“المشغِّل الأكبر – The Real Recruiter “| أفكار في التوجيه (المبدأ 3)
بقلم: مصطفى شقرون
في الحلقة السابقة، رأينا أنه لا توجد علاقة أوتوماتيكية بين السيرة الذاتية وإمكانيات صاحبها والمنصب المتاح أو المنصب الذي يشغله.. وأن التقريب بين الشخص وسيرته خلال سويعة مقابلة العمل ليست كافية لتحديد ما إن كان يستحق “أحداث” سيرته أو لاستشراف كفاءته مستقبلا إذا ما أسندت له المهمة..
ونعطي لذلك أمثلة من التاريخ القديم والقريب.. ومثالين شخصيين.. ليعيد القارئ مشاهدة فيلم مساره المهني والحياتي.. بعيون جديدة.. وبصر حديد..
1- اشتغل نبي الله موسى عليه السلام ثمانية أعوام -وربما عشرا- أجيرا بسيطا في المجال الزراعي.. مع أنه حاز تعليما متكاملا في زمانه.. علميا وأدبيا وعسكريا وهندسيا ورياضيا يليق بالأمراء..
هل كان هذا خطأ في التوجيه.. أو نتيجة ظروف قاهرة.. كلا !
بل هو عين التوجيه من أحسن الموجهين.. الله رب العالمين..
قال الله تعالى متكلما عن كليمه : {ولتصنع على عيني}..
وقوف سيدنا موسى الفائر قوة وصلابة وهمة وعزما وسرعة.. تحت شمس مدين في حقولها ووراء غنمها وفي صف سقايتها.. لمدة 2.900 يوما بلياليها الباردة والدافئة والمقمرة والحالكة والمنيرة بأنجمها ومجراتها.. وانتظاره.. وشظف العيش.. وجهد البدن.. وخشونة الطين والزرع والحبال والأحمال.. من الفجر إلى ما لا أعلم من آخر النهار..
كان تدريبا لمعرفة واقع الواقع.. لا مثالية التنعم.. ولاكتساب خصلة الصبر التي سيحتاجها بشدة في حياته المهنية عندما سيترقى لمنصب رسول يبلغ عن رب العالمين.. وسط بيئة تتسم أغلب شخصياتها بسرعة الجحود ونكران المعجزات الإلهية المباشرة..
ماذا لو كان صادفه أحد طلاب مدرسته الفرعونية السامية في تلك الفترة بمدين.. ماذا كان سيكون رأيه في حال موسى الأمير.. ولباسه.. وطبيعة عمله.. ؟
من أين له أن يعرف أن سيدنا موسى كان في تدريب مؤقت مؤدى عنه (paid internship) يؤهله لشغل أكبر المناصب في العالم على الإطلاق ؟..
وحتى سيدنا موسى.. عليه السلام.. لم يكن يعرف.. إلى يوم آنس من جانب الطور نارا.. يوم المقابلة.. الذي سيستلم خلالها مهامه الجديدة..
إن مشغل سيدنا موسى هو من ألهم مدة تدريبه إلى أب الفتاتين.. ثماني حجج.. أو عشرا.. مدة طويلة.. في بيئة بعيدة.. غير متحضرة تحضر مصر حيث ترعرع..
تدريب شاق.. بل تربية تليق برسول الله.. عليه وعلى سيدنا محمد الصلاة والسلام..
توجيه إلهي..
{ واصطنعتك لنفسي } (طه – 41)..
وإن كان في ظاهره محنة وفترة وفقر..
2- سيدنا علي ابن أبي طالب شجاع بدر وما تبعها.. وباب مدينة العلم النبوي يشتغل لفترة عند يهودي على أن ينضح له من بئر بستانه، ومقابل كل دلو تمرة فقط..
لا علاقة بين المستوى العلمي والمنصب.. ولا بين سيرة الإمام علي رضي الله عنه وبين هذا العمل الاضطراري ظاهرا.. الضروري حتما..
إنما هو تدريب لمن زوجته بنت سيد المدينة والجزيرة العربية صلى الله عليه وسلم..
بل هو تدريب على خصلة العمل وضرورة التكسب لمن سيرتقي لمنصب الخليفة.. أمير المؤمنين..
3- أحد الأعيان من فارس كان ابن كبير الكهنة.. مال ونعمة ونفوذ وجمال وما شئت.. يشتغل “عبدا”.. يصعد إلى النخل لجني التمر سنوات.. في انتظار أن يقابل الحقيقة.. ما علاقة مستواه وهمته بشغله ورقّه؟.. رضي الله عن سيدنا سلمان الفارسي.. الذي حاز شرف الانتماء لآل البيت عليهم السلام.
4- وهكذا شغل سيدنا يوسف منصبا ديبلوماسيا كبيرا برغم سجنه وسيرته الذاتية التي لا تؤهله -بالمنطق الانساني المحدود- لمنصب كهذا..
5- وكان عدد من الأنبياء والصالحين رعاة أو صناعا أو تجارا قبل توليهم رئاسة دولهم (ساداتنا داوود ويوشع وطالوت.. )..
6- بعيدا عن قادة الانسانية السالف ذكرهم.. انبياء ومن تبعهم.. نذكر أكبر رواد العلوم الكونية ومسيرتهم التي لا توافق دائما مكانتهم.. وشغلهم.. فقد اشتغل اينشتاين مثلا في ارشيف مصلحة شهادات الاختراعات في سويسرا لكسب لقمة العيش.. ولم يجد عملا بسهولة.. لولا تدخل صديق له.. (زبونية).. وقبلها فشل في مباراة ولوج مدرسة بوليتكنيك في سويسرا.. وقبلها طرد من ثانوية لويتبولد. بميونيخ بالمانيا..
اينشتاين.. فاشل.. مطرود..
يا من تخافون على توجيه ابنائكم !!! و”تضييعهم” لسنة أو لبضعة أشهر..
7- والأمثلة لا تكاد تحصى.. لكنها ليست كلها من سير الأولين..
كان أكبر أجر لمنصب أشغله “مصادفة” جميلة.. وإن حزت به افتخار من حولي..
بل قدرا حتى لا أنسى أنني “أنا” و”سيرتي الذاتية” من اسحققنا الوظيفة…
مساهمتي في المسألة أنني كتبت لألف 1000 شركة ومُشغل.. لأنني تذكرت إحصائيات في دول متقدمة تقول أن معدل الجواب على المراسلة بين واحد واثنين بالمائة (٪1 – ٪2)…
هذا ما فعلت “لأعين” القدر..
أسباب.. واجبة.. ضرورية..
لكن لم يجب أحد.. برغم تفانيّ في عملي.. وبرغم شهرة الشركة التي أعمل بها وقيمة أسهمها في البورصة.. فالبلد منهك اقتصاده.. مهربة ثرواته.. ما نتج عنه انهيار سوق العمل فيه..
لكني عليّ أن أكمل ما عليّ القيام به.. إلى الآخر.. فكلما رجعت إليّ رسالة بدعوى أن العنوان البريدي خاطئ، أهاتف الشركة لأخذ العنوان الصحيح وأعيد إرسال طلبي وسيرتي الذاتية.. وهكذا..
وفي مرة، هاتفت شركة تشغيل آخر الاسبوع فأجابني صاحبها، فأخبرته أن عنوان بريدهم لا يعمل.. وكان يظهر من طريقة ردّه أنه كان على عجلة من أمره.. فأعطاني العنوان.. وسألني عن منصبي.. فاما أجبت، قال لي: “هناك زبون يبحث عن مدير مالي.. انا لا وقت لدي لأراك.. إذهب عنده لاجتياز مقابلة العمل مباشرة..”
في بداية الاسبوع، اتصلت بااشركة وذهبت واجتزت المقابلة… وبعد اسبوعين اتصل بي الرجل ليخبرني أنني قبلت.. وليطلب مني الحضور ليتعرف عليّ على الأقل.. قبل أن يرسل فاتورته للزبون…
عندما التقينا.. أخبرني ان مكتبه كان مقفلا يوم اتصلت به.. وأنه كان في طريق سفر إجازة الصيف مع أولاده.. لكنه كان قد نسي شيئا ما في المكتب (شاحن هاتف على ما أذكر).. فمرّ بالمكتب ليأخذه بسرعة..
فلما صعد إلى مكتبه، وجد الهاتف الثابت يرن.. ومع أنه كان في عطلة.. ومع أنه كان قد ترك زوجته وابناؤه ينتظرون في السيارة.. إلا أنه أحس أنه عليه أن يردّ على المكالمة.. فوجدني اسأل عن العنوان الصحيح لشركته…
هل السبب في أكبر أجر تقاضيته.. شاحن.. أم رنة مُلِحّة في مكتب فارغ.. في وقت وجيز.. صادف وقت دخول غير مرتقب..
إنه الله من شغلني..
ننسى أن الله هو الرازق..
في غمرة رؤية الأسباب الصغيرة العابرة..
تعالى الله وتبارك..
هل هناك مدعاة لفخر؟..
إنّما هي مدعاة.. للشكر..
8- وأجمل منصب مكنني من السفر إلى دول كثيرة عبر العالم.. وكان مصدر فخر من حولي.. منصب مدقق دولي.. كانت الشهادة المطلوبة لأجله دولية.. لم تكن لدي لأسباب مالية.. لكنني بعثت الطلب مع ذلك (فما أغراني في الإعلان كثرة السفر لا طبيعة العمل ! ) ..
واجتزت مقابلة العمل مع مدير فرنسي.. يعبد -كمواطنيه- الشهادات.. وقال لي أن طلبي سيرفض -للأسف- لأنني لا أمتلك الشهادة المطلوبة مع أن المقابلة كانت جيدة..
وفي الغد.. اتصل بي قائلا.. لقد جاء من الولايات المتحدة -ولم يكن ذلك مخططا له- المدير المركزي للتدقيق لإعادة كل المقابلات.. ولم يستثن مرشحا واحدا لشهادته..
فالأمريكان -في التسيير- يقدرون الرجال.. لا الأوراق..
فقُبلت… وسافرت كثيرا.. وتعلمت كثيرا.. لشيء في قدري.. لا للتدقيق الدولي.. فقط..
شكرا ربي.. كثيرا.. جدا جدا.. شكرا يليق بنور وجهك.. وملكوتك.. وقدرتك.. وأفضالك.. ورحمتك..
مما تعلمت.. في خضم المنح.. والمحن.. والاستقرار المهني.. وعدم الاستقرار المؤقت وإن طال..
أنه الله..
من يوظف..
لا أنت.. وما درستَ …وتعلمتَ..
ولا شهاداتك..
ولا سيرتك الذاتية..
إنه الله.. الرازق..
ولا رازق غيره..
حتى لا ننسى ذلك..
إذا أراد الله شيئا..
أوقف الشمس.. لأجله..
وشق البحر..
والحجر..
والقمر..
لا إله إلا الله محمد رسول الله..
ملحوظة : الصورة توحي لمكان مقابلة عمل سيدنا موسى عليه السلام…