وجب علينا إعادة قراءة السيرة النبوية عن طريق الوقوف مع الأحداث التي تعيننا على بناء الأمة، ومن ثم فإننا ندرس السيرة لا على سبيل الحصر ودراسة التفاصيل، وإنما على سبيل الفهم والوعي؛ لتكون لنا دليلا على طريق النهضة والإصلاح، فهذا هو المنظور الصحيح لدراسة السيرة النبوية. وهذا ما أكده الحبيب المصطف يقوله:” إنَّ مَثَلَ ما آتاني اللهُ مِن الهدى والعِلْمِ كمثَلِ غيثٍ أصاب أرضًا فكانت منها طائفةٌ طيِّبةٌ قبِلت ذلك فأنبتَتِ الكلأَ والعُشبَ الكثيرَ وأمسَكتِ الماءَ فنفَع اللهُ بها النَّاسَ فشرِبوا منها وسَقوا وزرَعوا وأصاب منها طائفةً أخرى إنَّما هي قيعانٌ لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأً فذلك مَثَلُ مَن فقُه في دينِ اللهِ ونفَعه ما بعَثني اللهُ به فعلِم وعمِل، ومثَلُ مَن لم يرفَعْ بذلك رأسًا ولم يقبَلْ هدى اللهِ الَّذي أُرسِلْتُ به”[1].
مركزية السيرة النبوية في بناء الإنسان
إن أخطر ما يواجهنا هو خطر إهمال تزكية النفوس وإنماء الذات وتطويرها؛ إذ إن الكثير منا ينتظر بروز التغيير من الآخر؛ من جيل جديد، أو من سياسي مُحنك، أو حكومة مثالية، مما خلف لدينا عقلية انتظارية، تجدنا لا نقدِّم أي جهد، ولا نبذل أي وسع، راضين بواقعنا، غافلين عن حقيقة أن التغيير الحقيقي يبدأ من داخل الإنسان كما أخبرنا الله عز وجل: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”[2]. فنحن في حاجة ماسَّة إلى بناء ذواتنا عبر تزكية النفس بوضع أوامر الله عز وجل مواضعها في كل جوانب حياتنا، نصطبغ بصبغة الله، وننضبط بطاعة الله، نسعى سعي الآخرة لا كدح الدنيا. ولن يتحقَّق ذلك إلا بالعودةِ إلى النَّبع الصافي، وإلى التعلم مِن خير مُعلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أشار إ الله في قوله: “لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ“[3].
مركزية السيرة النبوية في بناء المجتمع
إن المتتبع لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم في إحداث الانتقال المطلوب من قيم الجاهلية إلى قيم الإسلام يُدرك سماحة الإسلام؛ كما يُدرك كفاية هذه القيم للمجتمع الإسلامي أمام تحديات العصر ومغرياته. فكان نهجه صلى الله عليه وسلم في انتقاء القيم النبيلة والسمو بها نهجا غير مسبوق؛ وكان له عظيم الأثر في وضع لبنات المجتمع الإسلامي الذي سيرسي في أقل من قرن من الزمان دعائم حضارة لم تشهد لها البشرية مثيلا. يقول الدكتور جابر قميحة “.. ثم جاء الإسلام – خاتما للأديان- وهذه الخاتمية تقتضي أن يكون أكمل الأديان وأوفاها بحاجات الإنسانية؛ وأبرعها في معالجة الأدواء التي حوتها قائمة القيم الجاهلية؛ واختلف موقف الإسلام من هذه القيم تبعا لنوعيتها ” [4].
مركزية السيرة النبوية في بناء الأمة
الأمة الإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى إعادة دراسة سيرة نبيها صلى الله عليه وسلم لترتفع إلى مكان الصدارة والريادة، وتحصل لها القدرة والتمكن من القيادة الراشدة للمجتمعات الإنسانية، ومن إعادة إحياء الأمة من خلال استثمار هذه السيرة في جميع المجالات وعلى كل المستويات. فالمطلوب هو تكييف مبادئ الإسلام على الواقع من خلال دروس التجربة الأولى لتطبيق الإسلام، “فدراسة السيرة النبوية في المجتمع الجاهلي الأول تعطينا نموذج النشأة، ومعيار القيمة، وحقيقة التاريخ، وحظ الجهد البشري، وحياطة العناية الإلهية، وشروط هذه العناية. تعطينا صورة لسنة الله في فترة الميلاد الإسلامي نستهدي بملامحها العامة في سيرة التجدد الإسلامي. مع مراعاة النقلة الزمانية، وانقطاع الوحي الموجه للحركة الأولى يحل محله الاجتهاد والتسديد والمقاربة، ومراعاة وجود مجتمع مسلم في الحاضر انحلت عراه لكنه لا يزال مسلما“[5].
مبادئ ومواقف صنعت الأولين، تخرجوا من مدرسة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار فخطوا على دفاتر التاريخ سطورا من نور، وكان هذا هو سر نهضة الأمة الإسلامية. ولم يكن هذا التاريخ المجيد بلسما للعزاء فقط، بل كان مصدر اعتزاز وبارقة أمل. بما أن الأجداد بنوا أمة ناهضة صانعة حضارة بعد أن لم يكونوا إلا قبائل متفرقة متقاتلة في أصقاع جزيرة العرب، فما المانع أن نعيد نحن الأبناء تلك التجربة ونستعيد تلك الأمجاد. ولا سبيل إلى ذلك إلا بالرجوع إلى تحكيم شريعة الله، والاستقامة على أمر الله، وذلك ما تعبر عنه مقالة إمامنا مالك: “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”. ذلك ما نفهمه نحن من مقالته رحمه الله. وذلك ما سجله تاريخ مضى، ويخطط له تاريخ مستقبل إن شاء الله.
[1]صحيح ابن حبان
[2] سورة الرعد، الآية 11
[3] سورة ال عمران، الآية 164
[4] د.جابر قميحة . المدخل إلى القيم الإسلامية، ص30
[5] سنة الله، ص: 26