“سيرتك الذاتية cv لا تمثلك ! “| أفكار في التوجيه (المبدأ 2)
"سيرتك الذاتية cv لا تمثلك ! "| أفكار في التوجيه (المبدأ 2) / مصطفى شقرون
“سيرتك الذاتية cv لا تمثلك ! “| أفكار في التوجيه (المبدأ 2)
بقلم: مصطفى شقرون
مرمى الحلقة أن نعرف أنفسنا..
وهذا من أول أسباب النجاح..
فانت لست سيرتك الذاتية.. أبداً..
والهدف الثاني أن نعرف أنه ليست هناك علاقة لازمة دائمة مطردة بين السيرة الذاتية (curriculum vitae) وبين قدراتك وبين المنصب الذي تشغله أو نجاح أو تعثر المشروع الذي تقوم به..
وغايتي من هذه الحلقة ألا نبتئس، إن لم يوافق عملنا أحيانا.. أو أجرنا.. مؤقتا.. ما أودع الله فينا من قدرات..
وأن لا نقارن مسيرتنا بالآخرين..
وأن لا نيأس بعد أي رفض..
فالمشكل ليس فيك بالضرورة..
فليس كل من زاد أجره.. أو منصبه.. يستأهله.. أو يوافق دقة قراراته.. أو القدرات اللازمة لمنصبه..
فلننظر حولنا.. أو في الجرائد ونشرات الأخبار.. لنتأكد من هذا..
إن السيرة الذاتية جرد لحوادث سير.. لا لحياتك…
1. فيها اسم مدرستك الأولى : لم تخترها.. كنت صغيرا.. قادوك مرغما.. باكيا ربما..
2. فيها شعبة الاعدادي والثانوي : هل اخترتها فعلا ؟ .. كنت أريد ان أكون رساما عندما “اخترت”.. ههه… “العلوم التجريبية”… وفيها الرياضيات.. وكنت حينها أكرهها..
ولست نادما على اختيار كان خاطئا حينها.. بالنسبة لي..
3. فيها المدرسة العليا : هل فعلا كنت ترغب فيها ؟.. أو كنت تعرف كل مواد الدراسة فيها مسبقا ؟.. أم هو المعدل أو المباراة أو رغبة الأم الحنون أو الأب الطبيب أو المهندس.. صيرتها رغبتك ؟.. رغبا.. ورهبا.. أو كسلا..
اجتزت مباريات الطب ومدرسة للتجارة (لا علاقة بينهما.. إلا عند بعض الأطباء.. كما سأكتشف بعد جيل..) ومدرسة للإحصاء..
في قرارة نفسي، كنت أريد أن أصبح عالم فلك.. ربما في ناسا.. فإذا بي ألج مدرسة التجارة.. وأدرس المحاسبة.. والجباية.. وكرهتهما.. كره الكاره للمكروه.. سنين طويلة.. خمسة عشرة سنة..
لكني في هذه الفترة، كنت طالبا مجتهدا.. وبعدها، كنت مديرا ماليا جيدا..
ولست نادما على اختيار كان خاطئا حينها.. بالنسبة لي..
لم أبك حظي أبدا.. وسنأتي لهذا في حلقة “أخطاء التوجيه.. ليست أخطاء !”
4. في السيرة الذاتية أسماء شركات ولجتها غالبا لأنهم -هم : من حاوروك- قرروا اختيارك من بين آخرين.. بطريقة لا يمكن أن تكون صائبة دائما.. لقصر وقت المحاورة.. أو لعدم مناسبة الأسئلة والاختبارات لنفسية المنافسين ذلك اليوم.. أو لإظهار إمكانياتهم التي لا تخرجها الأسئلة المطروحة.. عدا الكلام عن مستوى المحاور.. ومستوى “الثقافة الداخلية” للشركة.. والزبونية.. وهيأة الطالب للشغل وشكله.. وأشياء غير موضوعية كثيرة.. وقبل كل هذا.. وجود منصب شاغر للشغل في هذه المؤسسة..
كمثال حي : حين يرى مشغل سيرتي الذاتية (عليّ وعليك أن تدافع عن سيرتك الذاتية لكسب المنصب.. وعليك أن تعمل بكل كفاءة بعد أخذك المنصب : وهذا أول شيء يرجع لك..).. يرى فيها “ثراء” و”نجاحا”.. لكني أعرف أن الأمر ليس كما يتصوره.. !
أعرف أنني كنت هناك في الوقت المناسب فقط..
قدر !
لا أنسى ذلك.. لأن الغرور أول شيم الفاشلين..
أجمل منصب شغلت وأكبر أجر حصلت عليه كانتا “حادثتين” كباقي حوادث سيرتي الذاتية !
مصدفتان غريبتان.. لا يد لي فيهما..
ربما كنت استأهلهما.. لكن.. لست وحدي.. فهناك عشرات أو أكثر ممن كانوا مطابقين للمنصب أكثر مني..
لا أنسى ذلك..
ولا تنسياه بُنيّ وبنيّتي أبدا.. في غمرة الفرح بالمنصب والأسفار.. وفي غلط النظر إلى سيرتكما الذاتية.. وفي عادة النظر إلى نفسكما من خلال عيون الوالدين الفخورين.. أو عيون الأقران الغابطين..
ونأتي على ذكر هذا في الحلقة الرابعة.. إن شاء الله..
5. قد تغري المشغل أسماء المؤسسات الكبرى التي اشتغلت بها.. لكنك تعرف جيدا أن هناك فرقا -شاسعا أحيانا- بين شهرة المؤسسات وبريق اسمها في سيرتك.. وبين واقعها الداخلي.. وإن سنين العمل في كبريات الشركات وتجربة التشخيص الاستراتيجي، علمتنا أن لا ننبهر بالمؤسسات وإن كانت دولية عابرة للقارات.. وإن كانت رائدة في مجالها.. ذلك أن المؤسسة في الأصل ليست اسمها.. ولا بناياتها.. وإنما مجموع أناس يعملون بها.. وبيئة محيطة بها..
وإن هناك مشكلا كبيرا في الدول “النامية” يؤثر على سير المؤسسات وتسييرها.. وهو التربية المضطربة لأفرادها..
فقد اشتغلنا في بعض المؤسسات الرائدة -وحتى في فروع الشركات الدولية- واندهشنا كيف يحكمها الخوف بل يسيرها الخوف.. وأن سمة العلاقات بين الناس فيها -لذلك- التذلل أو الغش أو الحروب الداخلية والزبونية (nepotisme) والغيبة والنميمة والتحاسد والتناجش والتباغض.. وغياب العدل في التعامل وفي الأجور والترقيات..
أدواء.. تحاكي “داء الأمم”.. التي هي فيها.. والتي منها أتى موظفوها..
غياب التربية.. لغياب المحبة بين الناس..
قال صلى الله عليه وسلم واصفا أصل “داء الأمم” : “دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبَغْضَاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشِّعر، ولكن تحلق الدِّين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أُنبِّئكم بما يثبِّت ذلك لكم؟ أفشوا السَّلام بينكم” (1)
أمراض قلبية.. ودواؤها في القلب كذلك.. في التربية على الإيمان والإحسان.. التي تبدأ ببناء مجموعة مختلفة.. متحابة في الله.. في صحبة قلوب صافية.. همها الأول والأخير وجه الله.. ومهمتها خلافته في أرضه.. بالحب والعدل..
وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاج قائلا :
“والذي نَفسي بيدِهِ ! لا تَدْخُلوا الجنةَ حتى تُسْلِمُوا ، ولا تُسْلِمُوا حتى تَحابُّوا ، و أَفْشُوا السلامَ تَحابُّوا ، و إِيَّاكُمْ و البُغْضَةَ ؛ فإنَّها هيَ الحالِقَةُ ، لا أَقُولُ لَكُمْ : تَحْلِقُ الشَّعْرَ ، و لكنْ تَحْلِقُ الدِّينَ”
العلاج المحبة.. تربية على المحبة..
تربية ثم تربية ثم تربية..
6. أين أنت في سيرتتك الذاتية إذا ؟
وماذا بقي أصلا في السيرة الذاتية ؟
يبقى الشيء الوحيد -في نظري- الذ يمثلنا في السير الذاتية لا يتعدى سطرين.. وهو ما ندعوه -ثانويا- بالهوايات (hobbies)..
وهي في الحقيقة قدرات استودعها الله فينا.. مختلفة عن قدرات جيراننا.. لنستعملها معهم بتكامل.. لغرض أسمى..
إنها “نحن”..
وأغلبنا يعيش ثم يدفن دون استعمالها.. بل وحتى دون معرفة وجودها.. في غمرة الانشغال بالوسائل..
سطران فقط يخصاننا..
سطران منسلان وسط أسطر وصفحات من الحوادث.. حوادث الدهر..
وهما السطران اللذان لا نتورع في الكذب فيهما..
فهناك من لا يكترث لهذه الفقرة ويكتشف أثناء مقابلة العمل أنه يلعب التنس.. والأدهى أن محاوره عاشق للتنس.. والأَمَرُّ أنه مولع بطرح أسئلة حول التنس.. (مشكل “نسخ وإلصاق” من طرف عامل المكتبة المكلف بتحيين وطبع السير الذاتية بناء على سير)..
وهناك من يمر على هذه الفقرة مر السحاب.. فيكتب “كرة القدم” و”السباحة”.. لعدم وجوب البرهنة عليهما.. ولمجانية مزاولتهما في الشارع والشاطىء..
وهناك من يزيد “قراءة الكتب”.. وهذا شائع.. فليدع الله أن لا يسأله أحد عن آخر كتاب قرأ.. وليدعه كذلك أن لا يكون سائله قد قرأه..
لا نعرف أنفسنا..
ولن نعرفها من خلال سيرنا الذاتية..
إن رحلتنا في الدراسة والعمل وبناء الأسرة والحياة عموما.. لا تتقوف عند محطة التوجيه..
فهونوا على أنفسكم.. آباء.. وأبناء.. :
فليس التوجيه مفترق طرق..
إنما مفترق الطرق الحقيقي :
1- معرفتك لنفسك حق المعرفة..
2- معرفتك لمهمتك خلال الحياة.. ولأهدافك الحقيقية.. أو كما يقولون : معنى وجودك ؟
3- معرفة أن توجيهك وتدريبك وعملك وأجرك وسائل ضرورية.. وليست أهدافا في حد ذاتها..
فعندما يتضح الهدف..
تهون الوسائل..
بل تتعدد الوسائل..
وتقل أخطاء التوجيه..
لأنه لم يعد هدفا..
بل وسيلة يمكنها اتخاذ أشكالا مختلفة..
وطرقا منعرجة..
غريبة في الظاهر..
لكنها موصلة..
(1) الرواية عن الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه.. والحديث رواه التِّرمذي، وأحمد، وأبو يعلى، والبيهقي. قال التَّرمذي: اختلفوا في روايته. وجوَّد إسناده المنذري في التَّرغيب والتَّرهيب، والهيثمي في مجمع الزوائد، وحسَّنه الألبانيُّ في صحيح سنن التَّرمذي.
(2) الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه.. والحديث أخرجه مسلم بنحوه مختصراً، والبخاري في “الأدب المفرد” واللفظ له