حضي لفظ ” الخطاب “ في لغة العرب باشتقاقات متنوعة، ولبيان ذلك نورد النقول التالية:
- ففي (تهذيب اللغة) لأبي منصور الأزهري الهروي” خطب: قال الليث: الخطب سبب الأمر.تقول: ما خطبك؟ أي: ما أمرك؟ وتقول: هذا خطب جليل وخطـب يسير. وجمعه خطوب.” [1]
- وفي (الصحاح) للجوهري “والأخطب: الشقراق، ويقال الصرد. وأخطب الحنظل، إذا صار خطبانا، وهو أن يصفر وتصير فيه خطوط خضر.”[2]
- وفي (معجم مقاييس اللغة) لابن فارس “(خطب) ومن الخطبة في ذلك. وفي النكاح الطلب أن يزوج، قال تعالى﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَاعَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾،[3] والخطبة: الكلام المخطوب به. ويقال اختطب القوم فلانا، إذا دعوه إلى تزوج صاحبتهم.”[4]
- وفي (أساس البلاغة) للزمخشري ” ومن المجاز: فلان يخطب عمل كذا: يطلبه. وقد أخطبك الصيد فارمه، أي أكثبك وأمكنك وأخطبك الأمر، وهو أمر مخطب، ومعناه أطلبك من طلبت إليه حاجة فأطلبني.”[5]
- وفي (لسان العرب) لابن منظور ” والخطاب والمخاطبة: مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا، وهما يتخاطبان. الليث: والخطبة مصدر الخطيب، وخطب الخاطب على المنبر، واختطب يخطب خطابة، واسم الكلام: الخطبة، قال أبو منصور: والذي قال الليث، إن الخطبة مصدر الخطيب، لا يجوز إلا على وجه واحد، وهو أن الخطبة اسم للكلام، الذي يتكلم به الخطيب، فيوضع موضع المصدر.”[6]
- وفي (المصباح المنير) للفيومي ” والخطابية طائفة من الروافض نسبة إلى أبي الخطاب محمد بن وهب الأسدي الأجدع وكانوا يدينون بشهادة الزور لموافقيهم في العقيدة إذا حلف على صدق دعواه.”[7]
- وفي (القاموس المحيط) للفيروزآبادى ” ورجل خطيب: حسن الخطبة، بالضم، وإليه نسب أبو القاسم عبد الله بن محمد الخطيبي شيخ لابن الجوزي، وأبو حنيفة محمد بن عبد الله بن محمد الخطيبي المحدث.
وفصل الخطاب: الحكم بالبينة، أو اليمين، أو الفقه في القضاء، أو النطق بأما بعد.”[8]
من مجموع هذه النقول يتضح أن هناك جملة من المواد اللغوية هي المظان لاشتقاق لفظ “الخطاب”، وهي على النحو الآتي:
- الخطب: الأمر والشأن العظيم الذي يكثر فيه التخاطب.
- الخطبة بالكسر: من النكاح
- الخطبة بالضم: اسم للكلام الذي يتكلم به الخطيب
- الأخطب: لون يميل إلى كدرة أشربت حمرة في صفرة.
- الخطاب والتخاطب والمخاطبة: مراجعة الكلام
- فصل الخطاب: الحكم بالبينة.
ومفهوم الخطاب والمخاطبة في لغة العرب يدور على مراجعة الكلام، وتوجيهه إلى الأنام بقصد الإفهام، فكل كلام لا يراد به الإعلام والإفهام لا يعتبر خطابا في لسان العرب. وقد يطلق الخطاب ويراد به مضمون الكلام ومحتواه، وقد يطلق ويراد به الطريقة التي يؤدى بها الكلام، ولهذا سمي الكلام المنثور المسجوع خطبة.
وقد ورد ذكر لفظ ” الخطاب ” في آيات عديدة من الكتاب المبين بهذه الاشتقاقات منها ما يلي:
- ﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَاعَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾[9]“الخطبة (بكسر الخاء): فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول. يقال: خطبها يخطبها خطبا وخطبة. ورجل خطاب كثير التصرف في الخطبة.”[10]
- ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ﴾[11]أي”قال: ما أمرك؟ ما شأنك؟ ما هذا الذي أدخلك فيما دخلت فيه.”[12]
- ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾[13]أي “فما شأنكم أيها المرسلون.”[14]
- ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾[15]،أي ” لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه. وقال الكسائي: لا يملكون منه خطابا بالشفاعة إلا بإذنه. وقيل: الخطاب: الكلام، أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه، دليله: ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[16]. وقيل: أراد الكفار لا يملكون منه خطابا، فأما المؤمنون فيشفعون.”[17]
- ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾[18]” قال أبو عبد الرحمن السلمي وقتادة: يعني الفصل في القضاء. وهو قول ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس: بيان الكلام. علي بن أبي طالب: هو البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقاله شريح والشعبي وقتادة أيضا. وقال أبو موسى الأشعري والشعبي أيضا: هو قوله أما بعد، وهو أول من تكلم بها. وقيل:” فصل الخطاب” البيان الفاصل بين الحق والباطل. وقيل: هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وقول علي رضي الله عنه يجمعه، لأن مدار الحكم عليه في القضاء ما عدا قول أبي موسى.”[19]
ففصل الخطاب هو فرقان ما بين الحق والباطل والصواب والخطأ، وهو بحسب سياق الآية الكريمة قد اقترن بالحكمة، فيه يتبين الحق على الوجه الذي ينبغي.
- ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾[20]،” وقرأ عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير:” وعازني في الخطاب” أي غالبني، من المعازة وهي المغالبة، عازه أي غالبه. قال ابن العربي: واختلف في سبب الغلبة، فقيل: معناه غلبني ببيانه. وقيل: غلبني بسلطانه.”[21]
الخطاب في الاصطلاح
ورد استخدام “الخطاب”في فهم النص الشرعي وتفسيره، عند الأصوليين للتعبير عما يكشف عن الحكم الشرعي. كما ورد التعبير المرادف له عند المناطقة بـ ” الدال.”[22]
وللخطاب من حيث المعنى المقصود به عند الأصوليين جذور لغوية، وذلك انطلاقا من الاستخدام القرآني كما ورد في آي القرآن.
فالخطاب من حيث الصيغة ” أحد مصدري فعل خاطب يخاطب خطابا ومخاطبة وهو يدل على توجيه الكلام لمن يفهم، نقل من الدلالة على الحدث المجرد من الزمن إلى الدلالة على الإسمية، فأصبح في عرف الأصوليين يدل على ما خوطب به وهو الكلام.”[23] وهو ما ذكره التهانوي بقوله: ” وهو بحسب أصل اللغة توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، ثم نقل إلى الكلام الموجه نحو الغير للإفهام. وقد يعبر عنه بما يقع به التخاطب.”[24]
غير أن البعض قد أغفل تعريفه، وقد يكون ذلك لبداهته عندهم، في حين عرض البعض الآخر له.
قال الجويني: ” وأما الخطاب. فالكلام، والخطاب، والتكلم، والتخاطب، والنطق، ـ واحد فيحقيقة اللغة ـ وهو ما به يصير الحي متكلما.”[25]
والإمام الجويني في تعريفه هذا ” لم يتجاوز في كلامه تصنيف الخطاب، وتثبيت مفهومه بجانب المفاهيم الأخرى المقاربة له.”[26]
وقال ابن قدامة: ” والخطاب في الأصل: توجيه الكلام للغير ليفهمه، ويطلق -أيضا- على الكلام الموجه نفسه. والمراد به هنا: كلام الله تعالى، فهو المشرع وحده دون غيره.”[27]
ونقل الآمدي تعريفا فقال ” وقيل: هو الكلام الذي يفهم المستمع منه شيئا.”[28]
واعترض عليه بقوله ” وهو غير مانع، فإنه يدخل فيه الكلام الذي لم يقصد المتكلم به إفهام المستمع، فإنه على ما ذكر من الحد وليس خطابا.”[29]
ثم أورد تعريفا بيناللخطاب، بعد أن وعى بأن التعريف هو المنطلق لمعرفة الأحكام الشرعية إذ يقول “والواجب أن نعرف معنى الخطاب أولا ضرورة توقف معرفة الحكم الشرعي عليه.”[30]
فقال “والحق أنه اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه”[31]شارحا قيود التعريف كالآتي: “(فاللفظ) احتراز عما وقعت المواضعة عليه من الحركات والإشارات المفهمة.
و(المتواضع عليه) احتراز عن الألفاظ المهملة.
و(المقصود بها الإفهام) احتراز عما ورد على الحد الأول.
وقولنا: (لمن هو متهيئ لفهمه) احتراز عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم والمغمى عليه ونحوه.”[32]
فالخطاب إما”الكلام اللفظي أو الكلام النفسي الموجه به نحو الغير للإفهام. والمتبادر من عبارة الإحكام الكلام اللفظي، والمراد بالخطاب في تفسير الحكم هو الكلام النفسي كما سبق.”[33]
والخطاب يتألف من أركان أربع: المخاطب، والمخاطب، أدوات الخطاب ووسائله، ومضمون الخطاب.
وهذه الأركان تجعل الخطاب مفهوما للمتلقي، وإن تحقق فهم الكلام خارج تلك الأركان فسوف يكون فهما غير متماسك من ناحية الخطاب. يقول الشاطبي شارحا لوازم فهم كلام العرب: ” إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطب، أو المخاطب أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك.”[34]
وعلماء الأصول ينظرون إلى الخطاب من ثلاث زوايا:
- زاوية الوضع
- زاوية الاستعمال
- زاوية الحمل.[35]
غير أن الأصوليين، ذوي الاتجاه الكلامي ينظرون إلى الخطاب من ناحية الحمل فقط باعتبار أن ” الوضع أمر راجح إلى الواضع والاستعمال من صفات المتكلم والحمل من صفات السامع.”[36]
أمافي الأدبيات الحديثة، فالخطاب يطلق إجمالا على ” أحد مفهومين، يتفق في أحدهما مع ما ورد قديما عند العرب، أما في المفهوم الآخر، فيتسم بجدته في الدرس اللغوي الحديث.
وهذان المفهومان هما:
- الأول: أنه ذلك الملفوظ الموجه إلى الغير، بإفهامه قصدا معينا.
- الآخر: الشكل اللغوي الذي يتجاوز الجملة.”[37]
مقتطف من كتاب:
”التأويل في الخطاب الأصولي وأثره في الفقه الحضاري للأمة”
رابط تحميل الكتاب: